بقلم: ريدي مشو
لم يكن نمو وتوسع وتطور أي دولة أو امبراطورية في التاريخ مماثلا للـ “فيسبوك” ولا مجال للمقارنة حتى، اليوم أكثر من مليار شخص لهم صفحات على الـ “فيسبوك”. هذا الموقع الذي بدأ بوضع صورتين على الصفحة، حيث يقوم المتصفحون باختيار أي الصورتين أكثر إثارة.
كان المتصفحون بداية هم طلبة جامعة هارفرد ومن ثم انتشر إلى العديد من الجامعات الأخرى في الولايات المتحدة الأميركية وكندا. واليوم يبدو أن مارك زويكربيرغ قد نقل كل العالم إلى غرف وممرات جامعة هارفرد، أو أنه نقل هارفرد إلى جميع أزقة وبيوت العالم، موحداً بذلك ومحققاً المساواة التي عجزت الأديان والإيديولوجيات في تحقيقها، حيث أن الفقير والغني، المشهور والمغمور، السيد والخادم، المدير والموظف، الضابط والمجند كلهم سواسية في حق امتلاك صفحتهم الخاصة على الـ “فيسبوك”.
هذه المساواة برأيي كانت في المراحل الأولى من انطلاقة الـ “فيسبوك”، واليوم نجد شكلا آخر من المساواة والذي يتعدى المساواة بين الأفراد لنصل إلى مرحلة المساواة بين الشعوب بذاتها، وبشكل أكثر تعمقاً نجد أن هناك تضامناً حقيقياً بين ساكني المجتمع الفيسبوكي ونزوع واضح لتشكيل دولة الـ “فيسبوك” التي تختلف في تراتبيتها المجتمعية وقيمها الأخلاقية والسياسية عن شكل الدولة الموجود على أرض الواقع.
في دولة الـ “فيسبوك” الكل له نصيبه من الـ “لايكات”، سواء كانت الجملة عبقرية أو غبية لا يهم، أصلا في هذه الدولة ليس هناك خير وشر، غبي أو ذكي، قبيح أو جميل، الأشياء والأفراد موجودين وحسب، ولا حاجة إلى المزيد من التوصيفات، وما يميز هذه الدولة الجديدة أنه لا يوجد توصيف كثير حول الأشخاص والمواضيع ، ولا يمكن التوقف حول موضوع بعينه لفترة طويلة فالزمن الـ “فيسبوكي” غير الواقع، فلا مجال لتمضية وقت طويل حول موضوع أو شخص وإلا سيصبح المواطن الفيسبوكي خارج الدولة أو لن يراه أحد بعد ذلك وستجمد صورته كما جمد فكره حول موضوع معين لفترة طويلة.
ساكنو دولة الـ “فيسبوك” بدأوا لعبة التهديم السياسي والأخلاقي لما هو قائم، من خلال التشارك في تحديد مصير دولة أو مجتمع ما بالـ “كليك”، لايك واحد من كل فرد هو انتخاب ما لفكرة أو صورة تطرح على الصفحات وتقود الجموع الى الالتفاف حولها وفتح النقاشات وطرح الاختلافات، أنها دولة الـ فيسبوك المفتوحة، حيث كل شخص يكون فيها وزيراً وعضو برلمان!
في ثورات الربيع العربي كان لـ “الفيسبوك” دور فاعل في تهيئة المواقف والآراء حول الثورات، لا بل نظمت عملية التقاء المتظاهرين وتحديد نقطة التظاهر والاتفاق على الشعارات المطروحة، بحيث لم يكن بمقدور الاجهزة الامنية تتبع مسارات انتقال المعلومات بشكل متزامن مع تحركات مواطني هذه الدولة الخفيين. نعم بالفعل تحول الـ “فيسبوك” إلى إنسان آخر يمشي مع كل فرد يريه الطريق على بعد أميال أو أداة انتقال زمني أو حتى أداة لتغيير المكان بمجمله.
كل مواطن في دولة الـ فيسبوك يحمل مكنونات وذاكرة المواطنين الآخرين، يتتبعهم ويتتبعونه بشكل مستمر، يحسون به ويحس بهم، يقرأهم ويقرأونه أنها شكل الدولة الجديدة لا أسرار ولا عقوبات فيها، إلا لصالح الجميع، ليس هناك من فرد مستهدف، وإن استهدف فرد لن تكون العقوبة لأسباب مزاجية فردية بل سيكون قراراً جمعياً بنسبة معينة، إنها الديمقراطية.
في دولة الفيسبوك يمكنك استعادة لغتك الأم إن كانت ممنوعة، وممارسة موسيقاك أو خيالك الجامح حول أي موضوع تشاء، فقط عليك أن تكون ذكياً في تسويقك لفكرتك وستصبح حقيقة، لا أمن يطاردك ولست بحاجة الى الاختباء طويلا، فقط كن أنت.
لا دولة اليوم يمكنها أن تكبح جماح هذه الدولة الجديدة الآخذة في احتلال الأراضي، وأخذ أصوات ناخبي الدول لصالح ناخبيها. استذكر رواية خوسيه ساراماغو “الرؤية”، حينما يقرر مواطنو الدولة إلا ينتخبوا أعضاء البرلمان ويرفضون كذلك انتخاب رئيس الدولة، ويحبذون العودة إلى الشكل المشاعي في التعامل، حيث العلاقات الاقتصادية التبادلية البسيطة، بعيداً عن التداخلات الاقتصادية الدولية وسياساتها التي يبدو أنها تقود بشكل مطّرد إلى المزيد من الانتهاكات لحقوق الإنسان والمزيد من الحروب والمجاعات. نعم الـ “فيسبوك” هي هذه الدولة التي ستقود مواطني الدول إلى تغيير هويتهم وتغيير قوائم الانتخابات، كل لايك هو رفض ما لما هو موجود واتفاق جديد لما سيأتي.
*********
موقع “الاوان”