قراءة الكاتبة  نجلاء أبو جهجه لنصّ “سلمى في يد منصور” من رواية “حدثَ في أيام الجوع” للدكتور جميل الدويهي

 

 

1- النصّ: سلمى في يد منصور

سلمى لم تتغيّر، فقد كانت منذ صغرها كئيبة، وجسدها نحيل، وكانت دائماً عرضة للمرض. وبعدما باعتْها والدتها إلى منصور، تحوّلت حياتها من جحيم إلى جحيم أكثر لهيباً وعذاباً. ولم تشأ أن تبوح بمكنوناتها لأخيها، خوفاً على قلبه الصغير… لقد كانت سلمى أشبه بسلعة… تجارة رابحة لأمّها، وما أقبحها من تجارة زهيدة! ومنصور نفسه مقامر عتيق، والمقامرة هي أيضاً نوع من التجارة، قد يربح فيها المرء أو يخسر…

كلّ هذه المشاعر كانت حريقاً في قلب الفتاة، ويكاد الدخان الذي يخرج من عينيها، يغطّي كلّ شيء من حولها، ويصيب نزلاء السجن كلّهم بالمرض والزكام. ومتى كانت المرأة في عصر الاستبداد كريمة وحرّة في مجتمعها؟! لقد ولدت والسلاسل في معصميها، وتموت وتدفن مع الحديد الذي يقيّدها، ويمنعها من الحركة أو الكلام؟

لو علم عبدالله بما يفعله منصور، لحطّم الجدران والأبواب الموصدة، وذهب إلى صهره، فقتله برصاصة بين عينيه… والفتاة باردة، صامتة، عاجزة عن التفكير والشرح… فكيف يفهم عبدالله ما تخفيه؟ وهل هو الفيلسوف الذي يستطيع أن يقرأ ماذا في الصمت من كلام؟…

كانت سلمى تزور والدتها مرّة في الأسبوع على الأقلّ. وزيارتها مختلفة هذه المرّة. فالابنة التي اعتادت على المظالم، وتذرّعت بالسكوت، أصبحت الآن ثائرة، كلبوءة تعرّضت لطعنة ونجت منها، لكن بخسارة كبيرة ومؤلمة جدّاً.

الأمّ في سريرها، عليلة الجسد والروح، عيناها زائغتان، تنظران إلى سقف الغرفة، كأنّهما تبحثان عن الموت، وتحاولان معرفة أين يختبئ… لا تستطيع المرأة أن تختلق ذرائع، لتمحو وصمة العار التي سبّبتها لابنتها. وهي وصمة على جبين الإنسانيّة… فقضيّة سلمى تتخطّى الواقع الضيّق إلى المجال الأوسع، وهي حكاية كلّ امرأة تتعرّض للبيع في سوق النخاسة الجديد. وماذا يبقى من المرأة إذا فقدت كرامتها، وأصبحت بضاعة معروضة؟ وهل بعض الحياة سوى موت مقنّع؟ وهل بعض الأحياء سوى جثث تمشي على الأرض، وتوهم الناس بأنّها على ما يرام؟

قالت الأمّ لابنتها، بصوت تقطعه الزفرات والسعـال: سامحيني يـا ابنتي على ما فعلته يداي… وأرجو من الله أن يسامحني أيضاً… لقد أخطأت بحقّ السماء… وروحي الآن متألّمة، وأضلعي تتفتّت واحداً تلو الآخر، وأتمنّى الرحيل في كلّ ثانية.

***

2- قراءة الأستاذة نجلاء أبو جهجه

هي جزء من رواية “حدث في أيام الجوع”، لكنّها قصة قصيرة في قلب الرواية بمعناها المتعارف عليه، بل ثمّة قضيّة هي أكبر من النصّ، وأكبر من أبطال النصّ،  بل  أكبر من جميع الأبطال، والوجوه  الكامنة في هذا العمل… فمسألة المرأة وحرّيتها تحتشد في خدمة هذا المفهوم الذي نراه في النصّ من جانب نقديّ أخلاقيّ سامٍ ونبيل ، تطوّر بعد أن كان التمييز ضدّها بديهة عند شعوب العالم قاطبة، بمعنى أنّ الجميع كان ينسجم مع القيد، وينظر إليه كسوار.

ها نحن اليوم، بناء على فطرتنا الناضجة والواعية والمتطوّرة والقانون الإنسانيّ الأمميّ في العالم،  صرنا نعرف أنّ القيد هو تصنيع وترتيب تاريخيّ، جزء منه مجتمعيّ عام، وجزء منه ذكوريّ خاصّ مرتبط مرّة بالعضل والقوّة والسيف، ومرّة بالسطوة المبنيّة على حماية الذكورة بمكتسباتها التاريخيّة، في مقابل ضعف المرأة وعدم تعليمها وعدم إدخالها سوق العمل، لذلك لا مكاسب لها، بل كانت هي الخاصرة الرخوة… فلم تكن سلمي ضحيّة المجتمع فحسب، بل كانت ضحيّة الأمّ أقرب الناس إليها، وهنا في مجتمع شرقيّ يحدّده الأديب د. جميل الدويهي.

وبطريقة مستترة غير مرئيّة، أراد الأديب الدكتور جميل الدويهي أن يقول أيضاً إنّ الأم ضحيّة مجتمعها الذكوريّ الذي يسلّع المرأة، بمعنى  المتاجرة بها، فالأمّ تعلّمت من أهلها وأجدادها أنّ لا رأي للفتاة، وهي في الدرجة الدنيا في الحياة، لذلك باعت أمّ عبدالله ابنتها إلى منصور ، والأمّ عادة تكون رحيمة بأولادها، لكنّها هنا أمّ على غير عادتها… لا تعرف الرأفة بابنتها، فباعتها رخيصة وزادت من بؤسها، وحطّمت قلبها الصغير… ولا يخفّف من فعلتها النكراء أنّها حدثت في أيّام الجوع، وبضغط معيشيّ فادح.

لقد خرجت سلمي  من سجن منزلها الصغير، لتقع في سجن منصور ، ولن تخرج منه إلاّ والسلاسل في يديها، وتُدفن مع الحديد. هنا طرحت الرواية لنا جانباً مظلماً من  الحياة الزوجيّة، وما تعانيه النساء من تعنيف على  أيدي أزواجهنّ.

كانت سلمى تتالّم، وشقيقها عبدالله الحامي لها، كما يريده المجتمع… لم يعرف ذلك وإلاّ فقأ عيني صهره برصاصة. وهذه الحميّة عند الأخ لم يرسمها لنفسه، بل رسمتها تربيته وقوانين مجتمعه الذكوريّ.

قضايا كثيرة نجدها في مثل هذه الحادثة… وعندما نستغرق في قراءة الرواية، نلاحظ أيضاً فكرة التفكّك الأسريّ، حيث ضمن البيت الواحد قد يكون هناك أحد في السجن (عبدالله)، والآخر ضحيّة الفقر (الأب)، والثالث فريسة الواقع السياسيّ والاجتماعيّ (أم عبدالله)، والرابع  يرزح تحت نير العبوديّة والمتاجرة (سلمى)…

ففي الخلاصة، يأخذ الدويهي بيدنا إلى نهاية ترضى القارئ، الا وهي ندم الأمّ  الظالمة التي تاجرت بابنتها، وكأنّ يد الله فوق الجميع، فها هي المرأة تتأسّف على ما اقترفته يداها، ساعة لم ينفع الندم. وفي آخر القصّة تنتقم سلمى لنفسها بأن تقتل منصور خنقاًن دفاعاً عن نفسها وعن شرفها.

وفي نظرة شاملة للمعني بشكل عامّ، نجد أنّ في القصّة ما يحاكي  حالة الوعظ الحكيم… ومن أين تأتي الحكمة، أو كيف تصدر من  دون علوم وخبرات محايدة وناضجة، قد يصل إليها الفرد، وخصوصاً الكاتب الذي يسيّر الحدث إلى النتائج التي يتوخّاها؟…

لذلك يضعنا هذا النصّ رغم صغر حجمه، في دائرة شاملة للحياة الأسريّة… كما أنّه، في جوانب أخرى، يحمل أبعاداَ اجتماعيّة وسيكولوجيّة وإنسانيّة راقية لا متناهية، وقد شعرتُ أمام هذا النصّ بأنّه مفتوح، يبدأ بثلاث نقاط ويُختتم بثلاث نقاط… أي يترك الأديب للمتلقّي مساحة كبيرة، ليفكّر ويقتنع، ويشارك في الصياغة والإمتاع.

***

*نجلاء أبو جهجه: من كتاب الجلسة الحواريّة حول رواية الأديب جميل الدويهي ” حدث في أيّام الجوع” – مشروع الأديب د. جميل الدويهي للأدب الراقي – سيدني النهضة الاغترابية الثانية – تعدد الأنواع.

اترك رد