بمناسبة الذكرى الـ 57 لتأسيس “ندوة الدراسات الإنمائية” نوه الزميل محمد ع.درويش بالدور الكبير لمؤسس وأمين عام ندوة الدراسات الانمائية المفكر الراحل الدكتور حسن صعب في تحقيق التوعية الإنمائية في مختلف الحقول، وإقامة المؤتمرات وإلقاء المحاضرات وإصدار الكتب والقيام بالدراسات. والعمل على تحقيق الأهداف من اجل المصلحة اللبنانية الوطنية العامة ومن أجل النفع والصالح العام.
ندوة الدراسات الانمائية مؤسسة علمية وطنية ذات منفعة عامة مركزها مدينة بيروت وغايتها العمل لإنماء الإنسان كل الإنسان وكل إنسان، وتعزيز الوعي العام بموضوعات ومشكلات الإنماء في شتى حقوله، معتمدة مفهوم الإنماء الشامل والمتكامل.
تأتي ذكرى التأسيس حافلة بمعاني العزم على مواصلة الكفاح رغم المصاعب، والتمسك بالأمل رغم التحديات، والثقة بالمستقبل رغم قسوة الحاضر، فإنني أرجو أن تتكلل اعمال ذكرى التأسيس بما هي أهل لها من نجاح، ترسيخا لدور الفكر المسؤول في بناء لبنان وصنع المستقبل العربي والتوفيق في رسالتها الوطنية.
لقد أتيح لي أن أعمل مع الدكتور حسن صعب الأمين العام لندوة الدراسات الانمائية، فوجدت فيه المبادرة تلو المبادرة في خدمة لبنان، ولاحظت فيه اندفاع أهل العلم والفكر في تحمل مسؤوليتهم تجاه وطنهم. ومثل هذا الوعي للمسؤولية العامة، الذي يتجلى في روح علمية وطنية إنمائية هو الكفيل بإنتصار لبنان على محنته، وبإستئنافه دوره الحضاري الريادي على الصعيدين العربي والدولي.
يقول د.حسن صعب
إن لبناننا هو وطن الكتاب لا وطن الإرهاب. وإنه وطن الأفكار المشعة، وأرضه هي محطة لإحياء الإنسان لا لإيذائه. وحرى بالإعلام الخارجي، الذي لا يستهويه إلا الحدث الرديء الداوي، أن يفتح أضواء على مؤتمراتنا العلمية ومعارضنا الفكرية والفنية، التي تتوالى يوما بعد يوم، ليرى جوهر لبنان الحقيقي، في نور الروح، وفي نور الفكر، وفي نور الحق، وفي نور الجمال، الذي غشيه الظلام حينا. ولكن انوار لبنان الخالدة لا بد أن تسطع من جديد لتطوي الظلمة العابرة.
انماؤنا المنشود هو إنماء الإنسان، كل إنسان وكل الإنسان. ولا تستقيم ديموقراطيتنا إلا في ظل هذا الإنماء الإنساني. ولذلك نصر على أن يكون لتطورنا مضمونه الإنمائي أي معناه الإنساني.
الندوة مؤسسة خاصة ذات منفعة عامة
إن ندوة الدراسات الإنمائية هي هيئة علمية وطنية تطوعية خاصة ذات منفعة عامة. وهي تعتمد أول ما تعتمد على جهود أعضائها، وعلى مؤازرة المواطنين الأصدقاء، في حمل رسالة التوعية التي التزمت بها، التوعية بإنماء الإنسان: كل الإنسان وكل إنسان، هذه التوعية التي تصورها مؤسسو الندوة المستلزم الأول لتحقيق سياسة الإنماء تحقيقا تطبيقيا. فالإنسان الواعي أحواله وحاجاته الإنمائية، مجتمعيا وفرديا، هو وحده القادر على صناعة سياسة الإنماء: تفكيرا وتخطيطا وتنفيذا، سياسة الإنماء التي تحقق حرية كل إنسان وتقدمه، أي حرية كل لبناني وتقدمه، وحرية كل عربي وتقدمه، فحرية كل إنسان وتقدمه متكاملان اليوم تكاملا محسوسا عضويا كونيا، أكثر من أي وقت مضى، مع حرية الإنسان الآخر وتقدمه.
أعضاء الندوة الذين بدؤا ثلاثة، وهم د.حسن صعب، د.زكي مزبودي، د.شارل رزق. وأصبحوا الآن يتجاوزون المئة، وأصدقاء الندوة، الذين انطلقوا من لبنان، وأصبحوا الآن في كل قطر عربي بل في كل قطر من أقطار العالم، هم من أهل الفكر المؤمنين بأن الفكر هو رسالة وليس امتيازا، وإنه صناعة خلق في سبيل الخير العام قبل أن يكون صناعة عمل في سبيل الخير الخاص، وإنه جهد الذات الأعلى لا للتعالي على الشعب بل لخدمته، وإنه مسؤولية ريادة في العالم الثالث للدلالة على الطريق الأقوم والأسرع لتطوير الاجتماع من مجتمع تقليدي إلى مجتمع عصري، ولتحويل الدولة من دولة نامية إلى دولة متقدمة، وللارتقاء بالكائن من أدنى كينونته إلى أعلى صيرورته الإنسانية.
إننا نعتبر اننا ما نزال في أول الطريق. وان كل ما انجزناه حتى الآن أن هو إلا استهلال لما نتطلع لإنجازه . وإننا ننظر للسنوات القادمة، سنوات الثورة الإنمائية العربية والدولية، على أنها حقبة الحسم الإنمائي في تاريخ لبنان وتاريخ العرب وتاريخ الإنسان. وستكون مسؤولية ندوتنا ومسؤولية كل منا فيها، أكبر مما كانت عليه في اي وقت مضى. إن الأزمات الإنمائية اللبنانية والعربية والدولية التي نعانيها الآن هي ضباب الظلام السابق لانبثاق فجر إنمائي إنساني كوني جديد . ولكن الدورة الإنسانية للظلام والنور هي دورة فكرية إرادية ابداعية واعية لا دورة تكرارية لا واعية. إننا رؤية وسياسة وخطة وإرادة وخلق. وقد أصبح علينا الآن دور ريادي في إعمار لبنان ما بعد المحنة وفي تطويره الإنمائي بل وفي التطوير الإنمائي العربي والتطوير الإنمائي الكوني.”ح.ص”
يقول ايضا الدكتور حسن صعب مؤسس وأمين عام ” ندوة الدراسات الإنمائية” إن المأساة التي عانينا قتلت الآلاف من اللبنانيين، ولكنها لم تقتل الحلم اللبناني، وحلمنا هو أن لا يكون اللبناني وحش الغابة بل رائد الحضارة. وهذا اللبناني الذي حرم واضطهد وخطف واغتيل وسيم كل أنواع العذاب، هو الذي نجد في ألمه مبعث الأمل. إننا نعقد أملنا على الذين فقدوا الأمل. لأن هؤلاء يرفضون أن نعود للواقع الذي عرضنا لليأس، ولكنهم يتطلعون لواقع جديد، يكون فجرا لأمل جديد.
وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
إن ندوتنا تراود الحلم اللبناني تعبيرا زاهيا عن الحلم العربي والحلم الإنساني، منذ أن أصدرت كتابها الأول عام ١٩٦٥ حول “المفاهيم الحديثة للإنماء”، إلى أن أصدرت كتابها الواحد والأربعين، حول ” النقد الوطني والأمن والإنماء”.
وكانت الرحلة، بين اول كتاب واحدث كتاب، الرحلة المغامرة. ونحن عشاق المغامرة. ونحن، كما وصفنا هيجل، فيلسوف التاريخ، أوائل المغامرين، الذين عرفتهم حضارة الإنسان ، سواء انطلقت مغامراتنا من شواطئ بحارنا الفينيقية أو من واحات صحارينا العربية. وإنماء الإنسان هو أروع المغامرات وأحبها إلى نفوسنا.
ومغامرة خلق إنسان ما بعد المأساة خلقا جديدا تتحدانا جميعا. ومؤتمرنا هذا هو تعبير عن تقبلنا للتحدي، وعن تصميمنا على مواجهته باستجابة الخلق الجديد، لا باجترار العقم القديم، وبإشراقة الأمل المتجدد، لا بآهاة الألم المتحجر.
وكأني بمغامرتنا تذكرة لمن يتأملها بأسطورة باندور زوجة ابيتمي شقيق بروموتيه . فقد أهديت باندور قدرا فلما فتحتها اندلعت منها على الأرض كل آلام البشر. ولكن الأمل ظل يسطع قاع القدر.
وبهذه المناسبة يسرنا ان نسرد مقال للمفكر الراحل الدكتور حسن صعب بمناسبة اليوبيل الفضي لندوة الدراسات الإنمائية بعنوان “تجربَة نَدوَة فوَطن”
هل يمكن استرداد صورة حياة وطن، مدى ربع قرن، من تجربة هيئة من هيئاته العلمية التطوعية ؟
الحياة هي تجربة الخطأ والصواب!
تلك هي حياة البشر مجتمعا وافرادا!
وذلك هو الوطن في كينونته وصيرورته!
فهل تكون تجربة احدى هيئاته مصغرا لمعاناته الخطأ والصواب، والالم والامل؟
انشئت ندوة الدراسات الإنمائية عام 1964، لاشاعة التوعية الانمائية بين المواطنين محكومين وحكاما.
والتزمت مفهوما شاملا للإنماء، بانه انماء الانسان كل الانسان.
وللاب لوبريه الذي كانت له تجربته مع لبنان، تعريف للإنماء بانه الارتقاء بالمجتمع من مستوى ما دون انساني الى مستوى انساني!
وفترة ربع قرن كانت تكفي لاستحداث مثل هذا التطور في لبنان!
وهذا ما جرى في سنغافورة، وهي دولة في مثل حجمنا، في آسيا الشرقية، اذ تطورت في هذه الفترة، من دولة متخلفة الى دولة متقدمة، اي من مجتمع ما دون انساني الى مجتمع إنساني!
ونحن انحدرنا في الفترة نفسها من مجتمع ما دون انساني الى مجتمع ما دون حيواني، اي من مجتمع متخلف الى مجتمع مستبهم!
وفعلنا ذلك، ونشيد انشادنا الذي نتغنى به هو اننا وطن الانسان، ووطن الاشعاع، ووطن العظمة، ووطن العنفوان!
فما هو اشعاعنا على العالم اليوم سوى وهج ارهاباتنا، وبريق تهريباتنا، وانين رهائننا، وصدى حملاتنا في اعلام العالم بعضنا على البعض!
انشأنا الندوة عام 1964 في سبيل التوعية الانمائية.
فلم اخترنا التوعية؟
لان لبنان كان متخلفاً ولم يكن يعي انه متخلف!
ولأن فريقا من ابنائه كان يعتقد انه متقدم، ويتهم فريقاً آخر بالتخلف، ويزين لنفسه ان هذا الفريق لن يتقدم ابدا.
وما ازال اذكر وزيرا للتصميم، اي الوزير المسؤول عن انماء كل اللبنانيين، وانا اقدم اليه احدث كتاب اصدرته الندوة، فيقول لي : ان جهدكم يذهب سدى!
فأسأله لماذا ؟
فيجيب بلا استيحاء، : “ان هناك فئة متخلفة في لبنان وستظل متخلفة الى الابد”.
فقلت له : والانسان الذي تتغنى به في كتاباتك وخطبك ؟
فأجاب : ان الانسان هو شيء وان هؤلاء المتخلفين هم شيء آخر.
فاذا كنا نميز مثل هذا التمييز بين انسان والاخر، وبين مواطن والاخر، فكيف لا ننتهي الى قتل احدنا للاخر وقنصه وخطفه على الهوية؟
ان الانماء كما تصورناه، هو انسانية جديدة.
وان التخلف هو حالة عارضة لدى الانسان فرديا ومجتمعيا.
لكن المهم ان يعيه الانسان ليستطيع التحرر منه.
وكما ان سياسة التخطيط الانمائي هي واجب الدولة، فان التوعية لاحوال التخلف التي تستدعي هذا التخطيط، والتبصرة بأهداف هذا التخطيط هما ايضا وظيفتا الدولة. فاذا قصرت الدولة كان على اهل الفكر ان ينهضوا بالواجب.
وقد جاءنا الرئيس فؤاد شهاب بالاب لوبريه، الخبير الانمائي العالمي الفرنسي، ليرينا بالدراسات والاحصاءات اننا متخلفون في كل الميادين، وان من اخطر ظواهر تخلفنا الفجوات بين مداخيلنا، وبين قطاعاتنا، وبين مناطقنا، وبين فئاتنا، وبين افرادنا. وانذر بأن هذه الفجوات التخلفية هي بؤر تفجر تهدد وجود لبنان !
فاحتدمت الحملة على الاب الخبير الكاثوليكي الفرنسي، وهو المستشار الانمائي لقداسة بابا روما !
واخبرني السفير الفرنسي في ذلك الحين، ان بعض كبار النواب ذهبوا اليه، ليشكو اليه الرئيس شهاب، انه يريد ان يرتقي بالمسلمين من اموال المسيحيين ، وليطالبوه بسحب الاب لوبريه من لبنان، من قبل ان يحمد ما لا تحمد عقباه، ومن قبل ان تخسر فرنسا صداقة الذين يحبونها من اللبنانيين !
وكان الرئيس شهاب يشكو لي ان المسيحيين يعتبرونه مسلما لأنه متحدر من سلالة الرسول!
وكان اليساريون يعتبرونه رجعياً بينما كان اليمينيون يعتبرونه شيوعياً، وكل ذلك بسبب ما التبس عليهم من سياسته في سبيل الانماء والعدل الاجتماعي التي كان يعتبرها مؤدية الى التلاحم الوطني !
والطائفية في نظرتنا الى الانماء والتقدم كانت قرينتها الاقطاعية !
فلم يكون بد من مواجهة الآفتين بإشاعة التوعية الانمائية في كل لبنان ولدى جميع اللبنانيين!
فتحولنا بمؤتمراتنا من العاصمة الى مراكز المحافظات والى مراكز القائمقاميات.
لأن الانماء لا بد من ان ينطلق من القواعد، وان يعم كل الشعب.
وهو الزم ما يكون في القواعد الريفية.
فنظمنا مؤتمر الانماء في اشد هذه القواعد تخلفاً، قاعدة الهرمل.
فاذا بكبير نواب الهرمل في ذلك الحين ينذرنا بالابتعاد عن منطقته، والا ؟ وما شأننا نحن أساتذة جامعات بيروت بالهرمل ؟ لكن لبنان كله وطننا، اليس كذلك؟ وكيف نرضى بأن يتقدم حي في بيروت، وبان لا تكون الهرمل في مثل تقدمه ؟ واصر علينا شعبنا وشبابنا في الهرمل ان نعقد المؤتمر وارتفع المعترض بالشكوى الى رئيس الجمهورية. لكن المؤتمر عقد وكان تجاوب مواطنينا في الهرمل معنا من اروع ما لقينا في كل لبنان.
وهذه المقاومة الضاربة لدعوتنا الانمائية، من الزعامات الطائفية والاقطاعية، اقنعتنا بأن معضلة لبنان الانمائية هي سياسة قبل ان تكون اقتصادية او اجتماعية واظهرت لنا ان التخلف السياسي هو الوجه الاقبح لتخلفنا. فلا بد من نظام سياسي انمائي ليتسنى لنا ان نتقدم. ولا بد لنا من قيادة سياسية ملتزمة التزاما حقيقيا للانماء، ليتطور لبنان من دولة متخلفة الى دولة متقدمة.
وكان العقل لا العنف سبيلنا المفضل لاحداث مثل هذا التغيير النظامي والقيادي.
فنظمنا حلقة دراسية حول النظام السياسي الأفضل للانماء، اشركنا فيها ممثلين لجميع الاحزاب والقوى السياسية في لبنان.
وانعقد اجماع الباحثين والمحاورين على ان التغيير الديموقراطي السلمي يبدأ من القاعدة، اي من تغيير النظام الانتخابي، والنظام الحزبي، لتنبثق من الانتخابات قيادة منظمة، تعبر عن ارادة الشعب في الحرية والتقدم والعدل.
فألفنا لجنة تمثل سبعة عشر حزبا لبنانيا مع نخبة من اساتذة علم السياسة. لوضع نظام انتخابي جديد للبنان جديد.
ووضعت اللجنة النظام المنشود، بعد جهود استمرت عامين.
وصيغ النظام الانتخابي صياغة تجعل النظام الحزبي العصري ينبثق من العملية الانتخابية اي من القاعدة الشعبية نفسها.
فالتنظيم الحزبي لا يفرض بمراسيم فوقية !
ولم نكن نبتعد في ما نقوم به عن رسالة التوعية الانمائية !
لان الانماء السياسي هو بعد من ابعاد المفهوم الجديد للانماء الشامل والمتكامل، من الانماء الاقتصادي الى الانماء التربوي، مرورا بل ابتداء بالانماء السياسي ؟
وجاء اجماع كل احزاب لبنان على مشروع موحد لقانون انتخاب جديد مفاجآة لزعماء السياسة في لبنان. وذهب به المرحوم كمال جنبلاط الى البرلمان. وناقشناه في لجنة التصميم برئاسة المرحوم موريس الجميل. وتحاورنا حوله مع رئيس لجنة العدل ناظم القادري. ووضعه المرحوم بهيج تقي الدين في طليعة المشاريع المقترحة لاصلاح النظام الانتخابي !
لكن مجالنا التاريخي بعد عام 1972 لم يكن مجال اقناع وانماء واحياء، بل كان مجال اكراه واغتصاب وتقتيل وافناء !
فظل المشروع ينتظر عند باب قصر بعبدا وقصر ساحة النجمة !
ولا بد من ان يعود كل منهما فيتحقق فيهما من مشاريع الانماء والتقدم ما لم يتحقق بعد !
ولعل نوابنا الكرام يذكرونه وهم يضعون الوثيقة الاصلاحية التي ستدعوهم اللجنة الرئاسية للجامعة العربية لوضعها!
ولم تكن تغيب عن الندوة الافاق الخارجية لتخلف لبنان وتقدمه. فنحن جمهورية منفتحة على العالم. ونحن الدولة الوحيدة في العالم الثالث يفوق قطاع الخدمات فيها قطاعي الزراعة والصناعة . وهذا الانفتاح هو مصدر قوتنا في الاحوال العادية. لكنه مصدر ضعفنا في الازمات. ويتفاعل لدينا الانفتاح الاقتصادي والسياسي ايجاباً وسلباً. فكان علينا ان نتعهد بالدراسة علاقتنا الانمائية العربية والدولية. وكان علينا ان نتعهد بالتحاور الاختلافات اللبنانية الفلسطينية لتفادي التصادم.
وعقد اول لقاء بين ممثلي احزابنا اليمينية وممثلي منظمة التحرير الفلسطينية في مقر الندوة. فافتتح بالصراخ واختتم بالعناق. ولو اقرت مبادىء التعاون التي اعتمدت في هذا الاجتماع، لدى مراجع المحاورين، لنجونا من انفجار الرابع عشر من نيسان 1975، ومن كل ما ادى اليه من عواقب تستفحل حتى اليوم !
ولا اذكر كل الذي ذكرت بكاء على الاطلال فمنجزات الندوة في ربع قرن تراث قوامه اثنان واربعون كتاباً مرجعيا في الانماء، وعشرون مؤتمراً وطنياً واقليمياً ودولياً، ومئة حلقة حوار، وعلاقات تعاون مع جميع الهيئات اللبنانية، وتواصل مع الهيئات الانمائية العربية والدولية. وهي عضو مراقب لدى الامم المتحدة، باشتراكها في تجمع المنظمات غير الحكومية. والندوة هي هيئة علمية، وليست حكومة ولا حزبا سياسية، لذلك مهمتها ان تقدم ابحاثاً علمية لا ان تصنع قرارات سياسية. لكن مسؤوليات العلماء والسياسيين واحدة في لحظات الوطن المصيرية.
ونحن نعيش هذه اللحظات المصيرية منذ عام 1975 حتى الان. فلا عذر لنا ان نتباهى باننا وعينا بالعلم، وان نعاتب غيرنا الذي لم ينفذ بالفعل. لان الهوة بين العلم والفعل هي خطيئة العلماء بمقدار ما هي خطيئة السياسيين. ومسؤولية تداركها هي مسؤولية الفريقين ! ولعل هذا هو ما حمل افلاطون على ان يتصور حاكمه المفضل الملك الفيلسوف او الفيلسوف الملك. والبيان الذي اصدرنا اخيرا، بالتعاون مع اربعين هيئة فكرية، بالدعوة الى الحوار، والوفاق الوطني، ولاحلال السلام، ولتحقيق الاصلاح، ولاعادة الشرعية، ولانجاز الجلاء، التقى فيه واجبنا الفكري والواجب السياسي العلوي.
وكان لندوتنا جلسات مع جميع رؤساء جمهورية لبنان ورؤساء حكوماته، منذ انشئت حتى الآن، سعياً وراء التفاعل بين العلوم والسياسة، وبين الفكر والسلطة.
وكان من امتعها جلسة الرئيس شارل حلو الذي ارتضى بديموقراطيته المعهودة، ان تكون جلسة “محاكمة انمائية”، بعدما انهى ولايته في رئاسة الجمهورية.
وكانت التهمة اليه انه رحب ترحيباً حارا بتوصيات مؤتمرات الندوة، التي كنا نرفعها اليه بعد كل مؤتمر، لكنه لم يكن يعمل لتطبيقها.
فرد محتجا وساردا ما حقق من مشاريع انمائية، لكنه استطرد، وهو يضغط صدغيه بيديه ضغطا شديدا، وقال : ” انكم لا تعرفون الهم الاكبر لرئيس جمهورية لبنان”.
فسألناه عنه ، فأجاب : “ان همه الاكبر هو ان يبقى لبنان !”.
فقلت : ” ان يبقى لبنان هو ان يتطور !”.
اذكر هذه المحاكمة بل هذه المحاورة الرائعة. واذكر ايضاً ان الندوة عقدت مؤتمرها الاول للإنماء الوطني، في رعاية الرئيس حلو، في 14،15،16 نيسان 1966، حول “الدولة والانماء في لبنان”.
واراجع مستهل البيان، الذي صدر عن المؤتمر، فأجد فيه نموذج الدولة، الذي لا نزال نتطلع اليه في لبنان، انه نموذج التطور بلبنان” … بالنهج الديموقراطي من دولة سائرة في طريق النمو الى دولة متقدمة، وتطوير المجتمع اللبناني من مجتمع طائفي تعايشي الى مجتمع تقدمي عصري واحد، وتحديث جميع بنيات هذا المجتمع بحيث تنتظم الانتاجية فيه وتطرد اطراداً موصولاً ثابتاً، يؤدي اطرادها المنتظم الى رفع مستوى حياة كل مواطن لبناني، ويؤمن استيعاب الطاقات الانسانية الجديدة التي تتزايد عاماً بعد عام، ويتيح لهذه الطاقات ان تجعل من النظام الديموقراطي اللبناني التجسيم الحي للحرية والعدالة، وان تصنع منه نموذجاً للانماء الديموقراطي”.
ان هذه الرؤية الديموقراطية الانمائية لعام 1966 لا تزال هي نفسها رؤية كل مواطن لبناني.
فماذا ننتظر لننطلق في تحقيقها، ولو كان ذلك بعد خمسة وعشرون عاماً ؟
ننتظر ان تصالحنا اللجنة الرئاسية الثلاثية لجامعة الدولة العربية !
ولماذا لا نسبقها الى التصالح بعضنا مع البعض ؟
ان الانطلاق هو الان من مستوى ادنى لبلوغ مستوى اعلى !
فنحن الان على عتبة القرن الحادي والعشرين.
وانماء اليوم والغد هو غير انماء الامس !
فالتحدي اكبر.
لكن الاستجابة من شعبنا النبيل ستكون هي ايضاً استجابة خلاقة اكبر !
وختاما قال الزميل محمد ع.درويش ان قيام د.حسن صعب بتأسيس ندوة الدراسات الانمائية كان جواباً لأسئلة راودته طويلا، وبقيت معه طوال حياة فكره الخلاق التي عاشها بذاته وعايشها مع الندوة. فليس بالمصادفة قيام جمعية ندوة الدراسات الإنمائية ، وليس بالعفوية أصبحت جمعية خاصة ذات منفعة عامة، بل هذا كان جل ما يتوجه إليه المؤسس “جمعية تعنى بالفكر الخلاق”. وماذا كان يدور في العالم في ذاك الوقت من ستينات القرن الماضي حين أنشأ د.حسن صعب ورفاقه الألمعيين، د. شارل رزق والمرحوم د. زكي مزبودي، الندوة ! كانت المجتمعات المتقدمة بالعالم تطل بثورة فكرية تركز على مفهوم وتيار سيبقى الى وقتنا الحالي معياراً تصنف على أساسه المجتمعات ومستويات تقدم الدول، عنينا مفهوم تيار الإنماء.
وهذا حقاً ما ميز فكر معلمي الراحل د.حسن صعب الخلاق . ان الناظر بعمق الى عطاءاته الفكرية يستغرب تعطشه وحواراته وكتاباته وأفكاره المتسابقة المتطلعة ابداً نحو المستقبل. فمفهوم الإنماء الذي بدأ بنشره في لبنان والمجتمع العربي كان سباق لعصره. ومن يتعاطى اليوم بمواضيع النمو، والإنماء، والتنمية المستدامة، الاستراتيجية التنموية يدرك ذلك. انها مواضيع نطرقها اليوم، وكان المرحوم المفكر د.حسن صعب قد سبقنا إليها بعقود، ونبهنا الى ضرورة استيعابها والاحاطة بها، لانها ستكون معيار تقدم المجتمعات في العالم ، وواقعاً هذا ما هو قائم الآن.
وكان معلمي د.صعب يعتقد أن تحقيق الإنماء يحتاج إلى قادة إنمائيين، وان هؤلاء لايستطيعون التخطيط للإنماء وتنفيذه إلاّ بتسلّمهم مقاليد الحكم في الدولة. لقد كان بذلك متأثراً إلى حد كبير بنظرية أفلاطون والفارابي التي تعتبر ان صلاح المجتمع مرهون بصلاح الرئيس (أي الفيلسوف عند افلاطون والامام عند الفارابي) وان المجتمعات الفاضلة هي المجتمعات التي يتزعمها ويسوسها الفلاسفة والحكماء. والحكيم، في عُرف معلمي الراحل، هو صاحب الرأي السديد في عملية الإنماء. وإيمانه العارم بالإنماء وبوجوب إنجازه في لبنان.
كان معلمي مثابراً اسطورياً، يبتدع الآمال والمشاريع واللقاءات. يثابر على عقد اجتماعات الندوة ومؤتمراتها مهما قسا العنف، يعاند جمود الناس ولا مبالاتهم، يثير حماسة المتقاعسين ويحولنا عن طرقات اليأس عندما ينغلق الافق، وكأن الحياة ورشة عمل دائمة تحصد فيها الفرح اذ تزرع جهدك الحي.
كان معلمي مؤمناً بالحياة وبقوة الحياة. شعلة ايمان تتغذى من نارها الدائمة. يؤمن بالانسان وبقدرته وبتخطيه لنفسه كما تخطى هو اقداره، كان يلتقط كل جذوة حياة تتألق في عين انسان ويحاول رعايتها واطلاقها، وكانت الحياة نفسها تتألق في عينيه وتختصر حضوره حتى في مراحل التعب والمرض.
ولقد كرم معلمي بميداليات وجوائز وأوسمة ، وقد تكون ندوة الدراسات الإنمائية هي الوسام الأهم الذي يعتز به، ولذكراه نحاول أبداً إبقاءها شعلة إيمان قوية بإنماء الإنسان ، كل إنسان وكل الإنسان.