عبد اللطيف بنصغير
هذا الشاعر الهرم،العقل الصلب المتين،العقل العالم الدارس الحاصل على شهادتي دوكتوراه من فرنسا،إنه عقل يصعب مجاراته ولا يسهل التعلم منه،أديب عالم،وشاعر كبير من رواد الشعر العربي الحديث،كلما وقفت أمامه أتضاءل،أحس أنني نملة أمام أقدام فيل،أشعر أنني تحولت إلى كائن مكرسكوبي،إنه فعلا أديب وعالم وشاعر من الطراز الأول،تخلد إسمه في تاريخ الفكر العربي.
أحاول في هذه الأيام القليلة الماضية أن أقترب من تجربته فأقترب وأنا خائف أن يدهسني فكره،فأغوص في تراكيبه اللغوية فأجد ني أعود إلى السطح بعد برهة مخافة أن ينتهي الأوكسجين فأبقى جثة هامدة تحت الماء،وأنا أتصفح آخر ما كتبه شربل داغر وجدت هذه القصيدة التي عنونها بدمعتي،لما قرأتها استسهلتها في أول لمحة،واستغربت لسهولة بنائها اللغوي،فأغلب قصائده أتيه بين أزقتها دون أن أجد مخرجا أو نافذة،بخلاف هذه القصيدة التي حاول فيها أن يتأوه أن يتنفس بل وأن يطلق لنفسه العنان للبكاء، لعله كان في لحظة ضعف كباقي البشر فحاول أن يشرك قراءه الذين يعشقهم تلك اللحظة ويطلق لدمعته العنان ويبكي فحاولت أن أفكك معناها وأبسطها لنفسي ولأصدقائي،وحاولت الإستمتاع بمكنوناتها هو يقول
دمعتي
تلك الدمعة
حبستُها،
تغافلتُ عنها،
هي دمعة حبسها الشاعر،كانت سجينة هو كان يتعمد حبسها سجنها،لم يكن يسمح لها بالظهور والنزول على خده،كما أنه تغافل عنها كان يستمهلها يستبطئها
استفاقتْ كما لو انها نامتْ
لسنة،
لأكثر،
ما يكفي من العُمر،
استفاقت استيقظت الدمعة بعد ذلك التنويم ذلك السبات،كما لو أنها نامت سنة أو أكثر،ما يكفي من العمر،والصورة الشعرية قوية جدا،فلنتصور تلك المعاناة ذلك الجلد الذي جعل الشاعر يحبس دمعة ربما يسعد بعد نزولها على خده هو كان صابرا لا يريد أن يظهر ضعيفا ولا حزينا لم يسمح لها بالإنطلاق والنزول وذلك لمدة سنوات لكي تنبري في مهب الانتظار، لكي تنبري في مهب الإنتظار،هي تختفي في مهب النسيان المتعمد،فالشاعر سجنها اعتقلها،هي مركونة في قاعة انتظار،ولكن هي باقية مصرة على التواجد لكي تستعيد حماوتها التي خَبَتْ…
الدمعة فقط تنتظر ولكنها تتأهب في سخونة شديدة حامية محرقة،كتلك النار التي تقترب من الإنطفاء ثم تشتعل تصبح قوية محرقة كما لو انها ساعةُ مبارزة، كما لو أنها ساعة مبارزة،صورة شعرية في منتهى الروعة فبعد السجن والإنتظار سمح للدمعة بالنزول لأنها أصبحت شديدة محرقة مشتعلة مؤلمة،وقال كما لو أنها ساعة مبارزة،فارسين سيلتقيان في توقيت معين ويتبارزا بالسيف إنه صدام قوي لحظة حاسمة
ساعةُ استحقاق،
الساعة المؤجلة
ساعة استحقاق تلك الساعة التي سيؤدي فيها ما عليه الدائن للمدين،الساعة المؤجلة،إنها لحظة حاسمة فصاحب الدين سئم من مماطلة المدين وسئم من التأجيل وجاء وقت الأداء،كفى من التأجيل
ولكن العامرة بما رسا وما احتقن في تجاعيد العمر…
ولكن المعة عامرة حبلا بما رسا،المركب في المرسا يرسوا ينتظر ساعة الإبحار،وما احتقن الدم يحتقن عندما لا يستطيع النزول،لا يجد منفذا مخرجا من الجرح فيحتقن وإذا لم يخرج ربما يتعفن،ثم هو يعطي ألما شديدا
تترقرق
من دون إمساك،
بليونةٍ، في نزولها الهين…
ثم أخيرا يتركها تنزل وهي مترقرقة لامعة بلورية ماسية تشبيه رائع،من دون إمساك أخيرا تركها تنزل أفرج عنها فنزلت أخيرا خرجت من سجنها وتركها سجانها تنزل تخرج،فنزلت بليونة دون عسر تبسط صفحة ماء، من دون أن أعوم فيه…
تبسط صفحة ماء لما نزلت كانت قوية كالمطر لما يهطل فيكون بركة ماء،هو لم يعم في صفحة الماء،لقد أنهكته السنون تبسطُها، من دون أن أقوى على الطيران،
وتبسط الدمعة تلك الصفحة كالجناحين ولكن هو لا يقوى على التحليق والطيران،لم يعد يستطيع من تعب السنين ما دام اشتدادُ العينَين ينوء بما حملَ في تغضناته المعتمة.
مادام اشتداد العينين، الشاعر يصور صورة عينين ذاقا طعم مرارة الآلام وطعم قساوة الأيام،وأصبحا ينوآن،بأحمال مصائب السنين،ثم يستعمل مصطلح تغضنات،وهو. في اللغة تجعد وتكسر،ثم عتمة يعني قلب ظلام حالك
تلك الدمعة ليست بلقيطة،
ولا تائهة،
هي دمعة ليست لقيطة هي له ملكه تخصه ولا تائهة، ولا كطفل تائه هو يعرفها وتعرفه،تعايش معها سنين طويلة تَحفر من دون أن تغور، الدمعة، تحفر أظن أنها كانت تحفر وهي سجينة في داخل الشاعر ولكن دون أن تغور يعني دون أن تختفي،بقيت متواجدة رغم سنين السجن،ولكنها حفرت،إنه ألم شديد،حفرت دون أن تختفي تَقبض من دون ان تصرف…
تقبض تزداد كثافة تتفاقم،من دون أن تصرف هي تأخذ ولا تعطي هو يمنعها من العطاء أي الظهور صورة شعرية في منتهى الروعة،إنه تفاقم دين،كمحصل ضرائب يقبض ولا يعطي إنها قباضة ضرائب مخيفة دمعتي استعارة، تأنف من اي تشبيه، من اي شبهة…
دمعتي استعارة تتمرد على التشبيه إنها انزياح.قوي شديد،ولا شبهة هي ليست مشبوهة الشاعرة لم يرتكب جرما في حق أحد فدمعته بريئة دمعة مظلوم وليس ظالم ليست خشبةً لمسرحية مفتوحة،
كما أن الدمعة ليست خشبة لمسرحية هو لم.بسمح لها بالظهور لتمثل عرضا مسرحيا فيتجمع الناس ليتفرجوا على وجعه وألمه وبكائه ولا عرضا بقليل الألوان والحركات…
ولا عرضا مسرحيا باهتا دون ألوان ولا حركات
دمعتي تستعيدني،
من دون أن أقوى على استعادتها، على إعادتها…
دمعتي تستعيدني،أخيرا وقع الإنفراج نزلت الدمعة والشاعر يستعيد نفسه،عندما نبكي نستعيد توازننا أو ربما شيئا من سعادتنا،وقد ودعها الشاعر هي نزلت لن يستطيع استرجاعها
فما إخاله لمحة منها،
أخاديدٌ غائرة لما يَلفظه العمر في نظرة،
في دمعتي.
هي انصرفت وتركت جراحا أخاديدا تجاعيدا غائرة،والشاعر ينظر إليها محاولا توديع أحزان السنين
يا دمعتي،
يعصيني النظر مع هذا الغبش !
يقول لها لا أستطيع النظر إليها مع هذا الغبش إنه تقدم في السن لم يعد يرى بوضوح
ها إني صَدَفةٌ بحرية : تحملني في مائها،
وأغصّ في أصواتها الدفينة
ثم يتحول الشاعر إلى صدفة أي محارة بحرية، يحملها ماء البحر،ويغوص يبحر في عمق البحر الدفين
القصيدة مدهشة ,تمكن الشاعر من اللغة خارق ,ثم كتب القصيدةبعمق شديد مبهر هي قصيدة سكنتني فسكنتها تجولت في أعماقها قطفت ثمارها وما أحلاها ما أنضجها إنها تجربة شربل داغر في كتابة الشعر إنه شاعر يتملك القارئ يسكنه فيدمن عليه لقد وجدت مدرستي وأستاذي الذي سأكمل معه مشواري مع الأدب الذي أعتبره أجمل شيء في حياتي شكرا بروفسور