عبد المجيد زراقط
“حبيبتي مريم”، لهدى عيد، رواية صدرت مؤخراً، في طبعة أولى، عن دار الفارابي.
تُصدَّر الرواية بمقتطفٍ من شعر أدونيس يفيد أنَّ أمارات “الضحية”على وجهه، ويسأل: “وماهذا الأفول”، ويتعجب: “ماأمرَّ اللغة الاَن، وما أضيق الأبجدية!”. واذ نقرأ الاهداء، وهو: “الى شهداء مرفأ بيروتنا، الى كل شهداء الأوطان …”، يتبيَّن لنا أنَّ “بيروتنا” ووطننا الذي هي عاصمته وشهداءهما هم “الضحية”، وأن زمنهما هو زمن الأفول .
في الفضاء الذي تشكله عتبتا هذه الرواية، والناطق بالدلالة التي تبيّنَّاها نقرأ هذه الرواية، ونتبيَّن بنيتها الروائية وما تنطق به من دلالة .
تتألَّف هذه الرواية من أربعة أقسام يبدأ كلٌّ منها بتصدير، ويتألف كلُّ قسم من مقاطع مُعنونة، ومرقَّمة، والملاحظ أنَّ الترقيم ليس خاصاً بكلِّ قسم، وانما يشمل مقاطع الرواية جميعها، مايعني أن التقسيم الى أربعة أقسام يعود الى أنَّ كلَّ قسم خاص براوٍ من الرواة الأربعة الذين يروون الرواية.
يروي القسم الأول “حكيم بن غريب جوَّال ووحيد مريم”. يبدأ هذا القسم بتصدير مقتطف من مجموعة شوقي بزيع الشعرية “مرثية الغبار”، وهو: “…، ورأيتني أعدو / وراء حفيفها النائي / وضحكتها السراب “. لاتخفى دلالة هذا التصدير على الفقد ورثائه و غبار / سراب السعي عَدْواً الى تحقيق انجاز. حكيم موظف في شركة في لندن، يحيا وحيداً صقيع مدينة البرد والضباب، منذ خمسة أعوام، أربعة منها دراسية، وعام عمل . يبدأ حكيم القصَّ، وهو في المترو، العائد به الى شقته الصغيرة، بالتحدُّث عن رغبة مستجدَّة لديه تتمثل في تأمُّل أحذية من يلتقيهم، لاعتقاده بأن الحذاء يدلُّ على هوية منتعله، ويصادف أن تجلس قبالته فتاة جميلة، تستهويه، فتستدرجه الى ملهى، وتسرق ماتحتويه جيوبه، بعد أن تسقيه شراباً منوماً، وتضربه على رأسه .
في هذه الحال الدالَّة على الغربة والوحدة، وبؤس الحياة المعيشة، يأتيه اتصال من أخته جودي التي فقدت زوجها في انفجار مرفأ بيروت، أنَّ أباه يريد فتح قبر أحبِّ الناس اليه، أمُّه التي دفنها بيديه منذ مدة قصيرة . لماذا يريد أبوه فتح القبر؟ هل من ظنٍّ بخيانة؟ يعطي حكيم الاجابة عن هذين السؤالين لأبيه . وهكذا تتشكل عقدة ” الحبكة “، والتشويق منذ بدء الرواية.
يروي القسم الثاني “غريب جوال، حبيب مريم، ووالد حكيم وجودي”. يبدأ هذا القسم بتصدير بقولٍ ل ” فلاديمير بارتول” هو: ” أين يبدأ الوهم في الحياة، وأين تنتهي الحقيقة ؟ إنه أمر يصعب قوله”. يزيد هذا التصدير “العقدة تعقيداً”؛ اذ انه يفيد أنَّ التمييز بين الوهم والحقيقة صعب، فما هو الأمر الذي يثير هذه المشكلة؟
غريب أستاذ تاريخ، ومعلم أجيال قدير، ورجل وسيم، ومثقف معني بهموم وطنه، يُعجب به طلابه وطالباته، ومنهن مريم، التي أحبها وأحبته، وتزوَّجا، وعاشا في سعادة، وأنجبا ابناً وابنة بذلا كل ما يملكانه من جهد ومال في سبيل تربيتهما وتعليمهما. حكيم بقي في لندن، بعد أن أتمَّ تعليمه، كما مرَّ بنا، لأنَّه لم يجد عملاً في لبنان، وجودي المسلمة تتزوج من دانيال المسيحي، من دون أي معوقات، وبدا أن الدنيا تضحك للأسرة المثال في الوطن الجميل، لكن “مافيات” هذا الوطن توصله الى “الجحيم”، ويُستشهد دانيال في انفجار المرفأ، فيخيم الحزن في بيت الأسرة وقلوب أبنائها، ثم تموت مريم في حادث، ويتكثف الحزن، ويهمس الطبيب الذي عاين جثة مريم في أذن غريب أنَّ زوجته ماتت سعيدة، لأنه ضاجعها قبل موتها بربع ساعة، ولما كان غريب لم يفعل ذلك تنبت أشواك الشك في كيانه، ويسأل: هل خانته؟ يريد أن يعرف، فيقرر أن يفتح القبر . يُستدعى الى التحقيق، ويتهم بقتل زوجته، ويتهم بالاستهتار في عمله، ويُحال الى المجلس التأديبي، وتصدم سيارةسيدة جميلة سيارته، ويعرف أنَّ هذا حدث قصداً، بغية الاتصال بزوجها، الثري النافذ، وأحد رجال “المافيات”، واذ يتصل به، يجد الطبيب في منزله، فينصحه الطبيب والرجل الثري بعدم فتح القبر، فتعظم لديه الشكوك، ويفتح حاسوب زوجته، لعله يصل الى اجابات عن أسئلته المؤرقة، وهنا يترك لما سجلته زوجته أن يروي . وهكذا يزداد التعقيد والتشويق، فماذا تقول مريم؟
تروي مريم، ” حبيبة غريب، وأم حكيم جودي” ، من طريق تسجيلاتها على الحاسوب جزءاً من القسم الثالث . يبدأ هذا القسم بتصدير هو قول لأنطون تشيخوف “… قناعتي المتأصّلة المبنية على البديهية والحقائق، لاتتبدَّل قطعاً”. يفيد هذا التصدير أنَّ مريم تريد أن تمتلك هذا الاقتناع الذي ذكره الأديب الروسي الشهير، وفي سبيل ذلك وهي الصحفية التي تعمل في القسم السياسي والاقتصادي، في احدى جرائد الوطن، تجري تحقيقات صحفية، مستندة الى وثائق، عن “المافيات” التي أوصلت الوطن الى هذا الجحيم الذي يعيشه، وتطلب في أربعة منها مقابلة “معاليه أو سعادته أو …”، وهذه الألقاب دالة على أفراد “الطبقة السياسية” الحاكمة ، فيستدعيها هذا، ويُجرى حديث بينه وبينها، يثير استياءه، ثم يأتيها تهديد، ولا تلبث أن تموت في حادثة .
عندما يعرف غريب ماحدث بين زوجته وبين “معاليه أو سعادته… “، يزداد حزنه وغضبه…. ويثار هنا سؤال: لماذا أخبر الطبيب الزوج بذلك الخبر المثير للشك بخيانة زوجته؟ هل كان يريد تشويه سمعتها؟ هل يريد النيل من كرامة الزوج والأسرة؟ تثور ثائرة الزوج ويصرُّ على فتح القبر… . ويطلب من ابنته جودي أن تكمل الرواية .
تروي القسم الرابع “جودي ابنة غريب جوال، وحبيبتي … مريم”. يصدَّر هذا القسم بقول للأديب الروسي نيقولاي غوغول، وهو:” ان العقل الذي يمكن أن يكتشف مصدراً غير مُتوقع، للتأثيرات العظيمة، نائم الاَن”. يفيد هذا التصدير أنَّ الفقد تحكَّم بجودي وتصرفاتها، فوالدها يريد لها أن تتحدث، لكنها فقدت شهية النطق، بعد أن صار حبيبها وشماً في داخلها . لكنها تتماسك، وتروي وقائع فجيعتها، ثم تروي حادثة فتح القبر التي تكشَّفت عن مفاجأة مذهلة تتمثل في اختفاء الجثة . المفاجأة هذه أقعدت والدها في المستشفى مدة طويلة. ثم وبعد تماثله للشفاء يمضي الجميع اجازة في لندن؛ ويقول غريب لابنه الذي فكر في مقاضاة “المافيا” “ومعاليه أوسعادته أو… “: ” ههنا أرض الغيلان التي يختفي فيها كلُّ حق. اذهب الى تلك البلاد، وابتعد عن هذ المستنقع . أرجوك . كفانا خسارات…” ( ص. ٢١٨ ). يعمل حكيم بنصيحة والده، ويقرر أن يبقى في لندن، وأن يتزوج من حبيبته الانكليزية – الهندية .
يفيد هذا العرض أن بنية هذه الرواية خطية، تمضي في مسار خطي في الحاضر، ومتكسرة بالعودة الى الماضي البعيد والقريب، على مستوى السياق العام للرواية، وعلى مستوى الفصول والمقاطع، ومتقطعة بوصف الأمكنة الدال، كما في وصف مكان اللقاء مع معاليه: المكتب، الموظف الذي جاء يسأل، اللوحات، الكلبة التي دخلت تشم وتتأمل…، ماشكل فضاء الرهبة، وتضمين أحداث، مثل الحادثة العادية التي يرويها حكيم لوالده عن تخفيض سعر السمك في بريطانيا، ومثل الأحداث التي يرويها زميل مريم لها عن حياة “المافيات” المتحكمة بالوطن، ومنها حكاية “نحس مان” الذي صار “ربحي مان”، بعد أن قتل زوجته الثرية، ولم ينم ليلة في الحبس، وبالخطاب المتمثل في التعليقات والتأمل والحوار الذاتي والحوار الثنائي .
يشكل نسيج هذه البنية المتنوع قصًّا يؤديه أربعة رواة مشاركون، يروي كل منهم مايعرفه فحسب، ومايتيح له موقعه الروائي أن يقصَّه . وهذا أمر اقتضته الحبكة الشبيهة بالحبكة البوليسية، ففي مثل هذه الحبكة ينبغي أن يوكل القص لمن يمتلك معرفة ماحدث، فكما مرَّ بنا، رأينا أن القص يبدأ من ذروة الأزمة المشوقة، ويمضي في سوق أحداث تجيب عن أسئلة وتطرح أسئلة جديدة الى أن تحدث المفاجأة .
وهذا يجعل الزمن، في هذه الرواية، زمناً متكسراً، متقطعاً، مركباً، تتمثل فيه ثنائية تضاد طرفها الأول الزمن السعيد ؛ حيث الحب هو الوطن، وطرفها الثاني الزمن الرديء ؛ حيث “المافيات” تنسج “أفول” الوطن بعقول تسيِّر أنياباً لاتكف عن النهب .
واذ حدثت المفاجأة المتمثلة بسرقة الجثة، اتُّخذ قرار الخروج من “أرض الغيلان”، بغية الحد من الخسارات / الفقد، بعد فقد الوطن بتحوله الى “أرض الغيلان “، وفقد الحياة السعيدة فيه، في فضاء الحب، وفقد حصاد العمر، والحبيب، والحبيبة، وفقد معرفة الحقيقة، وامكانية كشف “غيلان الوطن” ومحاسبتهم … .
أليس هذا كله يجعلنا نرى أنَّ هذه الرواية هي رواية الفقد المركب الذي لم يُعوَّض، والذي لاقدرة لأحد، الاَن، على تعويضه ، والذي يجعل من يعانون منه يحيون الموت في وطن جعلته “مافياته” “أرض الغيلان” التي يُنتظر أن ينهض فتيانها، من بين الأنقاض، ليعوضوا هذا الفقد المركب، ما يعني أن النهاية تبقى مفتوحة، ولعل مايدل على هذا عودة كل من غريب وجودي الى حياتهما الطبيعية، والى الوطن، وهما يحضنان الطفلة الجميلة الذكية، ابنة دانيال وجودي ، وحفيدة غريب ومريم، الواعدة بجيل جديد قد يُتاح له قلع أنياب الغيلان التي جعلت الوطن وأبناءه “الضحية” في زمن “الأفول”، وهذا ما بدأنا به حديثنا عن الفضاء الدلالي الذي يلفُّ الرواية، ويكشف أن “الفقد” كان فقد “الحبيبة” مريم و”بيروتنا” والحقيقة والوطن… وكل “حبيبة” … .