يدهشني الأدب الرفيع، وأحبّ الكتابة. وبينهما فرق كبير. ومن يقرأ لجبران ونعيمة وتولستوي وغوته وراسين وهيغو وإبسن، يعرف قيمة الأدب ومعناه، ويحرص أن يرتفع بأدبه إلى سماء، ولو منخفضة، لعلّه يلحق بالنسور.
الكتابة جميلة، ولو كانت غرافيتي. ونباركها، ونقرأها، ولكن… علينا أن نفرّق بينها وبين الأدب. وكثيراً ما نقرأ نصوصاً ابتدائيّة يتباهى أصحابها، ويظنّون أنّهم حقّقوا منجزاً. وهذا أمر طبيعيّ لأنّ الإنسان يفرح بما يفعله، وينظر بدهشة إليه، في أصدق تعبير عن تقديره لتعبه على الأقلّ. وقد ساهمت المنتديات المفتوحة، والمجلاّت، والجرائد التي تريد أن تملأ فراغاً كيفما كان، في موجة من الأدب الضعيف، فغصّت الصفحات بكتابة ليست من الإبداع، ولو حذفناها لما بقي شيء من تلك الصفحات إلاّ صورة صاحبها.
عندما أطلق جبران ونعيمة وأبو ماضي ورفاق آخرون الرابطة القلميّة في أميركا الشمالية، وضعوا دستوراً لها، وهو ينصّ على ما يلي:
“ليس كل ما سُطّر بمداد على قرطاس أدباً، ولا كل من حرّر مقالاً أو نظم قصيدة موزونة بالأديب. فالأدب الذي نعتبره هو الأدب الذي يستمد غذاءه من تربة الحياة ونورها وهوائها. والأديب الذي نكرمه هو الذي خُصّ برقة الحس، ودقة الفكر وبُعد النظر، في تموّجات الحياة وتقلّباتها، وبمقدوره البيان عما تحدثه الحياة في نفسه من تأثير.”
نعتذر إذا كنّا نكرّر مثل هذا الكلام في أيّامنا الحاضرة، من باب النقد الأدبيّ أوّلاً، ومن باب الحرص على النوعيّة ثانياً. كما احتراماً للذين يتعبون ويضحّون ويجتهدون لتقديم وليمة مقدّسة، اسمها الخلق الجميل.
من الصعب جدّاً أن يكون المرء أديباً، ومن السهل جدّاً أن يكون كاتباً، بين عشرات الملايين من الكتّاب العرب في عصرنا هذا. وحذار من الوقوع في فخّ المغريات التي توفّرها وسائل إعلام ، تجد في أيّ نصّ مادّة لتغطية الصفحات الفارغة، فتلك قد تجعل الإنسان مغروراً، وتدخل في ذهنه أنّه أديب فعلاً ويستحقّ أن يُنشر له.
على الإنسان المبدع أن يفكّر دائماً في الإضافة التي قدّمها، وليس في التعبير فقط. فكلّ إنسان، حتّى الذي لا يعرف القراءة والكتابة يعبّر عن مشاعره، وإذا كان الكاتب يعبّر فقط عن مشاعر الحبّ والوطن والقضيّة التي يؤمن بها، فإنّه لا يبدع. والمتلقّي يستطيع أن يستمع إلى أغنية حبّ بصوت فيروز أو فريد الأطرش أو أم كلثوم، بدلاً من إتعاب عينيه في قصيدة تحمل المعنى نفسه ولا تبتكر. كما أنّ قارئ النثر قد يفضّل نشرة الأخبار على نصّ لا يزيد عنها جمالاً.
وإنّني أنصح مَن يسعون إلى أن يكونوا أدباء أن يقرأوا كتباً مهمّة لأدباء كبار، فيقيسوا ما كتبوه على قياسها. وبعد ذلك يحكمون بأنفسهم عمّا إذا كان الذي كتبوه أدباً أم كتابة. كما أنصح من يقودون مدارس أدبيّة ومؤسّسات وجماعات، أن يكونوا قدوة في القيادة الأدبيّة الرفيعة، ويسألوا أنفسهم عن الوزنات التي وضعوها في ميزان العطاء.
القراءة لأدب الكبار ليست عيباً ولا تنازلاً، بل هي محفّز للمضي إلى الأمام. وبين الكتابة والأدب قيد شعرة، يمكن قطعها، بعد اكتشاف الذات، والوصول إلى الحقيقة التي نفتقر إليها، وقد نراها على غير ما هي عليه.
***
*جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي 2022.