جميل الدويهي: قراءة جديدة في قصيدة “الثعلب والعنب”

 

 

كنّا ونحن صغار نسمع من العجائز والعوامّ قصيدة على الرجز، مشغولة على طريقة قصص الحيوان، ويبدو أن شاعرها متأثّر بالفرنسي لافونتين.

العديد من الدارسين العرب نسبوا القصيدة خطأ إلى أحمد شوقي، باعتبار أن شوقي كان شغوفاُ أيضاً بقصص الحيوان في شعره، والحقيقة أنها للشاعر المصري محمد عثمان جلال، وهو شاعر عاش في القرن التاسع عشر، وكان كاتباً مسرحياً أيضاً. تقول بعض أبيات القصيدة:

حكايـة عن ثعلـبٍ …. قـد مرّ بين العِنب

ورأى العنقـودَ في …. لـونٍ كلونِ الذّهب

والجوع قد أودى به … بعد آذان المغـرب

فهـمّ يبغـي أكلـةً …. منه ولـو بالتّعـب

سعى فما أمكـنَ أنْ …. يَطلَعَ فوق الخشب

فقال هذا حُصْـرُمٌ …. رأيتـُهُ فـي حلب.

أصل القصيدة:

هي من أساطير الشاعر اليوناني إيسوب (القرن السادس قبل الميلاد) المعروفة. حيث أن الثعلب يعجز عن بلوغ العنب وهو جائع، فيقول إن العنب لم ينضج بعد، وهو حصرم، في محاولة لإقناع نفسه والآخرين أيضاً أنّه غير عاجز عن بلوغ العنب، وقد تركه بإرادته بعدما وجد أنّه غير ناضج.

وهناك نسخة من القصة كتبها اليوناني فيدروس الأثينيّ، حوالي منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، من ضمن عدة قصص في الموضوع نفسه وردت عند اليونان القدماء.

وتحدّرت من القصّة نفسها عبارة “العنب الحامض” وهي عبارة شائعة في المجتمعات الإنكليزيّة Sour grape، دلالة على شيء يريده الإنسان، فيحصل على خيبة وفشل.

وتحوّل العنب إلى نوع آخر من الفاكهة في مجتمعات أخرى، ففي القرن الثاني عشر كتب بيتر أبيلاند أنّ الثعلب يكون  ساعياً إلى الكرز، وفي اسكندنافيا شاعت القصة عن الثعلب والتوت البرّي، حيث أن تلك البلاد تفتقر إلى الكروم.

وقد وردت القصّة في أدب الأطفال شرقاً وغرباً، واخترنا من كتاب “حكايات الحيوانات” لكايتي ريشاس (ترجمة أشرف نادي أحمد) القصة كما يلي: “راح الثعلب الجائع يبحث عن طعام يتناوله حتى وصل إلى حديقة جميلة تتدلى منها عناقيد العنب الشهية ذات الألوان الذهبية. عند ذلك سال لعابه وتمنى أن يقطف هذه العناقيد الشهية ويأكلها، ولكن سور الحديقة كان مرتفعًا، فأراد أن يقفز على السور كي يقتطف العناقيد، ولكنه رأى الكثير من الطيور تقف على الأشجار وتراقب الموقف. وراح الثعلب يتمشى جيئة وذهاباً عسى أن يجد حلاً لهذه المعضلة. فكر فى أن يقفز عالياً، لكنه لا يستطيع أن يصل إلى هذا الارتفاع، وقال لنفسه: إن فشلتُ سوف تسخر منى الطيور وتضحك علي، لذلك أتته فكرة أخرى، وهى أن يصيح قائلا:ً  إن عناقيد العنب خضراء وطعمها مر وليست ناضجة. وكرر ذلك مرارًا حتى يقنع نفسه بذلك ثم ترك الحديقة بأعنابها وراح مبتعداً عنها”.

والنص المترجم من أيسوب إلى الانكليزية هو التالي:

A Fox one day spied a beautiful bunch of ripe grapes hanging from a vine trained along the branches of a tree. The grapes seemed ready to burst with juice, and the Fox’s mouth watered as he gazed longingly at them. The bunch hung from a high branch, and the Fox had to jump for it. The first time he jumped he missed it by a long way. So he walked off a short distance and took a running leap at it, only to fall short once more. Again and again he tried, but in vain. Now he sat down and looked at the grapes in disgust. “What a fool I am,” he said. “Here I am wearing myself out to get a bunch of sour grapes that are not worth gaping for.” And off he walked very, very scornfully.

 الشاعر العربي الذي كتب القصيدة بالعربية:

هو محمد عثمان يوسف جلال، شاعر ومترجم وأديب مصري من واضعي أساس القصة الحديثة والرواية المسرحية في مصر، وكان من ظرفاء عصره. ولد عام 1828 ببلدة “ونا القس” مركز الواسطي في محافظة بني سويف بمصر، وتوفي في القاهرة عام 1889. ومن خلال عمله في الترجمة نقل خرافات لافونتين إلى العربية، فتأثر بطريقة القصة على ألسنة الحيوانات، وكتب العديد منها، مثل “البخيل والدجاجة”، وطبعاً القصيدة التي بين يدينا.

القصيدة:

هي على بحر الرجز، من أسهل الأوزان العربية، وتعمّد الشاعر أن يكتبها على مجزوء الرجز أي أربع تفعيلات مستفعلن وليس ستّ تفعيلات، وهذا التجزيء يحمل قصيدة سهلة، يمكن تدوالها في أوساط الأطفال وقليلي الثقافة، وتكاد تلامس اللغة العامية. ولولا ذلك لما حفظها الناس حتى يومنا هذا من غير أن يعرفوا من هو شاعرها.

وليست هذه المرة الأولى التي تظهر فيها قصة الثعلب والعنب في الشعر، ففي عام 1687، ظهرت في شعر الانكليزي أفرا بن Aphra Behn:

The fox who longed for grapes, beholds with pain

The tempting clusters were too high to gain;

Grieved in his heart he forced a careless smile,

And cried, ‘They’re sharp and hardly worth my while.

يظهر الاختصار الشديد في هذه الرباعية، لكنها تعبر عن المقصود، وترجمتها:

كان الثعلب مشتهياً العنب، ناظراً إليه بألم

وكانت العناقيد الشهية أعلى من مناله

حزن في قلبه أجبره على ابتسامة لا مبالية

فصاح، إنها حصرم ولا تستحق محاولتي.

والشعر الثاني هو للانكليزي والتر كراين Walter Crane،نشر عام1887، والمقصود منه إن عنب الخيبة هو حامض دائماً

‘The grapes of disappointment are always sour’

الرموز:

استخدم الشاعر رمزين فقط: الثعلب والعنب. الثعلب هو من الحيوانات الضعيفة، الماكرة، السخيفة. وكما في الناس طبقات فحول، ففي الحيوانات طبقات فحول أيضاً، فالأسد والنمر من الطبقة العليا، والثعلب والضبع من طبقة أدنى، والأرنب والزرافة من طبقة أدنى، وهكذا. واختار  إيسوب الثعلب للدلالة على الإنسان الضعيف والماكر معاً، لكن مكره لا ينجيه من الضعف، لذلك يعجز، بكل الحيلة عن الوصول إلى العنب. الثعلب في موقع أدنى، والعنب أعلى رتبة، وبينهما فعل التسلق والارتفاع. وهو ممنوع على الضعفاء. بيد أن هؤلاء لا يسلّمون بالهزيمة، ويصورون للناس أن العيب ليس منهم، بل من العنب الذي هو حصرم، ضاربين بعرض الحائط الحقيقة، وهي أن العنب ليس حصرماً، فهو ناضج، لكن الماكر الذي لا يستطيع تغيير عادته وطباعه، يزوّر الحقيقة، وبدلاً من أن يلوم عجزه، يرفع المسؤولية عن نفسه، معتبراً أنه هو الذي ترفّع عن أكل العنب وليس العنب هو من امتنع عليه.

وهناك عدة عوامل نفسية وراء لوم الإنسان لغيره من جراء تقصيره وهي:

1-الرغبة في تحييد الأنظار عنه، وشرح الخيبة بطريقة ملتوية أو نسبتها إلى آخرين.

2- غريزة الدفاع عن النفس، ودحض فكرة الضعف، فنسبة العجز إلى الآخرين هي ميكانيكية جاهزة لمنع الناس من التركيز على علامات الضعف عند الشخص المقصود، والتركيز بدلاً عن ذلك على عامل آخر لا علاقة له بالمسألة كلّها.

3- احتراف التزوير: فأصحاب هذا السلوك مبدعون في تزوير الواقع، والأبشع أنهم يقنعون أنفسهم بأن التزوير هو الصحيح، وقلّما يعترفون بأن التزوير هو عمل شائن وغير صحيح.

4- التصرف بعدائية تجاه الطرف الآخر، وهو براء. فلوم الآخرين يمكن أن يقدم ذريعة للانقضاض على البريء وتهشيمه باعتباره مسؤولاً عن ذنب لم يرتكبه.

القصيدة الضاربة في القدم، هي لكل زمان ومكان، وعلى الرغم من أنها بسيطة جداً، فهي ذات مضمون إنسانيّ عام، ولا تنحصر في مجتمع دون سواه. فكم من الناس الذين يشبهون الثعلب. عاجزون عن بلوغ المراتب العليا، رافضون للمنطق والقياس الصحيح، يسعون دائماً إلى تحويل الأنظار عن الشمس المشرقة، وغناء الطيور، والنسيم العليل، ويجذبونهم إلى العتمة الحالكة، ونقيق الضفادع، والهواء الأصفر الموبوء. ولو وضعت أمام هؤلاء كل الأدلة والبراهين والإثباتات الدامغة وشهود العيان، لما اقتنعوا إلا بما يرونه هم، فعجزهم عن بلوغ العنب الذي بلون الذهب لا يعود إليهم، بل إلى العنب نفسه الذي لا يمكن إلاّ أن يكون حصرماً، رأوه في حلب.

***

 *جميل الدويهي: مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع 2022

اترك رد