بينما أنظر إلى صفوف الناس في وطني، وهم يطلبون الرغيف ولا يجدونه في زمن الجوع، أعود إلى روايتي الرابعة “حدث في أيّام الجوع” التي أعتبرها تأريخاً لمرحلة، وأنا المقيم بعيداً عن بلادي. وفي هذه الرواية أحمل تعب المتعبين وألم المتألّمين وعذاب المقهورين، فكأنّني واحد منهم… وقد كتبت كثيراً في الرواية عن العصر ومعاناة أهلي الطيّبين، وأرجو أن يذكر أحد الدارسين ذات يوم، هذه الرحلة المفعمة بالشوك والصعاب والتضحيات، وأن يشير إلى أنّ المغترب لم يغترب عن وطنه، والبعيد لم يبتعد عن شعبه، بل هو يتقاسم معهم رغيف الألم والمعاناة…
في المقاطع الآتية من الرواية حديث عن الرغيف، وكيف يساوي الحياة:
-الخبز في هذه الأيّام نادر وشحيح. والذي يملك رغيفاً يمكنه أن يشتري به قطعة أرض، أو قطيعاً من الماشية. والذين عاشوا في تلك الفترة يخبرون أنّ بعض الناس اشتروا قصوراً بحفنة من الطحين، وبعضهم كانوا يبيعون ذهب نسائهم برغيف.
-الرغيف… هو الأعجوبة… الكنز الذي أوجده الله لكي يشبع الأفواه الفاغرة. ومن أجله تطاحنت أمم، وتقاتلت جيوش، وسقط رجال في ساحات الوغى. ولو اقتسمت البشريّة رغيفها، لما بكى أحد من العوَز، ولما تسلّحت قوى الشرّ بأسلحة الدمار.
-كاد قلب الصبيّ ينخلع في صدره، وسقط منه رغيف على التراب. رغيف بحجم كوكب. قمر مستدير يكاد يضيء، يقع من سمائه كما يقع النيزك ليتحوّل إلى غبار مندثر.
-وما هو الخبز؟ قليل من الطحين مع ماء وملح، أقلّ الأشياء ثمناً، وأغلاها في وقت الحاجة. تركيبة عجيبة من العناصر، تصنع أرواحاً… فليس غريباً أن تكون الأيدي التي تطحن القمح، وتعجن الخبز مباركة. وأيدي النساء التي تعجن في الصباحات، عليها بياض جميل، ورائحة عَرقها تختلف عن رائحة العَرق عند النساء اللواتي يعتمدن على رغيف يشتريه أزواجهنّ من السوق…
-سمعتُ عن امرأة من الأغنياء، أرادت أن تبيع بعضاً من مجوهراتها لتشتري ما يسدّ رمق أطفالها. لكنّها لم تجد أحداً يشتري منها، فعادت إلى منزلها خالية، لتجد أطفالها يبكون، فنظرت إلى الجواهر التي في يديها، وتمنّت لو أنّها كانت تراباً، فلعلّها تنبت شيئاً يفيدها ويفيد عيالها… ومَن لديه خبز أو طحين في منزله، فإنّه يخبّئهما تحت الأرض التاسعة، خشية أن يأتي اللصوص ويسرقوا أغلى ما يملكه.
-الرغيف، قالت المرأة التي جاوزت السبعين، وأخذت من الأيّام حكمة… الرغيف يشبه القمر، ولو خيّروا الجائع بين الرغيف وأن يمتلك الشمس والمجرّات، لفضّل الرغيف الذي يشبعه ويسمح له بأن ينام قرير العين.
-الرغيف له رائحة ونكهة خاصّة، تختلفان عن كلّ رائحة ونكهة. لعلّها النار التي تحتضنه، فيكون لونه أبيض، ثمّ تخرجه في دقيقة واحدة، بلون الذهب، وتخرج منه تلك الرائحة التي تغمض لها العيون. ولو وضعنا العجين تحت نور الشمس أشهراً، لما فعلت به كما تفعل النار. العجين لا يحبّ الشمس، يصفرّ لونه، يصبح مادّة لا فائدة منها. يصير مرّاً، وتأنفه الطيور… بيد أنّ شعلة من اللهب تحوّله إلى ساحر يخلّص العالم… تجعله نبيّاً يكرز في الشعوب، بل إنّ الأنبياء أنفسهم يشتهونه ويطلبونه عندما يهربون من اضطهاد، ويهيمون في البراري والقفار.
-إنسان يعمل ضدّ نفسه وأهله، ويتباهى بأنّه يسير وراء زعيم… وبينما هو
ذاهب إلى صندوق الاقتراع، ينسى كلّ ما مرّ به من شظف وخوف وتشرُّد، فلا انهيار العملة، ولا انفجار مدمّر، ولا الحاجة إلى رغيف تعني له شيئاً… فكلّ ما يعني له أن يعود زعيمه الذي نهب البلاد وخزينتها إلى كرسيّ الحكم معزّزاً مكرّماً. وعندما هاجر كثيرون إلى بلاد الغرب، للنجاة بأرواحهم، ظلّوا هم أيضاً يعزفون على الوتر نفسه، فأسّسوا أحزاباً رديفة، وطوائف ومذاهب مصغّرة على غرار تلك التي في الوطن الأمّ… هذه التبعيّة العمياء هي مصيبة المصائب، في وطن أشرق منه النور وأطلّ على العالم حروفاً، وحضارة، وفتوحات بحريّة. فما هو الشعور الذي يجتاح المرء وهو يتبع إنساناً آخر، ويشبّهه بالمسيح والأنبياء؟! وما هي المتعة التي يحصل عليها عندما يحظى بصورة مع زعيم أو حاكم أو نائب، فيعرضها على أهله وأصدقائه، ويخبّئها في خزنة مقفلة، فكأنّه يخبّئ كنوز الملك سليمان، أو ذهب قارون؟! وكيف يرضى المتألّم المصلوب بأن يجدّد العهد لمَن أوجَعوه وصلبُوه على جلجلة؟!
***
*جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي النهضة الاغترابية الثانية – تعدد الأنواع