سليمان بختي
ذات مرحلة في الثمانينات ومنتصف التسعينات كان احسان المنذر الملحن والعازف والموزع والمايسترو حاضرا في المواقع الاساسية المنتجة للموسيقى في البلد. كان قائدا للفرقة الموسيقية في البرنامج التلفزيوني الشهير “ستوديو الفن” 1982 وحاضنا وموجها للمواهب الشابة. وترأس الدائرة الموسيقية في الإذاعة اللبنانية بدعم من توفيق الباشا، وكان حاضرا بإنتاجه الموسيقي كملحن وموزع يمتلك حساسية خاصة للمودرن كلاسيك ومزج الشرقي والغربي بأناقة وانسجام.
المايسترو والملحن والموزع الموسيقي إحسان المنذرالذي غيّبه الموت صباح الأربعاء 3 آب 2022 عن عمر يناهز الـ 75 عاما، بعد صراع مع المرض، ولد في بيروت ( اصل العائلة من شمسطار البقاع).
درس في المدرسة العباسية في برج البراجنة.
كان في السابعة من عمره حين سمع عازف ناي يمر تحت شرفة منزله ليلفت نظر فتاة في الحي يحبها.
سأله عن الآلة التي يعزف عليها فأخبره العازف العاشق انه صنع نايا بقصبة يابسة واحدث فيها ثقوبا واحرقها بشيش نار ونفخ فيها واعطت أنغاماً. حاول احسان ان يفعل مثله فجاء بقصبة وراح يحرقها بشيش نار فضبطته والدته وشرح لها انه يخترع آلة ناي.
تولع احسان بالرسم لفترة بتأثير من والده ولكن ظلت الموسيقى تناديه و تجذبه.
بعد سنوات قليلة نجح شقيقه في السرتفيكا. فاهداه والده اكورديون فلم يهتم له الشقيق الأكبر كثيرا وكان من نصيب احسان يتمرن على نفسه ويعزف عليه. زارهم في البيت صديق لأبيه بلجيكي ولما سمعه يعزف “عزيزة” لعبد الوهاب أعجب ونصح الوالد بضرورة ادخاله الى معهد للموسيقى. وهكذا كان، دخل احسان عام 1959 الى الكونسرفتوار الوطني القسم العربي دارسا للبيانو والنظريات على يد سلفادور عرنيطه (ومن زملائه وليد حوراني). ودرس ايضا على يد الأستاذ دال. كما أخذ دروسا خاصة على يد الأستاذ الروسي تشيسكينوف في بيته في رأس بيروت وهو أيضا أستاذ زياد الرحباني.
سافر الى القاهرة لنيل الشهادة التوجيهية والتحق بجامعة عين شمس لدراسة العلوم النفسية والاجتماعية. لكنه بعد سنة استصعب الدروس والتحق بـ “كونسرفتوار الأهرام” متابعا دراساته الموسيقية.
عاد عام 1967 الى بيروت والتحق بكلية الحقوق في الجامعة اللبنانية لدراسة السياسية والاقتصاد. بعد سنتين انسحب من الجامعة مدركا ان نداءه الداخلي هو الموسيقى فسافر الى ايطاليا عام 1970 ودرس التأليف الموسيقي في معاهد خاصة في جنوى و ميلانو. تزوج من سيدة إيطالية وله منها ماريا واحمد وسارة، وأخذ يعزف البيانو ويغني في ست لغات في الفنادق والحفلات. كما عمل مترجما في القنصلية اللبنانية في ميلانو.
عام 1979 عاد الى بيروت وصار يعزف ويغني في فندق كومودور رأس بيروت (وان مان شو) وذات مساء حضر المخرج سيمون أسمر ومعه روميو لحود لمشاهدته وكان يهيئ لبرنامجه “ستوديو الفن” 1980 واتفق معه على قيادة أوركسترا البرنامج.
عام 1985 ترأس الدائرة الموسيقية في الإذاعة اللبنانية بتفاهم ودعم من الموسيقار توفيق الباشا.
في مطلع الثمانينات طلب اليه الملحن نور الملاح ان يوزع له لحنين لماجدة الرومي هما “خذني حبيبي” و” عم يسألوني عليك الناس”. وكان التوزيع متقنا ولافتا. سألته المطربة ماجدة الرومي”مع هذا التوزيع الجميل المتقن ألا تلحن؟” فابتسم ولتبدأ رحلته مع التلحين لها بأغنيتين هما “يا نبع المحبة” و”ما حدا بيعبي” (لحنها بليلة واحدة) (كلمات مارون كرم). وكان اللحن أعطي قبله لفليمون وهبي ولكن لم يسجل. وتبع ذلك اسطوانة للأطفال في خمس أغنيات ومنها :” طيري يا عصفورة” (شعر جوزف أبي ضاهر) انتقل لحنها الى إيطاليا وشاعت في المدارس وفازت بالجائزة الأولى في مسابقة بولونيا 1989 و”عندي بيسي” وغيرها.
عام 1990 كان لحنه الأروع والأحب الى قلبه وإحساسه “كلمات” لماجدة الرومي وشعر نزار قباني وقطفت نجاحا. وكانت أول قصيدة تغنى لنزار قباني بعد “قارئة الفنجان “لعبد الحليم حافظ. اتصل به بليغ حمدي مهنئا للحن الجميل والمتكامل.كما وزع لبليغ حمدي واحدة من أجمل ألحانه وهي أغنية “كان يا ما كان” لميادة الحناوي وسجلت في استديو نبيل غزاوي في بيروت. قال عنه حلمي بكر:” رائد من رواد القمة”.
ولحن أيضا لماجدة “وداع” و”يا ساكن أفكاري”.
كانت له تجربة مع راغب علامة في بداياته مع ألحان مثل : “رح طير حمام” و” عن جد” و”بكرا بيبرم دولابي” و” ولو شباكك ع شباكي” و”الكتب العتيقة ” يا لومي”. تجربة صنعت صورة مختلفة لفنان يحاول امتلاك لون غنائي خاص به.
عاصر احسان منذر اجيالاً متعددة فقد تأثر بمحمد عبد الوهاب والأخوين رحباني والسنباطي وإلياس رحباني. ويعتبر أن فيروز وصباح ووديع الصافي من الكبار. ويستعيد دائما حلمًا تحقق في حياته وهو مرافقته لفيروز كعازف على البيانو في حفلات لها في استراليا واميركا ومصر. ورافق صباح في حفلات في اميركا وإفريقيا ولحن لها ايضا ثلاث اغاني: “اتهموني” و” بدك ياني ابكي” و”حاكم فينا”.
يهمه من الألحان ان يطلع منها شيء جديد وجميل. واحب مقام الى قلبه هو “النهاوند” لأنه شرقي وغربي. ودائما للبيانو حضور مميز في ألحانه.
له العديد من المقطوعات الموسيقية والتصويرية والبومات مثل “ازميرالدا” و”بين الشرق والغرب” و”السهل الأخضر”.
ووضع موسيقى تصويرية لفيلمي “الانفجار” و”المخطوف” واوبريت “وصية حب” (ديانا حداد ووائل كفوري).
ووزع موسيقى مسرحية “ايليا النبي” (لأنطون جبارة),
لحن لجوليا بطرس “وقف يازمان” ولوداد “عم بحلم بمدينة” ولوليد توفيق ولسميرة سعيد (مستعدة) وأنوشكا ونجوى كرم وباسكال مشعلاني “كلو منك” وميشلين خليفة ومعين شريف ولنزيه المغربي ” عيونك شفتا”. ولحن أغنية جميلة “اشتقت لعذابك” غناها غالب عنتر وينبع حزنها من حادثة فقدانه لولده. وأعاد توزيع اغاني باسكال صقر الوطنية.
عام 1992 انشأ ستوديو خاصًا به وجهزه بتقنيات حديثة وراح يسجل فيه اعماله واعمال غيره.
نال جوائز عدة منها الجائزة الأولى في تونس 1994 في مهرجان الميكروفون الذهبي على أغنية “لا أريد إعتذارا” بصوت سمية بعلبكي (كلمات الشاعر انور سلمان) مع جائزة للقصيدة. والجائزة الثالثة 1996 في مهرجان القاهرة على اغنية “نهر الايام” بصوت لور عبس كلمات الشاعر ايليا ابو شديد.
حاز عام 2006 على تكريم دار الأوبرا في الإسكندرية من جمعية فنانين الإسكندرية وكذلك كرمته دار الأوبرا المصرية. وكرمه الكونسرفتوار الوطني في أمسية من ألحانه من اعداد المايسترو أندريه الحاج. كرمه الرئيس ميشال سليمان بدرع تكريمي في لقاء في القصر الجمهوري.
شارك في برامج تلفزيونية مثل “دندنة” 2005 و 2006 وكذلك برنامج “بيانو بيانو” و”نغمات على البال”.
اعطى لسمية بعلبكي “قطتي الشامية” لنزار قباني ولحن لرباب عطالله “انا كل ساعة ويوم”. وحققت ستة ملايين مشاهدة.
كان ثمة مشروع ترانيم مسيحية عالمية بالعربية والإنكليزية والإيطالية.
عمل بهمة وشغف حتى الرمق الأخير وحين لا يلحن كان يوزع.
لا يخاف من الألحان بل من اللحن الواحد.
ولا يخاف من الألحان المتنوعة الأصلية بل يخاف من الألحان التجارية الرائجة المتهافتة.
حلم احسان منذر بمعزوفاته ان تصبح يوما ما لوحات تصويرية، وخاف من التقليد ان يقتل يومًا ما جذوة الإبداع والتجدّد.