بقلم: د. عبد الرؤوف سنّو
إشكالياتُ مركزية ثلاث يطرحها هذا البحث/المحاضرة، وهي:
– التعايشُ الطوائفي الذي يدّعي اللبنانيون أنهم يعيشونَه منذ الاتفاق على “الميثاق الوطني” في العام 1943 وتجديد عقدهم الاجتماعي في “اتفاق الطائف” في العام 1989، في حين أنّ طائفيتهم السياسية والمجتمعية تُضعف تضامنهم وتُغيّب مُواطنتهم.
– السيادة التي اعتقدت الدولة اللبنانية أنها استعادتها بموجب “اتفاق الطائف”، والعوامل الفعلية التي منعَتها من ممارستها، وكذلك القدرة على التصرف باستقلالية في المجالين الداخلي والخارجي.
– التشابك بين نزاعات الداخل اللبناني وتدخُّلات الخارج التي تجعل اللبنانيين يتطلّعون إلى خارج حدود بلدهم ليصبحوا أتباعاً له.
أمّا الفرضيات فهي:
– أن اللبنانيين لم يبنوا على “الميثاق الوطني” للانتقال بتعايشهم من النظام الطائفي إلى نظام مدني.
– أن “اتفاق الطائف” لم ينقل لبنان إلى مَصافّ الدول الحديثة في ظِلّ نظام طائفي سياسي وطائفيةٍ مجتمعية.
– إن موقعَ لبنان الجيوسياسي هو قدرُه، لكنّ تطلُّع اللبنانيين على الدوام إلى الخارج واستجلابهم إياه كان خياراً بملء إراداتهم.
– وصولُ “الديمقراطيةِ التوافقيةِ” إلى طريقٍ مسدود، وعدم صلاحيةِ “ديمقراطية الأكثرية” بمفهومها الإسلامي، ولا الفدرالية بمفهومها المسيحي، كحلٍّ لأزمات لبنان.
سأقارب الموضوع من خلال بحث كيفية ظهور الطائفية المجتمعية في الماضي، والعلاقات بين المسلمين والمسيحيين منذ “الميثاق الوطني”، وبعد “اتفاق الطائف”، ثم التطورات والتحالفات فوق الطائفية بعد اغتيال الرئيس الحريري، وأخيراً الفدرالية أو ديمقراطية الأكثرية كحل للمعضلة اللبنانية، أم الدولة المدنية.
– الطائفية المجتمعية والطائفية السياسية: توأمان سياميان
كثيراً ما يتمُّ الحديثُ عن إلغاء الطائفية السياسية بهدف الوصول إلى تماسُك وطني، ويتم تجاهل الطائفية المجتمعية التي سبقت الطائفية السياسية، حيث ظهرت الأخيرة في جبل لبنان منذ تطبيق “نظام القائمقاميتين” في العام 1843، وتحديداً منذ الحرب الاجتماعية في العام 1860 واعتماد نظام المتصرفية. أما الطائفيةُ المجتمعيةُ، فوُجدت منذ أن هبط الموارنة إلى جنوب جبل لبنان وإلى وغربه بشكل منهجي منذ عهد الأمير فخر الدين والعيش جنباً إلى جنب الدروز وعمل فلاحيهم وحرفييهم لدى الاقطاع الدرزي. وهذا التداخل، أدى إلى قيام علاقات ثنائية عسكرية وسياسية وحزبية (القيسية واليمنية) بين الأُسر داخل الطوائف، أو في ما بين الطوائف على أساس المصالح المشتركة. لكن وحدة المصالح هذه لم تستطع مع ذلك أنْ تخرق جدار العزلة الاجتماعية لكل طائفة. فبقيت العلاقات بين الطوائف في إطار الوظيفية (Functional relations) والبروتوكولية (Protocol relations) وحدهما، اللتين لا تؤدّيان إلى حدوث اندماج مجتمعي وطني، حيث تراوح العلاقات بين المجموعات الدينية أو المذهبية بين حدَّي التعايُش والنزاع، من دون اتفاق على الأسس، بما فيها الهُويّة.[1]
عند انتقال الحكم من المعنيّين إلى الشهابيين السنّة في العام 1697، بدأ المنحى الطائفي الجنيني يظهر عندما تنصر الشهابيون في ما بعد، ومحاباتهم، وبخاصة الأمير بشير الثاني، الموارنة على حساب الدروز لتثبيت حكمه على الجبل إبان الاحتلال المصري لبلاد الشام بين العامين 1831 و1840، ما أفسح في المجال أمام بروز طائفية سياسية من وسط التباينات الاقتصادية بين الموارنة والدروز والعلاقات مع الخارج (الغرب والدولة العثمانية).[2] فوقعت بذلك حروب “طائفية” متقطّعة بين الأعوام 1841 و 1845، ثم على نطاق واسع في العام 1860، لم تنته سوى بتدخل أوروبي، وفرنسي تحديداً. فكان هذا فاتحة لنظامين هما القائمقاميتان[3] والمتصرفية ودخول لبنان بالتالي في نفق الطائفية السياسية من خلال التوزيع النسبي للإدارة بين الطوائف. وقد وقف اللبنانيون في الجبل وفي المقاطعات البنانية وجهاً لوجه: مسيحيون يريدون الحفاظ على استقلالهم الذي ضمنه له نظام المتصرفية ويتطلعون إلى الغرب المسيحي، ومسلمون يرون في الدولة العثمانية دولتهم. من هنا، رفض الأولون، ومعظمهم من الموارنة، الدستور العثماني الذي أعيد العمل فيه في العام 1908، لأنه يجعلهم يخضعون للحكم العثماني.[4]
إن التلاقي الإسلامي – المسيحي عشية الحرب العالمية الأولى وفي خلالها على أساس عُروبي، سقط، ما أن “تأسلم” مشروع القومية العربية وأصبح في أيدي المسلمين (الشريف حسين ونجله فيصل). فانكفاء الموارنة إلى “لبنان الكبير” وإلى دستور طائفي يقوم على نسبية التمثيل واحتفاظ الطوائف بخصوصياتٍ وأحوالها الشخصية وشؤونها التربوية، وهذا ما جعل ولاء المواطن اللبناني لطائفته.[5]
وبسبب الطائفية السياسية والطائفية المجتمعية، لم يتم انتخاب الشيخ محمد الجسر لرئاسة الجمهورية في العام 1932، ولو حصل ذلك، لكاد أن يكون نقطة تحوُّلٍ لخروج لبنان من الطائفية السياسية. هذه الفرصة لن تتكرر مرة ثانية في تاريخ لبنان، وسط امتعاض المسلمين، عن حق أو من دون حق، حول ضعف مشاركتهم في الحكم والإدارة.[6]
جمود الميثاق الوطني وخرقه
بعد عزوف المسلمين عن الانضمام إلى لبنان الكبير والجمهورية اللبنانية، بدأوا منذ الثلاثينيات من القرن المنصرم بالتحلي بالواقعية السياسية والقبول بلبنان، من دون أن يخفوا مشاعرهم تجاه ما يدور في محيطهم العربي الإسلامي من مشاريع وحدوية. صحيح إن توافق المسيحيين والمسلمين على الميثاق الوطني في العام 1943 أمن سلماً أهلياً عبر الاتفاق على تقاسم السلطة، إلا أنه عزز الطائفية السياسية والطائفية المجتمعية، ولم يؤشر إلى وفاق وطني طويل الأمد.[7] فالطوائف اللبنانية التي تلاعبت بها الهوية والانتماء والديموغرافيا والمصالح الشخصية والاستقواء بالخارج، لم تطور طُرق تعايُشها للانتقال إلى نظام مدني يحتضن الجميع، في حين انفتحت على الخارج خلال الخمسينيات والستينيات بشكل كبير مخالف للميثاق طلباً للحماية أو المساعدة: مسلمون يجسدون عروبتهم بالتطلع إلى محيطهم العربي الناصري وإلى الوحدة المصرية السورية، وبعد ذلك إلى المقاومة الفلسطينية لقلب التوازن لصالحهم، ومسيحيون يلتفتون نحو الغرب والأحلاف الخارجية، وفي ما بعد إلى سورية وإسرائيل للحفاظ على إنجازاتهم وحضورهم السياسي.[8] فكانت هذه المسائل الخلافية إلى جانب مسائل الإنماء المتوازن والتفاوت الاجتماعي بين المسلمين والمسيحيين أسباباً لاندلاع الحرب في العام 1975. لكن العامل الخارجي: الفلسطيني والسوري والإسرائيلي تفوق على كل الأسباب الأخرى.
– حرب لبنان 1975-1990: متاريس السياسة والإيديولوجيات والتسوية
إن عوامل كثيرة داخلية تسببت بخلافات بين اللبنانيين، لكنها لم تكن وراء اندلاع الحرب، وفي وصول الميثاق الوطني إلى طريق مسدود. لقد اندلعت حرب لبنان في العام 1975 بسبب الخلاف حول دور لبنان في الصراع العربي – الإسرائيلي: مسلم يريد أن يجسد عروبته من خلال التشديد على دور لبنان في الصراع العربي – الإسرائيلي، فيما يرى المسيحي في لبنان هويته ويخشى على انجازاته من جراء تورط لبنان في الصراع المذكور.
وقد شهدت مرحلة الحرب تدخلاً وغزواً سورياً واجتياحين إسرائيليين في العامين 1978 و1982، وفشل مشاريع داخلية وأخرى خارجية (اتفاق 17 ايار 1983 الإسرائيلي، و”الاتفاق الثلاثي” السوري) لحل للأزمة اللبنانية. ولم تتوقف الحرب إلا بجهود دولية وعربية أثمرت اتفاق الطائف. لكن أخطر ما في مرحلة الحرب، أنها قضت على التعايش الطوائفي السابق، بفعل التهجير وانقطاع التواصل بين المناطق، والقتل على الهوية والمشاريع المدعومة من الخارج.[9] وفي خريف 1989 اجتمع المجلس النيابي المنتخب في العام 1972 في مدينة الطائف وتوصل إلى تسوية سياسية بدعم عربي وأميركي، وانتهت بذلك الحرب. فهل جلب اتفاق الطائف معه التعايش المنشود بين اللبنانيين؟
حت مظلّة “اتفاق الطائف”، تحقّقت المسائل الآتية:
– حسم مسألة هُويّة لبنان، وعودة المؤسّسات إلى العمل وانفتاح المناطق على بعضها، فضلاً عن المناصفة في مجلسي النواب والوزراء، وإعطاء دور أكبر للمجلس النيابي ورئيسه، ولمجلس الوزراء ورئيسه.[10]
– فرض سورية هيمنتها على لبنان والتنافس بينها وبين إسرائيل حوله.[11]
– عمل سورية على إبقاء جبهة الجنوب مع إسرائيل مشتعلةً، والإبقاء على أسلحة “حزب الله” وتنظيماتٍ فلسطينية أخرى بشكلٍ مُخالف لاتفاق الطائف.
– تعاظم نفوذ إيران، عبر دعم “حزب الله” وإدخال لبنان منذ مطلع القرن الجاري في استراتيجيتها في المنطقة وصراعها مع الغرب.
– دخول عربي – خليجي ودولي على خط الأزمات اللبنانية.[12]
– طوائف من دون طائف: هواجس وإحباط متنقّل
رحب المسلمون، بشكل عام، باتفاق الطائف وبالاحتلال السوري واعتبروه يخدم لبنان ومصالحهم وأهدافاً قومية، فيما زاد الاتفاق من هواجس المسيحيين وإحباطهم وتسبب بارتفاع منسوب الطائفية المجتمعية عندهم، بسبب:[13]
1- نزع صلاحيات كثيرة من رئيس الجمهورية الماروني.
2- فشل المشروع الماروني لإبقاء السيطرة على مفاتيح الحكم في لبنان، أو التحوّل إلى لبنان
صغير (الفدرالية).
3- خرق الدستور وقوانين الانتخاب والإعلام والتجنيس وتفصيلها على مقاس حلفاء سورية، ما أضعف الصوت والتمثيل المسيحيين. فقاطع المسيحيون انتخابات العام 1992، وشاركوا جزئياً في انتخابات العام 1996.
4- عدم سحب سورية جيشها من لبنان وفق الطائف.
5- استمرار إضعاف المسيحيين بفعل هجرة أبنائهم وبيع أراضيهم وتجنيس الأجانب وتخويفهم
بالتوطين الفلسطيني.
6- فقدان لبنان تطوُّره الاقتصادي السابق بريادة مسيحية، وتعرض اقتصاده لأضرار بسبب
سياسة النهب والفساد التي اتبعها النظام السوري وأتباعه اللبنانيين.
7- تخويف المسيحيين بإلغاء الطائفية السياسية، أو اعتماد ديمقراطية الأكثرية الإسلامية.
8- إضعاف “الترويكا مركز رئيس الجمهورية وتأجيج التناحر بين الرؤساء الثلاثة وبين الطوائف والمؤسسات على الصفقات والحصص والمغانم.
وفي الواقع، إنّ تولّي العماد إميل لحود منصب الرئاسة الأولى في العام 1998، أعاد الأمل عند المسيحيّين وعند شريحةٍ واسعة من اللبنانيّين، في أنْ يعيد الاستقرار والتوازن المفقود بين طوائف البلاد، بخاصة عندما رفض لحود الحكم على أساس “الترويكا”، واستبعد الرئيس الحريري عن رئاسة الوزارة.[14] لكن ذلك أجّج مشاعر الطائفية المجتمعية لدى المسلمين السُنّة، في وقت حوّل لحّود لبنان إلى دولةٍ أمنية تخضع للأجهزة السورية.
ومن جهة أخرى، ظهر إحباط سُنّي بين العامين 1998 و2000، كرد على سياسة سورية تجاه استبعاد الحريري عن الوزارة، وذلك باستنهاضٍ بيروتي سنّي بلون عصبي مذهبي في انتخابات العام 2000، وفرض رفيق الحريري زعيماً أوحداً للسنّة في بيروت بلا مُنازع (إسقاط سليم الحص وحلول الأكاديمية غنوة جلول محله في المجلس النيابي).[15] إن العصبية المذهبية التي سادت في الشارع السنّي منذ العام 1998، كانت تعني أنه يريد رئيساً لمجلس الوزراء يعزّز موقع تلك الرئاسة (السنّية) من جهة، ويدافع عن مصالح الطائفة.
كما تأججت الطائفية المجتمعية في ما سُمّي بـِ”التحالف الرباعي” الإسلامي الذي اكتسح الانتخابات البرلمانية في العام 2005 (تيار المستقبل، حزب الله، حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي)، وزاد من تهميش القيادات المسيحية الرئيسية من “قوى 14 آذار”، ورفع من مكانة ميشال عون “التسونامي الذي ضرب 14 آذار على حد قول وليد جنبلاط، وحصل على أكثر من 70% من مقاعد المسيحيين في المجلس النيابي بفضل حصوله على أصوات الشيعة من حزب الله.[16] وهذا ما جعل ذلك البطريرك صفير يُطلق صرخة مُدوّية خلال تلك الانتخابات بأنه لا يُترك للمسيحيّين فرصة انتخاب نوابِهم بحرية، داعياً إلى أنْ ينتخب النوابَ المسلمين ناخبون مسلمون، والنواب المسيحيين ناخبون مسيحيون.[17] وهذا ما أدى إلى اعتماد “قانون الستين” في الانتخابات العام 2009. كما أن الدعوة إلى القانون الأرثوذكسي منذ أواخر العام 2011 زادت من التقوقع الطائفي والمذهبي.[18] لكن الدعوات المسيحية هذه، يجب أنْ تُفهم من زاوية خوف المسيحي على وجوده السياسي والاجتماعي، في ضوء “الاستيلاء” على صوته من قِبل “المَحادل” الإسلامية، وكذلك في ضوء صعود الإسلاميّين في المنطقة العربية بعد “الربيع العربي”، وما يحدُث في سورية تحديداً، وصعود حزب الله سياسياً وعسكرياً.
هذه الطائفية المجتمعية، لم تنحصر بعد حرب لبنان في المجال السياسي فحسب. فتتمظهر في الأندية الكشفية والرياضية الطائفية والمذهبية، وفي وسائل الإعلام وفي النقابات والأحزاب والرابطات والاتحادات الطلابية. كما أن للزواج المدني والزواج المختلط مطبّاتهما المجتمعية والطائفية. ولا ننسى في هذه العجالة التشريب الطائفي للتلاميذ وكتاب التاريخ الرسمي الذي لم ير النور حتى اليوم، واعتباره من المحرمات.[19]
– سياسات سورية وممارساتها في لبنان: تعزيز الشرخ الطائفي وتمايز مواقف الطوائف منها
استكمل النظام السوري هيمنته على لبنان بإسقاط الجنرال ميشال عون في خريف 1990، واعتُبرت المرحلة حتى العام 2004، مرحلة سورية بامتياز، حيث انصبّ اهتمام النظام بالدرجة الأولى على تحقيق الأهداف الآتية:[20]
1- الإشراف على الدولة اللبنانية وتأمين تماسِكها ضمن حدودٍ مصالحه، وتجريد الميليشيات من أسلحتها، باستثناء حزب الله وبعض التنظيمات الفلسطينية.
2- دعم عمليات “حزب الله” ضدّ إسرائيل، وعدم نشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، والتلاعب بورقة المقاومة بعد تحرير الجنوب وفق مصالحه.
3- تعزيز التناحر بين الطوائف والانقسامات في داخلها، ما أدى إلى ظهور طبقتين سياسيتين تستفيد الأولى من وجوده، وتُعارض الثانية، وهي مسيحية، التوازنات الداخلية التي أفرزها الوجود السوري بالاحتجاجات والتظاهر ورفع الصوت عالياً، ما عمّق من الشرخ بين المسلمين المؤيدين لسورية، خوفاً أو مصلحة، وبين المسيحيّين، وبخاصة في ما يتعلق بمسألة إعادة انتشار جيشه.
4- إشرافُه على ولادة الرئاسات الثلاث والتمديد للرؤساء والإشراف على المجالس النيابية والوزارية، ووضع اليد على الإدارات المدنية والعسكرية.
5- منع تكرار “اتفاق 17 أيار 1983.
6- منع السياسيّين اللبنانيين من الحديث عن إعادة انتشار الجيش السوري في لبنان أو انسحابه منه.
7- الاستفادة إلى أقصى الحدود من “معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق” مع لبنان التي عُقدت عام 1991، والتي ألحقت لبنان بسورية بصفته الشريك الأضعف.
بالإضافة إلى ذلك، وجه المسيحيون انتقادات لاذعة إلى النظام السوري وأتباعِه اللبنانيين في ما يتعلق بإفساد الحياة العامة وتغييب الديمقراطية ونهب الإدارات والمال العام. لكن دمشق تغاضت إلى حدٍّ ما عن الصوت المسيحي المُعارض لها، تاركة للنظام الأمني اللبناني ضرب “الموارنة المُتمرّدين” على احتلالها. وبالإضافة إلى ذلك، عمد النظام السوري إلى الردّ بثلاث طُرق، وكُلّها تزيد الشرخ والانقسام بين الطوائف:
1- الإيعاز إلى أتباعه من السياسيّين المسيحيين بالدفاع عن وجوده والترويج أنه هو من أنقذ المسيحيين في العام 1976.[21]
2- ترهيب اللبنانيين، وبخاصة المسيحيّين المُنتفضين: تظاهرة السواطير لـ “جمعية “الأحباش”
في نيسان 2001 (الأحباش) وقمع التظاهرات الشبابية المسيحية (العدلية). وكذلك
الإيعاز إلى القوى الشبابية والحزبية الحليفة للنظام السوري بالاعتصام في منطقة
الأونيسكو في ذكرى “المجزرة”، التي قامت بها وحدات عون العسكرية عندما قصفت
محلّه في 14 آذار 1989، وسقط فيها 200 ما بين قتيل وجريح [22].
3- تحريض المسلمين ومسيحيين من أتباعها للردّ على المقولة المسيحية حول سلبيات
الاحتلال السوري، واعتباره شرعي، وأنّ السلطة اللبنانية وحدها هي التي تقرّر ما يتعلّق به.
وفي مقابل الرفض المسيحي للوجود السوري في لبنان، لم تسمح سورية بقيام أي صوت إسلامي مُعارض لها، ليبدو لبنان منقسماً أمام العالم على نفسه بين مسلمين عروبيين و”أقلّية” مسيحية “خائنة” تحمل إرث التعاون مع إسرائيل، وأن خروج الجيش السوري من لبنان سيؤدي إلى اشتعال حرب أهلية جديدة.[23] لقد عاب المسيحيون على المسلمين صمتهم إزاء ممارسات النظام السوري والقضاء على سيادة لبنان،[24] فيما عاب المسلمون على المسيحيّين تعامُلهم العلني مع إسرائيل، وأنهم لهثوا وراء السلام معها (اتفاق 17 أيار 1983)، مع أن غالبية إسلامية صوتت لصالح الاتفاق.[25]
كانت هناك أسبابٌ عديدة لعدم مُعارضة السُنّة سورية جهاراً وعدم تشكيلهم جبهة وطنية واحدة مع المسيحيين في تلك المرحلة، ومنها ما يلي:
– شعورُهم بأن سورية تُشكّل عُمقهم العربي والاستراتيجي.
– غياب الحزب أو الميليشيا التي تحميهم بعد طرد المقاومة الفلسطينية من بيروت في العام 1982، وتصفية ميليشيا “المُرابطون” في ما بعد، وبالتالي ظهور السوري على أنه الحامي لهم (1986 و1987).[26]
– رفضُهم انقلاب المسيحيّين على الطائف، واعتبار ذلك محاولةً لضرب التوازن بينهم وبين المسلمين بموجب اتفاق الطائف.
– الخوف من استعداء سورية، لا سيما بعد حوادث اغتيال قادتِهم منذ مطلع الحرب. [27]
– خشيتهم من طروحات الفدرالية أأأو التقسيم من قِبل الموارنة، أو استعادة الآخرين امتيازاتهم السابقة بعد خروج السوريين من لبنان. [28]
على كل حال، انعكست العلاقة الجيدة لرفيق الحريري بالسوريّين على السُنّة في لبنان، ما أسهم في كَبْت حالة الامتعاض من جانبهم تجاه سورية. وقد وضع الحريري طائفة كبيرة وفق معادلةٍ زبائنية: السنّة ← الحريري ← السعودية، والسنّة ← الحريري ← دمشق، أي أنه هو الوسيط بين السنّة والرياض من جهة، وبين السنّة ودمشق من جهة ثانية [29]. وما أنْ وقعت جريمة اغتيال رفيق الحريري في شباط 2005، حتى انقلب موقف السنّة إلى حِقد على النظام السوري.
وبالنسبة إلى الشيعة، فقد حافظوا على علاقات تحالف مع النظام السوري، ولم يُسجَّل أي تحرُّك لهم مُناهض للوجود السوري. فتحولت “حركة أمل” وفي ما بعد “حزب الله إلى ركيزتين أساسيتين من ركائز النظام السوري في لبنان[30]. وبنتجية هذا التحالف، تبوأ نبيه بري رئاسة المجلس النيابي من دون انقطاع منذ العام 1992، في حين أضحت سورية معبراً لوجستياً لسلاح حزب الله الآتي من إيران، وأعطته الغطاء السياسي في لبنان لاستمرار مقاومته ضد إسرائيل. وعندما اندلعت “ثورة الأرز” في آذار 2005، تظاهر غالبية الشيعة دفاعاً عن سورية و”الوفاء” لها، وارتموا أكثر في حضن إيران.
أمّا الدروز، فكان هناك تحالف مستمر بينهم وبين دمشق لم يُعكّره اغتيال أجهزة المخابرات السورية كمال جنبلاط في العام 1978. فمصالح الطائفة الدرزية العليا كانت تستلزم السكوت عن الجريمة، نظراً إلى الضوء الأميركي – الدولي – العربي المُعطى للنظام السوري لممارسة هيمنته على لبنان. لكن، منذ بدء الحوار الدرزي – الماروني في بيت الدين في صيف العام 1998، بدأت تظهر انتقادات وليد جنبلاط للأجهزة الأمنية السورية – اللبنانية ومطالبتُه بإعادة تموضُع الوحدات السورية في لبنان، وبإعادة تقويم العلاقات السورية – اللبنانية[31]، ثم انفتاحه على “قرنة شهوان”، حتى قبل التمديد لرئاسة إميل لحّود، وهو ما شجّع السُنّة على الخروج التدريجي من تحت المِظلّة السورية.
أولى بشائر التحولات الدراماتيكية بين القوى اللبنانية وسورية بين العامن 2000 و2005 هي:
– الخلاف بين الحريري والنظام السوري إثر استبعاده عن رئاسة مجلس الوزراء في العام 1998، واكتساحه مقاعد دائرة بيروت في الانتخابات النيابية للعام 2000، وتصاعد المواجهة بينه وبين بشار الأسد لرفض الحريري التعهد بقبول “وديعة نيابية” لسورية في لائحته الانتخابية لعام 2005. [32]
– بيانات بكركي وقرنة شهوان المطالبة برحيل السوري وبإعادة النظر في مجمل العلاقات مع سورية، واستعادة “مزارع شبعا” دبلوماسيّاً أو قانوياً، كي لا تكون ورقةً إقليمية من أوراق النظام السوري.[33]
– التحول في الموقف الأميركي تجاه سورية عقب اعتداءات نيويورك 2001، وصدور قانون محاسبتها عن الكونغرس الأميركي في أواخر العام 2003. [34]
– القراءات الخاطئة للقيادة السورية للمتغيرات الدولية تجاهَها، وبالتالي تمديدُها عنوة للرئيس لحود في أيلول 2004 وعدم الامتثال للقرار الأممي رقم 1559 القاضي بعدم تدخلها في انتخابات لبنان الرئاسية. ويعود إصرار سورية على التمديد للحود إلى ثقتها بأن يقود حلفاءها في لبنان، وقدرته على مناكفة الحريري، والخشية من أن يؤدي انتخاب اللبنانيين رئيسهم بإرادتهم الذاتية هذه المرة من أن يخرج لبنان من تحت هيمنتها.[35]
– اعتبار الأسد أن الحريري وجنبلاط هما رأس المؤامرة ضد نظامه، ومشاركة بعض أعضاء كتلة الحريري بلقاء الكارلتون وبعده في البريستول للقوى المسيحية المعارضة. فلم تعد المعارضة محصورة بالمسيحيين، بل هي على مستوى لبنان، وأنّ الحريري هو من يحرّك الأمور. وقبل أسبوعين على الاغتيال، قال الحريري لوليد جنبلاط بحضور غازي العريضي: “يا بيقتلوني يا بيقتلوك”[36].
إنّ تكتل “المعارضة اللبنانية” للوجود السوري، بأطيافها الطوائفية، هو الذي أعطى تحرُّكها بُعداً وطنيّاً ودوليّاً، كانت الولايات المتحدة وفرنسا تحتاجان إليه لتسويغ تدخُّلهما لمصلحة لبنان، وليس لحساب فئةٍ من اللبنانيين المسيحيّين. كما كان الشريك المسيحي يحتاج إلى الغطاء الإسلامي الرافض للاحتلال السوري لإعطاء تحرُّكه بُعداً وطنيّاً، وإلّا اتُهم بالعمالة لإسرائيل، وفق مفردات سورية وأتباعها اللبنانيين.
باغتيال الحريري في شباط 2005، تصاعدت المواجهة بين السنّة وغالبية مسيحية ضد سورية، فاندلعت “ثورة الأرز” التي قابلتها القوى المؤيدة لسورية، وفي مقدمها حزب الله، بتظاهرة حاشدة وفاء لها. فانقسمت البلاد منذ ذلك الحين إلى كتلتين متنافستين 8 آذار و14 آذار، حتى قبل خروج الجيش السوري من لبنان في نيسان، ولكل منهما تحالفاتها الداخلية وارتباطاتها الخارجية. وقد زادت الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006 وملابساتها وتداعياتها من الشرخ بين الكتلتين وبين اللبنانيين كذلك،[37] خصوصاً أن حزب الله بدأ منذ ذلك الحين يفرض ظله على الأرض وعلى مؤسسات الدولة ويسلبها سيادتها على قراراتها. وسبق الحرب بشهور قليلة، عقد ميشال عون تحالفاً مع حزب الله، سرعان ما قلب الموازين الداخلية وأعطى الحزب هوية وطنية هي ليست من صفاته. [38]
إن الخلاف حول النظام الأساسي للمحكمة الدولية وبالتالي استقالة الوزراء الشيعة من حكومة السنيورة في نهاية العام 2006، ثم الاعتصام في وسط بيروت التجاري، وحدوث فراغ في الرئاسة الأولى، وإقفال المجلس النيابي لسنة ونصف السنة، أدت كلها إلى تفاقم النزاع السنّي الشيعي الذي تخللته اشتباكات في الشوارع في مطلع العام 2007 (أحداث ضبية وجامعة بيروت العربية). وتوج ذلك بمعارك نهر البارد في صيف 2007، وبأحداث أيار 2008، على خلفية قرار حكومة السنيورة نزع شبكة اتصالات حزب الله الهاتفية غير الشرعية. فانتهز الحزب هذه الفرصة الذهبية لينفذ انقلاباً ضد الدولة اللبنانية ويفرض بالتالي هيمنته على البلاد. فادعى أن مؤامرة تحاك ضده من الداخل اللبناني لكشفه أمام العدو الإسرائيلي. ورأى وزير الاتصالات آنذاك مروان حمادة، أن الشبكة “تخلُق موقعاً إيرانيّاً مهمّاً، مروراً بسورية”، وتُشكل بالنسبة إلى الحزب “الخطوة النهائية التي تسبق إنشاء دُويلته”.[39] وسبق ذلك، اندلاع الخلاف حول سلاح حزب الله الذي لم تتوصل طاولات الحوار منذ آذار 2006 وحتى اليوم إلى تسوية في شأن دمجه في إستراتيجية دفاعية وطنية. ومنذ الثورة السورية، أصبح لهذا السلاح بعد خارجي بتورطه في الحرب ضد المعارضة هناك لمصلحة الولي الفقيه والنظام السوري.
ومنذ اتفاق الدوحة 2008 الذي تلى “اجتياح بيروت” من قبل حزب الله، تغيرت موازين القوى في لبنان من جديد. صحيح أن قوى 14 آذار ظلت تحكم كأكثرية نيابية، لكنها اضطرت إلى إعطاء المعارضة اللبنانية “الثلث الضامن”، الذي أسمته قوى 14 آذار بـ “الثلث المعطّل”، وعطل بالفعل حراك الحكومة ومؤسساتها. [40] ولم تتكلل مساعي السعودية وفرنسا لرأب الصدع بين القوى اللبنانية. وكان الأميركيون في عهد الرئيس بوش يحرضون، في سياق صراعهم مع إيران وسورية، قوى 14 آذار ضد الدولتين، فساد الاعتقاد بأن الأميركيين لن يتخلوا عن “ثورة الأرز”. فطالب سعد الحريري الأميركيين بأن يُرسلوا مقاتلاتهم فوق دمشق ترهيباً للنظام، وأن ينشُروا قِطعهم البحرية في مقابل المياه السورية، في حين انتظر جنبلاط تدخُّل السفينة الحربية “يو أس أس كول” (USS Cole)الراسية قبالة الساحل اللبناني، من دون نتيجة.[41]
وبنتجة أحداث أيار، فَقَدَ المحور الأميركي – الفرنسي – السعودي في لبنان والمنطقة فعاليّتَه، وأخذ التعاملُ مع دمشق، باعتبارها مفتاح الحلّ والربط في لبنان، يتمُّ – على الأقل في العلن – بواقعيةٍ جديدة من قِبل السعودية وفرنسا، حتى أن وفوداً أميركية بدأت تزور دمشق منذ تولي أوباما الحكم في العام 2009. [42] كذلك، أخذ وليد جنبلاط ينسحب تدريجيّاً من “قوى 14 آذار”، طارحاً وسطيةً بين القوتين المتنافستين. وفي هذا السياق، حصلت المصالحة السعودية – السورية في مطلع العام 2009، وتوجت بدبلوماسية السين السين لتبريد الأزمة اللبنانية ولرأب الصدع بين تيار المستقبل والنظام السوري، وبين التيار وحزب الله حول المحكمة الدولية وصدور القرار الظني. لكن هذه الدبلوماسية ما لبثت أن سقطت بعد أيام قليلة على استقالة وزراء المعارضة من حكومة الحريري ومعهم الوزير الملك.
– تساؤلاتٌ صعبة: أيُّ مستقبل للبنان؟
هناك سؤالان يُطرحان منذ العام 2005:
أولاً: هل يمكن للتحالفات الأفقية فوق الطائفية بين القوى السياسية أن تؤدّي إلى الاتفاق على إلغاء الطائفية السياسية، أو إلى تحسين مركز المسيحيّين في المعادلة السياسية، وتحديداً في صلاحيات رئيس الجمهورية، كما يريد الموارنة؟
ثانياً: هل “الفدرالية” هي الحلّ لمعضلة لبنان الطائفي؟
والجواب بالنسبة إلى السؤالين هو: لا. فكيف ذلك؟
– الطائفية السياسية: هل يمكن إحالتها إلى التقاعد؟
منذ “اتفاق الطائف”، تُكرّر الزعامات السياسية والروحية المسيحية، وبخاصة المارونية منها، رفضها إلغاء الطائفية السياسية؛ لأنّ ذلك – بالنسبة إليها – يعني “إلغاء المشاركة والتوازن”، وتُشدّد في المقابل على ضرورة إيجاد عقدٍ اجتماعي جديد ينطلق من “الميثاق الوطني” ويكون تصحيحاً لوثيقة الوفاق الوطني[43]. وهذا يعني أن يتوافق اللبنانيون على ما “خرّبه” الطائف بالنسبة إلى المسيحيّين، والعودة إلى “الميثاق الوطني” أو ما يشابهه، والإبقاء على التوزيع الطائفي للرئاسات الثلاث وفق العُرف الراهن، مع مراجعة صلاحيات رئيس الجمهورية من ناحية تعزيزها.
وقد كرّر البطريرك بشارة الراعي بعد مجيئه إلى بكركي دعواه إلى “تصحيح” الطائف. فهل قصد البطريرك من ذلك العودة إلى “الميثاق الوطني”، وبالتالي استعادة صلاحيات رئيس الجمهورية التي فقدها بموجب الاتفاق[44]؟ وهل أراد العودة إلى “الميثاق الوطني” بالعقلية الطائفية القديمة التي ولّدت التناقضات بين اللبنانيّين، وتسبّبت بحروب في ما بينهم، وغيّبت فكرة الوطن عندهم؟، وهل يمكن اليوم العودة إلى الوراء، أي إلى “الميثاق الوطني”، بعد الذي حقّقه “اتفاق الطائف” من توافق على انتماء لبنان وهُويته، المسألة التي كانت إحدى أكبر عِلل عدم التعايش في الماضي؟ فإذا كان اللبنانيون يريدون ميثاقاً جديداً غير الطائف، فليكن ذلك، لكنْ شرط ألاّ يكون بصيغةٍ طائفية بغيضة تزيد من الشرخ المجتمعي ولا تحقق السِلم الأهلي.
إن ما يجمع بين “حزب الله” وميشال عون ليس الوفاق على النظام السياسي القائم، بل على العكس، المصالح السياسية المشتركة والمتبادلة، ويوم تُبتّ مسألة نظام لبنان المنشود بينهما بجِدّية، فلن يوافق الشيعة على تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني، كما يرغب عون، ولا على أن يمسك رئيس الجمهورية بالسلطة، كما كان عليه الحال قبل العام 1989. صحيح أنّ “حزب الله” المرتبط بتحالف مع عون منذ شباط 2006 لم يعلّق على دعوات عون إلى استعادة صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني، أو نزع صلاحيات رئيس مجلس الوزراء وضمّ هيئات الرقابة (المجلس التأديبي، والتفتيش المركزي، وديوان المحاسبة… إلخ) إلى رئيس الجمهورية، ولا على دعوة عبد الله بو حبيب، سفير لبنان السابق في واشنطن، إلى إعطاء الرئيس صلاحية حلّ المجلس النيابي وإجراء انتخابات مبكرة، على الأقل مرّة خلال عهده، إلا أنّ الرئيس برّي اعتبر أنّ دعوات عون “مش وقتها”، وليست مطلباً معقولاً. كما استنكر الرئيس عمر كرامي كلام زعيم التيّار الوطني الحرّ على وجوب تعديل صلاحيات رئيس الوزراء في ما يتعلق بنقل إشراف رئيس الحكومة على المؤسّسات الرقابية إلى رئيس الجمهورية، وصرّح أنّ “عودة رئيس الحكومة باش كاتب عند رئيس الجمهورية ليست واردة، وأنّ كلام عون كأنه طائفي”[45]. وهذا ينطبق على “التحالف” بين الحريري وجعجع والجميّل، فإنّ تقاطع المصالح هو الذي يجمع بينهم، وهم لم يطرحوا حتى الآن رؤيةً مشتركة لمستقبل النظام الطائفي السياسي اللبناني، باستثناء إشارات آحاديةٍ من هنا وهناك من قِبل أعضاء في “حزب الكتائب اللبنانية” حول لبنان الفدرالي. ولعلّ ما يُطرح في الوقت الراهن من صِيغ متضاربة لقانون الانتخابات النيابية في العام 2013، وسَير “القوات اللبنانية” و”حزب الكتائب اللبنانية” وراء المشروع الانتخابي الأرثوذكسي،[46] على عكس “تيار المستقبل”، يشير إلى تقاطع المصالح هذه، ويدلّ على أنّ لبنان لا يزال بعيداً عن أن يكون وطناً، وإنما هو مزرعة طوائفية. ولهذا السبب، فالنظام الطائفي باقٍ وراسخ. فأين يكمن الحلّ إذن؟
– ديمقراطية الأكثرية والمُثالثة والثلث الضامن: ثلاثة وجوه قبيحة لطائفية/مذهبية واحدة
قد يصحُّ القول إنّ المذهبية هي بنتُ الطائفية والوجهُ الآخر القبيح لها، خصوصاً عندما يكون هناك شرخ سياسي على صعيد الوطن. فخلال حرب لبنان وبعدها، كانت هناك دعوات شيعية إلى تطبيق ديمقراطية الأكثرية، أي أن يحكُم المسلمون باعتبارهم الطائفة الأكبر عدداً. حتى هذا التصور، وإنْ غُلّف بعبارتَي “الديمقراطية” و”الأكثرية”، فهو طائفي محض، ذلك أنّ الذين يدعون إليه ينطلقون من صفتهم الطائفية وليس من كونهم مواطنين لبنانيّين يتساوون مع شركائهم في “الوطن”. وبما أنّ الشيعة هم الطائفة الإسلامية الأكبر – وفق إحصاءاتهم – فإنّ السير في هذا المشروع يؤدّي لا إلى إخافة المسيحيّين من هيمنةٍ شيعية فحسب، بل إلى إخافة المسلمين السنّة أيضاً. فأثناء انعقاد مؤتمر الطائف في خريف العام 1989، جرى اقتراح “المُثالثة” بين الطوائف، لكن الاقتراح لم يُؤخذ به. وبعد الاتفاق الذي نجم عنه، كانت هناك دعوات لاستبدال الاتفاق القائم على المناصفة بالمثالثة في التوزيع، وأن يكون للشيعة حِصّة الثلث وحدهم في توزيع المناصب، ويكون الثلث الآخر لباقي المسلمين (السنّة والدروز والعلويّين)، والثلث الأخير للمسيحيّين، فيتحوّل لبنان بذلك إلى ثلاث كُتلٍ طائفية، كلٌّ منها – باستثناء الكتلة الشيعية – تملك حق التعطيل، شرط التوافق بين المكوّنات المذهبية لكل واحدة. وفي حال عدم الاتفاق بين المسيحيّين، أو بين المسلمين من غير الشيعة، ينفرد الشيعة بحق “الفيتو” وحدهم، وفي حال تحالُف الشيعة مع طائفة أخرى، فإنهم يملكون الأغلبية المطلقة[47]. من هنا، فإنّ “المثالثة” تنتقص من حضور المسلمين السنّة والمسيحيّين بشكل خطير، على الرغم من أنّ الأوّلين يتصدّرون ديمغرافيا لبنان. وهذا مُناقض تماماً للعيش المشترك وللديمقراطية التوافقية.
وفي كل الأحوال، وفي ضوء تعذُّر الوصول إلى المثالثة، فقد اعتُمدت بعد “اتفاق الدوحة” في العام 2008 صيغة “الثلث الضامن” في تشكيل الحكومة[48] الذي يتحكّم من خلاله “حزب الله” وحلفاؤه ببقاء الحكومة أو رحيلها، وفي اتخاذ القرارات الحكومية. صحيح أنّ حلفاء الحزب هم من المسيحيّين والسنّة والدروز، إلاّ أنّ الصحيح أيضاً أنّ الطائفة الشيعية من خلال “حزب الله” وبدرجةٍ أقل “حركة أمل”، هي من يتحكم بالحكومات اللبنانية منذ مطلع العام 2011.
ولا شكّ في أنّ إعلان السيد حسن نصر الله “الطلب” من النائب نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة، بعدما اعتذر الرئيس عمر كرامي عن ذلك، هو دليلٌ على تغييب “الديمقراطية التوافقية”. صحيح أنّ التكليف سار في مساره الدستوري – استشارات نيابية أجراها رئيس الجمهورية- إلاّ أنّ تدخُّل نصر الله في مسألة اختيار كرامي ثم ميقاتي، أعطى الانطباع بأنّ التكليف كان كيديّاً وإملاءً شيعيّاً. من ثَم، فقد اتّهم النائب عن “تيار المستقبل” أحمد فتفت نصر الله بأنه يريد أن يفرض على لبنان رئيساً للحكومة لا ينسجم مع الواقع، وأنه يتصرف وكأنه أعلى من المؤسّسات ومن رئيس الجمهورية ومن الاستشارات[49].
هل الحل في الدولة الفدرالية؟
– لبنان الفدرالي: مشروع حلّ أم للتقسيم؟
كانت الفدرالية خلال العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين مشروعاً إسلاميّاً، ذلك أنّ المسلمين، بعدما رفضوا “دولة لبنان الكبير” ودولة الانتداب الفرنسي، وخافوا على حضورهم السياسي والاجتماعي، في ظلّ هيمنةٍ مارونية على لبنان، اعترضوا على عدم إلحاقهم بسورية، فاقترحوا تحويل لبنان الكبير إلى فدراليات، من دون أن يُستجاب لدعواتهم، فضلاً عن عدم تحمُّس موارنة لبنان في ذلك الحين لمثل هذا المشروع.
صحيح أنّ الدعوات في لبنان إلى الفدرالية لا تزال خجولة، ولا تحظى بأية شرعية في الثقافة السياسية اللبنانية، إلاّ أنّ لبنان انقسم بعد الطائف عمليّاً إلى أربع “فدراليات”، وهي[50]:
1- الكانتون الشيعي من الناقورة إلى مشغرة في البقاع الغربي من دون انقطاع، ثم مع
انقطاع بين 50 – 70 كلم، ليعاود اتصاله في البقاع الأوسط صعوداً حتى الهرمل..
مع الضاحية الجنوبية وبعض أحياء بيروت الغربية.
2- الكانتون الدرزي الممتدّ على قضاءَي الشوف وعاليه ومرتفعات قضاء بعبدا، ثم مع
انقطاع من ناحية الشرق، إلى أن يعاود اتصاله من حاصبيا إلى راشيا.
3- الكانتون السنّي، ويضمّ المناطق الأكثر تقطُّعاً، وهي: بيروت الغربية، وطرابلس
وامتدادها الساحلي بين المنية والقلمون، وصيدا، وعكار، والضنّية، إلى البقاعَين
الأوسط والغربي حتى العرقوب.
4- الكانتون المسيحي، ويمتدّ من كفرشيما حتى زغرتا، بطولٍ يبلغ حوالى 80
كيلومتراً، إضافة إلى بيروت الشرقية.
وضِمن هذه الكانتونات، يرى كمال ديب، أن هناك سبعة “مايكرو كانتونات” (غيتوات) طائفية ومذهبية على مستوى بيروت الكبرى، وُلدت خلال الحرب، ولا تزال، وهي: الضاحية الجنوبية الشيعية، تحت سيطرة “حزب الله”، وجنوبها الضاحية الدرزية وتضمّ خلدة والشويفات وعرمون، وتتصل بالجبل الدرزي، وهي تحت نفوذ طلال أرسلان ووليد جنبلاط، والضاحية الأرمنية في شرق الأشرفية، وهي شبه منعزلة اجتماعيّاً عن بيروت الكبرى، والضاحية الشرقية المسيحية عند كفرشيما مروراً بالحدث وعين الرمّانة، وشرقاً حتى الدكوانة وسدّ البوشرية وسنّ الفيل، وهي متصلة شمالاً بالكانتون المسيحي. وهناك منطقة مسيحية تمتدّ من وسط بيروت التجاري حتى “المتحف الوطني”، وتطلّ على نهر بيروت، وهي متصلة بالضاحية المسيحية في شرق بيروت وشمالها. أمّا “بيروت السنّية، فتضمّ أحياء رأس بيروت، والروشة، والزيدانية، والمصيطبة، والطريق الجديدة بشكل خاص. وهذه المناطق معزولة عن المناطق والمدن التي يتمركز فيها السنّة. وأخيراً، هناك “بيروت الشيعية” وقد نمت خلال الحرب وبعدها، وتضمّ أحياء برج أبي حيدر، والبسطة، والخندق الغميق، وحي اللجا، ولها معابر إلى الضاحية. وتُعتبر الضاحية الجنوبية أهمّ معالم الكانتون الشيعي وحقيقةً واقعة على الأرض”[51].
وعلى الصعيد السياسي، تغيب الفدرالية في الوقت الراهن عن خطاب جعجع، لكنها تُطرح من حينٍ إلى آخر من قِبل أوساط في “حزب الكتائب اللبنانية” كحلّ للمعضلة اللبنانية[52]. ويتردّد هذا الطرح على لسان الرئيس أمين الجميّل وبشكلٍ متكرّر على لسان نجلِه النائب سامي. وقد أسّس الأخير “حِلف لبناننا” في خريف العام 2007، الذي طالب بإقامة “النظام المناطقي أو النظام الفدرالي”، مُدّعياً أنهما لا يؤدّيان إلى تقسيم لبنان أو تجزئته، بل إلى وضع آليةٍ لاستيعاب التنوع اللبناني ضِمن وحدةٍ حضارية. وبرأي “الحلف”، فإنّ بإمكان اللبنانيّين أن يختاروا النظام الفدرالي الروسي، الذي يضمّ “مناطق” تسكُنها أقلّيات تعيش بخصوصياتها الثقافية والاجتماعية في محيطٍ أكثري، أو اعتماد النظام البوسني أو الكندي، حيث يلحظ الأول تعيين وسيطٍ من الحكومة المركزية لضمان حقوق الأقلّيات في الأقاليم الفدرالية، في حين أنّ ثمة محكمةً دستورية كندية تسهر على حقوق الأقلّيات وحرّياتهم[53].
ويعتقد النائب سامي الجميّل أنّ الفدرالية هي الحلّ الوحيد لمشاكل لبنان المُزمنة، بعد فشل صيغة العام 1943 واستحالة تطبيق العلمنة الشاملة، ويعتبر أنّ “اتفاق الطائف” بُني على أساس صيغة العام 1943 التي فشلت، ويتساءل عن سبب التمسُّك بالطائف ما دام أنه – كصيغة العام 1943- يُدخل الطوائف اللبنانية في صراع دائم، بسبب خوفها بعضها من بعض. ولا يُفضّل الجميّل النظر إلى المجموعات على أنها طوائفُ دينية، بل باعتبارها مجموعاتٍ ثقافيةً وعاداتٍ وتقاليدَ وطرائق عيش. ويعتقد أنّ تطبيق الفدرالية سيجعل الطوائف تعيش في حالة أمانٍ ومن دون قلق، ما يجعلها تُوقف تطلُّعها نحو الخارج، وتركّز اهتمامها على التنمية والخدمات. كما يؤكّد أنّ محكمةً دستورية مركزية تستطيع الحفاظ على حقوق الأقلّيات الدينية في الفدراليات، على أنْ تُدار الأمور في الفدراليات من قِبل الأكثرية السكّانية. ويختم الجميّل بالحديث عن مُكوّنات النظام الفدرالي المركزي: مجلس نيابي، ومجلس شيوخ، وحكومة مركزية تهتمّ بسياسة الدفاع والسياسة الخارجية والسياسة المالية العامة، ومحكمة دستورية عُليا لحفظ الحقوق والفصل في النزاعات[54]. ومؤخراً، أعلن عضو المكتب السياسي لحزب الكتائب سجعان قزّي أنّ اللبنانيّين أمام أحد خيارَين: إمّا تقسيم لبنان، وإما الفدرالية[55].
وبالإضافة إلى تصوُّر سامي الجميّل للحلّ الفدرالي، يحدّد أحد دُعاة الفدرالية في لبنان[56]، في معرض تسويقه لها، خمسة أسبابٍ اجتماعية وسياسية توجب التحوّل إليها:
أ- كون المسلمين يُربّون أولادهم ويُعلّمونهم تربيةً دينية مبنيّة على القرآن.
ب- تطلُّع المسلمين إلى رئاسة الجمهورية لانتزاعها من أيدي المسيحيّين.
ج- رفض المسيحيّين أن يعيشوا تحت حُكم دولةٍ إسلامية.
د- الطائفية المجتمعية التي تؤدّي إلى التصادم بين خصوصيات الطوائف، وتمنع التلاقي بين
مُكوّنات الشعب اللبناني.
هـ- ظهور سُنيّة سياسية منذ العام 2005، وشيعية سياسية منذ العام 2008.
لذا، يرى الباحث المذكور أنّ إقامة فدرالية، “أي اتحاد طوائف” لا مركزي مدني، أمرٌ ضروري لتحقيق “عدالة سياسية وإنمائية على السواء، لكافة المكونات والمناطق والأفراد”، ويطالب بأن يُعبّر شكل الدولة الدستوري عن “البنية التحتية المجتمعية، ليأخذ كُلُّ ذي حقٍّ حقه، فيسُود الاستقرار والتلاقي”، مُقترِحاً إنشاء مجلس رئاسي من الطوائف الكبرى الستّ لمعالجة الخللَين التوازني والتمثيلي في الحكم والسلطة، ويعتبره علاجاً لمسألة أنّ القرآن يأمُر المسلمين بأن يكون حاكمُهم مسلماً، وفق الآية (51) من سورة المائدة، التي تنهى المسلمين عن أن يُولُّوا عليهم غير مسلمين.
ينطلق الباحث من فكرةٍ أساسية تقوم على الخوف من “الآخر” المسلم. فيحاول تسويغ عدم إمكان التعايش بين المسيحي والمسلم، واضعاً المسلمين كلّهم في سلّةٍ واحدة (المسلم المتديّن، والمسلم الأصولي، والمسلم “الإرهابي”، والمسلم الليبرالي، والمسلم العَلماني) ليصل إلى أن الفدرالية هي الحلّ النهائي لمعضلة لبنان التعدُّدي وللعلاقات بين المسيحيّين والمسلمين، وعدم استيلاء الآخرين (المسلمين) على الدولة في لبنان بطُرقٍ ديمقراطية، وأسلمتِها. أمّا المجلس الرئاسي المركزي الفدرالي، فيرى أنه “سيُنتج عدالةً سياسية وإنمائية لكلّ المكوّنات والمناطق والأفراد”، ويجعل الدولة الفدرالية “دولةً حيادية لا تدخل في النزاعات والمحاور القريبة منها والبعيدة…”.
هذه الآراء وغيرها تحمل مغالطاتٍ عدة، وهو ما يجعلنا نطرح الأسئلة التالية: ألن يتكوّن المجلس الرئاسي من رؤساء الطوائف في الأقاليم؟، ألن يُمثّل كلُّ رئيس فدرالي طائفته؟، هل سيغّير هؤلاء الرؤساء الطائفيون في لبنان الفدرالي عقولهم وأحاسيسهم الطائفية ويتحوّلوا إلى وطنيّين وعَلمانيّين؟ وهل هناك ضمانات في لبنان بأن تكون المحكمة الدستورية العليا المكان النهائي لحلّ النزاعات بين الفدراليات وتأمين حقوق الأقلّيات، كما يريد الجميّل؟، وهل بالإمكان في لبنان الاتفاق على دستور مُوحّد للاتحاد الفدرالي، بعيداً عن إرادات الطوائف والمذاهب؟، وعندما تنتقل رئاسة الاتحاد الفدرالي إلى الرئيس الطائفي “السابق”، هل سيعمل لصالح الفدراليات، أم لصالح طائفته[57]؟…
وحول قول الجميّل إنّ الحكومة المركزية تأخذ على عاتقها الاهتمام بالسياسات الخارجية والدفاعية والمالية العامة، نطرح السؤال التالي: كيف سيتفق رؤساء الفدراليات على السياسة الدفاعية وعلى السياسة الخارجية وهم لم يتفقوا عليهما يوماً في لبنان الموحّد، لا سيما أنّ كل طائفة في الفدرالية ستصبح –حُكماً- أكثر تعلُّقاً بالخارج وأكثر انجذاباً إليه وخضوعاً له[58]، لتستقوي به على الفدراليات الأخرى؟ فالشيعة – على الأقل مَن يتبع “حزب الله” منهم- سيتطلّعون إلى إيران، بينما سيتطلّع السُنّة إلى السعودية، وربّما إلى سورية في حال سقط النظام البعثي هناك وقام مكانه نظامٌ آخر سُنّي منفتح عليهم (مخاوف البطريرك الراعي). وفي سياق هذا الإسلام الإقليمي الشيعي والسنّي المُثير للخوف، قد يتطلّع الموارنة مجدداً إلى إسرائيل طلباً للحماية، أو قد تسعى الأخيرة إلى استقطابهم، كما فعلت في السابق، عبر استغلال مخاوفهم ممّا يدور حولهم وما قام في إقليمهم من فدراليات مذهبية.
ثم إذا ما جرى الاتفاق على تحييد لبنان عن الصراعات الخارجية القريبة والبعيدة، فما الذي يضمن وقوف الفدراليات بعضها إلى جانب بعضٍ في التصدّي للخارج إذا ما اعتُدي على إحداها، أو إذا كانت إحدى الفدراليات هي المُعتدية على الأخرى؟ والدولة الفدرالية هي تلك المؤسسة التي لديها صلاحيات إعلان الحرب وإبرام السلام، وتُشرف على النظام النقدي وعلى العملة المتداولة، وعلى التجارة الخارجية والجمارك والهجرة، وهي التي تفترض سلطة مركزية تضمن الترابط والتضامن بين الكيانات المنضمّة إلى الفدرالية… إلخ، في مقابل احتفاظ الدول الفدرالية بسلطاتٍ تتعلّق بمصالحها المحلّية[59]. وأخيراً، كيف سيتم في لبنان الفدرالي التعدُّدي الاتفاقُ على سلاح “حزب الله” وعلى العلاقة بدول الخارج، وهو أحد أهم مُسوِّغات مُطالبة الموارنة بالفدرالية، في حين فشل لبنان المركزي في ذلك؟![60]
وفي هذا السياق، يُشكّك الباحثان إدمون ربّاط وكمال ديب – في معرض خوفهما على لبنان الموحّد من النظام الفدرالي – في إمكان الاتفاق في لبنان على نظام فدرالي وابتداع جهازٍ مشترك ينسّق بين الدول التابعة للفدرالية، فضلاً عن الاتفاق على الصلاحيات المنوطة بهذا الجهاز، وبخاصة في مسائل السياستَين الخارجية والدفاعية. ويطرح ربّاط فرضيّة أنّ الطوائف اللبنانية قبلت جميعُها بالصلاحيات الفدرالية، وبوجود حكومةٍ مركزية عليا (الحكومة الفدرالية) أعضاؤها مُمثّلون عن الوحدات المحلّية التي هي الطوائف اللبنانية، ويتساءل عن “الإرادة التي ستطغى عندئذ دخل كذا (داخل) الحكومة الفدرالية؟ ومن الذي يرجّح الكفّة عند العزم على اتخاذ قرار نهائي المسيحيون أم المسلمون؟ وما الذي يحول دون أن تسعى كل طائفة من الطوائف داخل المحكمة المذكورة إلى تحقيق غلَبتِها وهيمنتها؟”[61].
وأمّا كمال ديب، فيرى أنّ الوضع في لبنان هو عكس ما هو في الفدراليات الغربية، “ذلك أنّ السلطات المفترضة للدولة المركزية هي بالضبط ما اختلفت عليه أطراف الصراع الداخلي (السياسة الخارجية ومسائل الحرب والسلم). فكيف تستطيع الدولة الفدرالية أن تحافظ على وحدة البلاد إذا كانت الموضوعات الجوهرية المُفتَرض أن تكون عماد السلطة المركزية هي محلّ خلاف؟، وبالتالي، [فإنّ] الكلام عن الفدرالية بوصفها حلّاً لفشل الصيغة [كلام سامي الجميّل] ليس صحيحاً، بل المقصود هو الكونفدرالية أو التقسيم. وأي تسوية جديدة سيراها السنّة أو الشيعة وحلفاؤهم على حساب “مكتسباتهم” قد تكون مدخلاً لحروب جديدة أو سقوط الدولة اللبنانية”[62].
وهذا يجعلنا بدورنا نضيف إلى ما قاله ربّاط وديب، أنّ اتخاذ القرار الفدرالي لن يكون بين الطائفتين الرئيستَين، المسيحية والإسلامية، بل داخل كُلٍّ منهما من مذاهب وقوى وفعاليّات وأحزاب، حيث يستطيع “حزب الله” في الوقت الراهن أن يفرض إرادته، ليس على الطائفة المسيحية في المجلس الفدرالي فحسب، بل على الطائفة الإسلامية كذلك، من سُنّة ودروز، بل حتى على كلّ اللبنانيّين.
من هنا، فإنّ تحرُّك الفدراليات الطوائفية سيأخذ الشكل التالي:
1- أنْ تعمد الطائفة ذات الأكثرية العددية في الدولة الفدرالية، في ضوء ثقافة عدم الاعتراف بالآخر، إلى فرض هيمنتها على الطوائف أو المذاهب الأخرى الأقلّ حجماً التي تعيش تحت سيادتها. وفي هذه الحالة، تكون الأقلّيات الدينية أو المذهبية عمليّاً تحت رحمة الطائفة الأكبر[63]، ما يؤدّي إلى حدوث توتُّر ونزاعات.
2- أن تقوم الطائفة ذات الأكثرية العددية بتطهير مناطقها من الأقلّيات الدينية أو المذهبية للوصول إلى حالة صفاءٍ أو نقاء طائفي أو مذهبي في حيّزها الجغرافي، مُتوسِّلةً في ذلك العُنفَ والتخويف والتهجير. وتاريخ جبل لبنان خلال الحرب الأهلية عام 1860، وبين العامَين 1975 و1990 حافلٌ بالأمثلة على التطهير الطائفي والتهجير.
3- أن تكون طائفةٌ معيّنة مُقطّعة الأوصال في الأقاليم الفدرالية المُزمَع إنشاؤها، ولا تتمكّن من تشكيل وحدةٍ بشرية متصلة ومتواصلة. فإمّا أن يخضع بعض مجموعاتها لسيطرة الطائفة الأكبر حجماً في الحيّز الجغرافي، أو أن ينزح، طوعاً أو قسراً، إلى مناطقَ تسود فيها جماعته الطائفية أو المذهبية.
إن الفدرالية القائمة على الجغرافيا تستلزم تجانُس كلّ طائفة في منطقة سكنها. ولكن هذا لم يؤدّ إلى حلّ في السابق، وأدّى إلى سقوط “نظام القائمقاميّتين” الذي لم يحافظ على الأقلّيات الدينية، ما أدخل لبنان في حربٍ أهلية في العام 1860[64]. فكيف سيؤسّس السنّة إقليمهم الفدرالي اليوم وهم مُقطَّعُو الأوصال، في الوسط والشمال والجنوب والبقاع الغربي، وينتشرون في كلٍّ من مُدن بيروت، وطرابلس، وصيدا؟! وما الذي سيكون عليه الإقليم الفدرالي المسيحي، الذي يتنشر أفراده في خارج كسروان، البقاع والجنوب؟!، وهذا ينطبق على الشيعة، الذين سيكون بعضهم ضِمن الإقليم المسيحي في كسروان، في حين سينقطع التواصل بين شيعة الجنوب وشيعة البقاع. وكيف سيتمّ الاتفاق على بيروت عاصمةً للجميع، وثُلثا سكّانها من المسلمين؟!.
والسؤال الأكبر الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو: ماذا ستفعل الفدراليات بأتباع الطوائف الأخرى من الأقلّيات في داخل أقاليمها: هل ستُهجّرها، أم ستقضي عليها بالسكّين؟! يرى سامي الجميّل أنّ بالإمكان إبقاء الأقلّيات في أمكنتها وحمايتها بالمحكمة الدستورية، وأن تُدار الأمور من قِبل الأكثرية المناطقية، بمعنى أننا سنعود إلى منطق لبنان الطوائفي والطائفي، حيث هناك أكثريةٌ وأقلّية، وهو ما يرفضه “القوميون اللبنانيون” و”القوميون الفدراليون” اليوم في لبنان الموحّد. وعندما يرفض المسيحيون في لبنان الموحد نظرية حكم الأكثرية “الإسلامية” للأقلّية “المسيحية”، فهل ستقبل الأقليات المسيحية أو حتى الإسلامية الخضوع لحكم أكثرية من غير دينها (نظرية سامي الجميّل حول حكم الأكثرية للأقلية)؟ ومعنى ذلك أننا سنعود إلى المشكلات الطائفية السياسية نفسها التي يعاني منها لبنان الموحّد. ثم، مَن الذي يقوم بتنفيذ قرارات المحكمة الدستورية في ما له علاقة بشؤون الأقلّيات إذا ما تعرّضت للأذى أو الاضطهاد؟ وإذا ما تعرّضت أقلّية مسيحية في أحد الأقاليم الإسلامية للظلم، على سبيل المثال، وتطلّب ذلك استخدام القوّة لرفع الظلم عنها، فهل يضمن النائب الجميّل أن تشارك الأقاليم “الإسلامية” في فرض سلطة الدولة الفدرالية بالإكراه، أو القيام بحملةٍ عسكرية لإحقاق العدل؟.
فضلاً عن كلّ ذلك، يتمتع المواطن في دساتير الدول الفدرالية بحرّية التنقل بين دول الاتحاد والتملّك[65]، فماذا لو حدث نزوح من إقليم فدرالي إلى إقليم آخر ضِمن الاتحاد الفدرالي، وأراد أفراده شراء أراضٍ في “إقليمهم الجديد”؟، أوَليس يخاف المسيحيون اليوم ويقلقون من عمليات استحواذ المسلمين على أراضيهم؟ وماذا يحدث إذا ما تغيّرت الديمغرافيا بفعل التكاثر السكّاني عند الأقلّية في أحد الأقاليم، على عكس ما تشتهيه الأكثرية؟، فهل سيخرّب “النموّ غير الطبيعي” المستجدّ في الإقليم الفدرالي بعد زمنٍ معيّن “العيش المشترك” بين “اللبنانيّين”، أو عبر مُطالبة الأقلّيات الطائفية بحقوق تضُنّ بها عليها الأكثرية؟، وهل يمكن للمسلمين في بيروت، سُنّةً وشيعة ودُروزاً، إعلان فدرالية، ويتمّ بعد ذلك الاتفاق على مصير ثلث سكّانها غير المسلمين، أم أنّ العاصمة مهمة جدّاً للجميع، فيتقرّر أن تبقى بيروت موحَّدةً وعاصمة مركزية للاتحاد؟…
يبيّن الجدول الآتي التداخل السكاني الطائفي في مختلف المناطق اللبنانية، بغضّ النظر عن حجم أفراد الطائفية، وهو ما أدّى إلى تداخل المصالح الاقتصادية لأتباع الأديان المختلفة، وفق ما يُسمّى بـ”العلاقات الوظيفية”، حتى في زمن الصراعات والحروب. لذا، من الصعب الافتراض أنّ الأقلّية ستقبل بحكم الأكثرية، وأنه في الإمكان حدوث تبادُلٍ للأقلّيات الدينية من منطقة إلى أخرى، من دون مشكلات. يقول أحد الباحثين المعاصرين: “أيُّ عبقري يستطيع أن يقسّم هذا الخليط من الطوائف والمذاهب إلى “كانتونات” جغرافية تتميز بالصفاء الطائفي، أو المذهبي، دون أن يقوم بمجازرَ طائفيةٍ أو مذهبية تؤدّي إلى نوع من “الترانسفير” للأقلّيات في كلّ كانتون؟ ومن يستطيع أن يتحمّل الوزر الإنساني والتاريخي لمثل هذا العمل الرهيب؟”[66].
إحصاءات تقريبية معاصرة حول الطوائف التي تشكّل أكثريةً وأقلّية دينية في الأقضية[67]
القضاء |
نسبة المسيحيّين |
نسبة المسلمين |
ملاحظات |
بشرّي |
99 % |
1% |
|
زغرتا |
95% |
5% |
|
الكورة |
91% |
9% |
|
عكار |
33% |
67% |
|
البترون |
96% |
4% |
|
كسروان |
95% |
4% |
|
جبيل |
86% |
14% |
12 %سنة/ 2 %شيعة |
زحلة |
63% |
37% |
|
راشيا |
10% |
90% |
|
جزين |
65% |
35% |
|
حاصبيا |
10% |
90% |
|
بنت جبيل |
6% |
94% |
|
النبطية |
4% |
96% |
|
بعلبك |
9% |
91% |
|
الضنّية |
5% |
95% |
|
بعبدا |
55% |
45% |
|
بيروت |
40% |
60% |
|
الشوف |
30% |
70% |
الدروز ضمن المسلمين |
المتن |
86% |
14% |
|
عاليه |
30% |
70% |
الدروز يشكلون الأكثرية الإسلامية |
طرابلس |
7 % |
90% |
3 %علويون |
وفي ضوء صِغر مساحة لبنان وضعف موارده الاقتصادية، وما قد تسفر عنه الفدرالية من تشرذم أو توزُّعٍ لموارد لبنان الموحّد على الأقاليم، وربما تفوُّق الواحد منها في موارده وقواه البشرية على الآخر، فكيف سيكون مستقبل اقتصاد لبنان الفدرالي؟ ألم تكن هناك دعوات مسيحية مزمنة أثناء عهد المتصرفية إلى ضمّ سهل البقاع ومدنٍ ساحلية إلى جبل لبنان؛ لأهمّيتها الحيوية الاقتصادية بالنسبة إلى الجبل؟ ألم يُوْلِ البقاع، اقتصاديّاً، وجهه شطر الشرق – نحو سورية- أثناء العهد العثماني وفي عهد المتصرّفية؟ وهل ستكون موارد المياه والأرض والقوى البشرية العاملة وغيرها من الثروات متوافرةً بشكلٍ متوازن لكل الطوائف في الدولة الفدرالية، فإنّ أي خلل في هذا يعني إمكان حدوث صراعٍ دموي حول ترسيم الحدود وعلى الموارد والمنافذ والسهول، قد يؤدّي بالتالي إلى التقسيم؟. فماذا ستفعل الطوائف التي لا تتمتع بمنافذَ حيويةٍ على البحر، أو تلك التي لا تمتلك الثروات، ونحن على أبواب مرحلة النفط والغاز؟ وهل سيكون للهرمل وبعلبك حصة في نفط “الساحل”؟ وهل هناك ضمانات بعدم حدوث صراعات وحروب على الثروات القادمة؟
وفي لبنان المركزي، جرى مؤخّراً الاتفاق على اللجنة التي ستُشرف على النفط والغاز، لكنّ المسألة تحتاج بعد ذلك إلى تلزيم استخراجهما، في ضوء تسابُق زعماء الطوائف على الحِصص. فكل فريقٍ طائفي يريد حصّته أو حصةً لطائفته. وإذا انحصرت هاتان المادّتان الاستراتيجيتان افتراضاً في الساحل مقابل جنوب لبنان، فمعنى ذلك أنّ نزاعاً سوف ينشأ بين الإقليم الشيعي، الأقرب جغرافيّاً إلى النفط والغاز من غيره من أقاليم الفدراليات، وبين غيره من الأقاليم. وكيف سيحصل سُنّة صيدا وشيعة بعلبك ومسيحيي حاصبيا على حِصّتهم من الثروة؟ ثمّ أليست للفدرالية المسيحية والدرزية حقوقٌ في هذه الثروة، وكذلك الدولة المركزية؟.
في العراق الفدرالي، يكاد الاتحاد أن يتصدّع بسبب الخلاف بين الإقليم الكردي والحكومة المركزية على الحدود وعلى حقوق الحكومة المركزية وحصة الإقليم في ثروته وفي بيع نفطه بنفسه[68]. والشيء نفسه حصل حول النفط في أبيَى بين السودان وجنوبه الذي انفصل عن شماله.
بناءً على كل ما تقدّم، يمكن للنظام الفدرالي أن يكون مشروع حربٍ بين الطوائف اللبنانية حول مصير الأقليات الطائفية في الفدراليات وحقوقها، وحول ترسيم الحدود، والمنافذ والموارد والثروات، من دون أن ننسى الخلافات حول السياستين الدفاعية والخارجية. وكل هذا سيؤدّي إلى تقسيم لبنان وظهور دُويلاتٍ مذهبية تحلّ محل الاتحاد الفدرالي، وعندئذ قد لا يكون بإمكان “اللبنانيّين” العودة مجدّداً بقواهم الذاتية إلى لبنان الطائفي الموحّد السابق إلاّ بتدخل خارجي[69]، وهو أمر مُستبعَد في ظلّ الخلافات الدولية، وبخاصة بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها، وهو ما رأيناه بوضوح في المواقف من الثورة السورية ومن المِلف النووي الإيراني. فضلاً عن أنّ العودة إلى لبنان الطائفي تعني العودة إلى التناحر والتنازع، كما كان عليه الحال قبل الفدرالية والتقسيم.
وإذا كان أفق الفدرالية مسدوداً أمام اللبنانيّين؛ بسبب الاعتبارات التي أتينا على ذِكرها، فإنّ الدعوات المتزامنة – المُستترة والعلنية- إلى أسلمة لبنان، سواء من قِبل “حزب الله”[70]، أو من قبل تيارات سلفيةٍ سُنّية متشدّدة، أو على أقل تقدير اعتماد مظام ديمقراطي أكثيري يتيح للمسلمين تسيير دفة الدولة وفرض ثقافتهم عليها. كما يخشى الموارنة من تحالُفٍ سُنّي – سنّي على مستوى سورية ولبنان[71]، هو على درجة من الخطورة بقدر الفدرالية، وقد تؤدّي إلى فرار المسيحيّين من لبنان ومعهم بعض المسلمين المُتنوّرين، ودقّ “إسفين” في التعايش الإسلامي – المسيحي.
– هل الحلّ في الدولة المدنية؟
في ضوء انسداد أفق النظام الطائفي السياسي اللبناني، وكذلك النظام الديمقراطي الأكثري ومشروع الفدرالية، فأين يكمن الحلّ إذاً؟
لقد ختمت كتابي “حرب لبنان” بالسؤال التالي: “كيف يمكن إلغاء نظامٍ طائفي سياسي اجتماعي من دون تهميش الطوائف المسيحية وإثارة مخاوفها من هيمنة إسلامية؟ وكيف يمكن جعل نظام لبنان ديمقراطيّاً أكثريّاً من دون تسلُّط المسلمين عليه؟، بمعنًى آخر: كيف يمكن جعلُ أبناء الطوائف الدينية ينظرون إلى أنفسهم على أنهم لبنانيون أوّلاً، ويرون لبنان الوطن في هُويّتهم؟”[72]. واليوم أجيب بأنّ الحلّ هو في الدولة المدنية الديمقراطية العادلة، التي يُشترط لإيجادها أن تتوافر الإرادةُ الجماعية الصادقة، لأنّ قرار إقامتها لا يأتي من فوق، ذلك أن البنية التحتية المجتمعية الطائفية هي المُحدِّد لقبول الدولة المدنية أو رفضها. إنّ إمكانية قبول المسيحيّين بدولةٍ مدنية هي أكبر من قبول المسلمين، باعتبار أنها – وفق تفسير رجال الدين المسلمين- تتناقض مع شريعة القرآن، إذ حتى الزواج المدني الاختياري رفضَه المسلمون، رجالَ دينٍ وساسةً وجماهير، فكيف سيقبل المسلمون بهذا النمط من الدولة؟!
نحن نعترف بصعوبة إسقاط الدولة المدنية على مجتمع طائفي، ولكنْ أليس من الأفضل أن “نجرّب” هذه المحاولة، بدلاً من الذهاب إلى الفدرالية كحلٍّ متطرّف أشدّ خطورةً على لبنان، كِياناً ووحدة شعب؟ من الأفضل والأجدى أن نبني الدولة المدنية الديمقراطية العادلة والأكثر أماناً، على أنْ نبقي على النظام الطائفي أو نسير من تلقاء أنفسنا إلى الهاوية في مشروع فدرالي سينشأ عنه حتماً تقسيمٌ للبنان؛ للأسباب التي عرضناها للتو. فإذا فشلت الدولة المدنية يبقى لبنان موحّداً، ويفتّش اللبنانيون عن حلّ آخر. أمّا إذا اعتمدنا الفدرالية وفشلت، فمعنى ذلك أنْ لا خيار أمام الفدرالية الطوائفية سوى التحوُّل إلى دولٍ مستقلة، أي تقسيم لبنان.
في الدولة المدنية تزول الخلافات حول المصالح المُحقّة وغير المحقة، ويتقارب أبناء الشعب الواحد، وتنبثق وحدةٌ مجتمعية تؤسّس لوحدةٍ وطنية يشعر كل فرد منهم، في ظل نظامٍ ديمقراطي عادل، بأنه مُتساوٍ مع “الآخر”، وأنه يتمتع بالحقوق والواجبات نفسها، ومنتفع مثله بثروات البلد، ولا يشكل الواحد منهم تهديداً للآخر. فيقوى الداخل اللبناني ويتماسك في مواجهة الجيو- سياسة ومؤامرات الخارج. صحيح أنّ هذا التحول هو طريق طويل وصعب ويتطلب التحضير بالتربية على المواطنة، وحظر الأحزاب الطائفية، وتخفيف حِدّة الطائفية والمذهبية المجتمعية، فضلاً عن قبول المسلمين بدولةٍ مدنية أو علمانية، إلاّ أنه يبقى الحلّ الوحيد المتوافر والأضمن للمستقبل.
ورُبّ سائل: ماذا نفعل بالأديان، حيث يتخوّف البعض من أن تكُون الدولة المدنية ضدّ الدين؟ والجواب أنّ الدولة المدنية على الرغم من أنه لا دين لها، وتتعاطى مع شعبها على أساس المواطنة، فإنها لا تضطهد الأديان، إذ يمكن لشعبها أن يُمارس شعائره الدينية أو لا يُمارسها، وله الحق في أن يطرح أفكاره ويُعبّر عنها بحرّية. والدولة المدنية لا يمكن أن تكون مؤمنةً كما يُروّجها “حزب الله”[73]، ولا ذات مرجعيةٍ إسلامية كما يدّعي “الإخوان المسلمون” في مصر، بل هي دولة وطنية لجميع أبنائها. وإنّنا إذا حقّقنا الدولة المدنية، فعندئذٍ لا تعود “ولاية الفقيه” تخيف الآخرين، حيث يمكن للحزب أن يتبع دينيّاً من يشاء، ولا يخشى المسيحيون من أن يستجيب سُنّة لبنان للأصولية في دول الجوار (سورية)، ما دام أنّ الولاء السياسي هو للبنان وحده، ومصالح لبنان فوق كل اعتبار.
إن المشكلة في إقامة الدولة المدنية في لبنان تكمن – بعيداً عن النوايا- في أنّ قياداتٍ روحيةً مسيحية تدعو إليها في العلن، شرط ألاّ تقود إلى العَلمانية المُلحدة[74]، بينما تغيب هذه الدعوة عند المسلمين، مع أنهم، في السابق كما اليوم، لا يرفضون الانخراط مع شركائهم في الوطن في نظامٍ سياسي لا يتعارض مع شرعِهم. ولكنْ هناك من المرجعيات – وبخاصةٍ الإسلامية منها- من يتخوّف من وضع نظام الأحوال الشخصية في يد الدولة المدنية.
في دول الغرب، حيث تُطبَّق العَلمانية، تكون الأحوال الشخصية (زواج، وطلاق، وإرث… إلخ) من ضمن مهامّ الدولة، ويمكن للمواطن إذا شاء بعد ذلك أن يعقد زواجه أو طلاقه لدى المؤسّسة الروحية التي يتبعها. فهل بالإمكان التوافق في لبنان على قانونٍ للزواج المدني الاختياري، مع الإبقاء في الوقت نفسه على تشريعات الأحوال الشخصية كما هي في أيدي المؤسّسات الروحية، فيكون النظام السياسي عندئذ غير طائفي، وتقتصر مهامّ الدولة المدنية على استخدام قوانينَ وضعيةٍ لتسيير الشأن العام المشترك لكل المجموعات الدينية، ويكون التعامل مع أفراد المجتمع على أساس المواطنة؟ هذا ممكن، على الرغم من الإحباط الذي تسبّبت به مواقف مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قبّاني وعلماء سنّة في رفض الزواج المدني الاختياري.
صحيحٌ أنّ الدولة المدنية المُقترَحة ناقصة وعلى المقاس اللبناني، وليست تلك التي يريدها الكثير من اللبنانيّين، وذلك عبر الإبقاء على الربط بين الدولة والطوائف من خلال إمساك المرجعيات الدينية بالأحوال الشخصية، إلى جانب اعتماد الزواج المدني الاختياري. وقد يقول البعض إنّه لا دولة مدنية قامت في العالم على أساس تبعية مُواطنيها لمؤسّساتهم الدينية، لكنّ هذا النظام، برأينا، يبقى الأفضل، في ظلّ طائفيةٍ مجتمعية ونظامٍ طائفي سياسي لا يمكن إصلاحُه أو تحسينه، يُفرّق ولا يجمع، وفي ظل فدراليةٍ مُدمّرة قد تُطلّ برأسها.
لكن، ما هي الخطوات المترابطة والمتكاملة المطلوبة لتحقيق الدولة المدنية؟
1- إرادة جماعية تنبثق من حوار وطني جامع للقوى السياسية والروحية والمدنية بوجوب الحفاظ على لبنان موحَّداً وذا سيادةٍ واستقلال، وتفعيل “إرادة العيش المشترك”، والاستغناء عن النظام الطائفي السياسي وعن أية طموحات إلى دولة فدرالية، والانتقال إلى الدولة المدنية[75]. ومن دون وجود هذه الإرادة الجماعية، لا يمكن الدخول في الدولة المدنية.
2- إقامة بناءٍ سياسي ديمقراطي، ينطلق من إصلاح جذري شامل يقوم على العدالة والمساواة، ورفع أيدي زعماء الطوائف عن الدولة ومؤسّساتها، التي يجب أن تُعبّر عن الجميع، وتضمن الحُرّية السياسية والعدالة والأمن لهم، ويثق بها المواطن.
3- تحرير الوظيفة من القيد الطائفي، ما دام أنّ المادّتين السابعة والثانيةَ عشْرةَ تنُصّان على ذلك.
4- وضع قانون انتخابٍ عصري يتيح للبنانيّين الانتخاب والإتيان بمُمثّليهم الفعليّين إلى البرلمان عن طريق اعتماد نظامٍ مختلط يجمع ما بين القائمة والفردي، فيحقق التمثيل النسبي والتمثيل بالأغلبية، ويتيح للأحزاب الكبيرة أن تؤدّي دوراً قياديّاً، بينما يسمح للمستقلّين بالترشح في الدوائر الفردية.
5- تنفيذ ما ورد في “اتفاق الطائف” حول إنشاء مجلس شيوخٍ انتقالي لفترة محدّدة، يقوم على أساس التوزيع الطائفي، بينما يتم العمل بجدّية وتدرُّج على أساس إصلاحاتٍ تؤدّي إلى إنشاء مجلس نيابي آخر غير طائفي.
6- علمنة الأحزاب، وأن تكُون مختلطة الطوائف والمذاهب بنِسبٍ يُتفق عليها، ووطنيةً في دساتيرها وفي عُضويتها وقياداتها. وأن يكون التنافس للدخول إلى الندوة البرلمانية على هذا الأساس، وليس على أساس مطالبَ طائفية.
7- اعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة.
8- فصل السلطات، واستقلال القضاء استقلالاً تامّاً، وتفعيل سُلطته، وعدم تدخل السلطة السياسية في شؤونه ولا في قراراته، وأن يكون “مجلس القضاء الأعلى” و”المجلس الدستوري” و”المحكمة الدستورية” بعيدةً عن تدخُّل السلطتين التنفيذية والتشريعية.
9- الإبقاء على الأحوال الشخصية في أيدي الطوائف الدينية لمرحلةٍ معيّنة، إلى جانب
قانونٍ للزواج المدني الاختياري، من أجل تعزيز الزواج المختلط.
10- أن تتولّى الدولة شأن التعليم والتربية، وعدم تركِهما في أيدي الطوائف، وأن يُستبدل
التعليم الديني بتعليمٍ يقوم على القِيم المشتركة بين أتباع الأديان.
11-إعادة بناء الوحدة الوطنية بمفاهيمَ تربويةٍ واجتماعية تعزّز مفهوم الوطن والمُواطنية
بين اللبنانيّين، والاعتراف بتعدُّدية الثقافة في لبنان تحت مِظلّة الدولة والوطن.
12 – تطبيق الخطط الاقتصادية المحلّية والدولية للنهوض باقتصاد لبنان، وخصوصاً في
الأطراف.
13-استعادة مزارع شبعا بالطرق الدبلوماسية والقضائية الدولية.
14- الاتفاق بين اللبنانيّين على السياستين الدفاعية والخارجية، بعيداً عن المصالح الطائفية
الضيّقة، وإعلان حياد لبنان عن الصراعات الإقليمية والدولية.
15- جعل الدولة اللبنانية وحدها مرجعية السلاح والقرار السياسي، وهما شرطان
ضروريان وإلزاميان للدخول في الدولة المدنية وتنفيذ باقي الخطوات. وهذا يتطلّب
تفعيل دور الجيش اللبناني في الأمن القومي، ذلك أنه لا يمكن لدولةٍ أن تقوم بوجود
دُويلةٍ إلى جانبها أو قوى عسكرية مسلّحة إلى جانب جيشها، ما يؤدّي إلى سلبها قرارها.
وفي ضوء عدم وجود إرادة جماعية للدخول في نظام مدني يساوي بين كل المواطنين، ويؤمن العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي ضوء معارضة المسلمين بشكل عام الدولة المدنية والزواج المدني، حتى الاختياري منه، ووجود حزب الله كدولة في داخل الدولة اللبنانية يفرض ثقافة إسلامية شمولية، فضلاً عن الصراع بين القومية اللبنانية والقومية الفارسية، تغيب الإرادة الجماعية للتغيير والدخول في الدولة المدنية، ما يجعل مستقبل لبنان قاتماً جداً.
إن المناوشات والاشتباكات التي نسمعها في الشارع اليوم شبيهة بتلك التي حدثت عشية حرب لبنان في العام 1975، عندما تلاشى التوافق بين القوى السياسية وغُيّب دور الجيش في حماية الأمن الوطني، ودخل اللبنانيون في حرب لا هوادة فيها، كانت في معظم مراحلها لصالح قوى الخارج. فهل يبقى اللبنانيون أدوات بأيدي القوى الخارجية، في وقت يحارب فيه حزب الله في سورية دعماً للنظام السوري وتنفيذاً لأوامر الولي الفقيه، علماً أنه جزء من الحكومة اللبنانية ومن المجلس النيابي؟ وهل على اللبنانيين ألا يتعلموا من دروس الماضي، ويذهبوا كل عقد أو عقدين إلى الحرب؟
[1] حليم بركات. المجتمع العربي المعاصر. بحث استطلاعي اجتماعي، ط4، بيروت 1991، ص 15-17.
[2] مسعود ضاهر، الجذور التاريخية للمسألة الطائفية اللبنانية 1697-1861، بيروت 1981، ص 262-
263، 313؛ كمال الصليبي، بيت بمنازل كثيرة. الكيان اللبناني بين التصور والواقع، ط2، بيروت 1991،
ص 30.
[3] هو النظام الذي قسم لبنان إلى قائمقاميتين: مسيحية ودرزية، تفصل بينهما طريق بيروت – دمشق، وعلى
رأس كُلٍّ منهما قائمقام، ومجلس تتمثل فيه جميع الطوائف، لكن من دون صفاء مذهبي، وبخاصة في
القائمقامية الدرزية أدونيس نعمه، “العلاقات الثنائية بين العائلات اللبنانية: أحلاف وقربى مجازية بين
الموارنة والدروز”، جريدة النهار، 11 تشرين الثاني 2012.
[4] حول هذه الإشكالية: عبد الرؤوف سنّو، “صدى الدستور العثماني في صحافة بيروت عام 1908”. الأمة
والدولة والتاريخ والمصائر. دراسات مهداة إلى الأستاذ رضوان السيد لمناسبة بلوغه الستين، بيروت 2011،
ص 343-364.
[5] اعتبر المفكر والأديب شكيب أرسلان أنّ “العروبة وعاء الإسلام” وأنّ “الإسلام روحُ العروبة”، بينما رأى
الدكتور عمر فرّوخ أنّ الإسلام والقوميّة العربيّة هما شيء واحد، ولا فرق بين الاثنين، ويجب أن يكونا كذلك.
أمين ناجي، “الإسلام السياسي وهويّة لبنان”، في: سلسلة القضية اللبنانيّة، 14(آب 1976)، ص41.
واللافت هو تفسير ميشال عفلق، مؤسّس “حزب البعث”، للعروبة بالقول إنها “جسدٌ رُوحُه الإسلام”. كمال
ديب، هذا الجسر العتيق. سقوط لبنان المسيحي 1920-2020، بيروت 2008، ص 410.
[6] يُراجع في هذا الخصوص كتابي: لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف. إشكاليات التعايش والسيادة
وأدوار الخارج، المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، بيروت 2013.
[7] عبد الرؤوف سنّو، حرب لبنان 1975-1990: تفكك الدولة وتصدّع المجتمع، مجلد 1: مفارقات السياسة
والنزاعات المسلحة والتسوية، بيروت 2008، ص 97.
[8] سنّو، حرب لبنان، مجلد 1، ص 183-184.
[9] سنّو، حرب لبنان، مجلد2: التحولات في البني الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية، ص 1246-1263.
[10] ألبير منصور، موت جمهورية، بيروت 1994، ص 255-256.
[11] انظر الفصل الرابع من كتابي: لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف. إشكاليات التعايش والسيادة وأدوار
الخارج، المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، (يصدر في كانون الثاني 2014).
[12] تُعتبر المملكة العربية السعودية من أبرز الدول التي دخلت على خط الأزمة اللبنانية لحلّها، وذلك منذ العام
1975. وفي خريف العام 1976، تمكن الملك خالد من عقد قمة مصغرة وقمة عربية موسعة في القاهرة
تكللتا بإرسال “قوات ردع عربية” لحفظ الأمن في لبنان وإنهاء “حرب السنتين”. وفي الأعوام 1978 و1983
و1984، رعت المملكة على التوالي حوارات بين اللبنانيين في بيت الدين، وجنيف ولوزان، من دون التوصل
إلى نتيجة، بسبب حدة الانقسامات بين القوى السياسية وتدخل كل من سورية وإسرائيل في الأزمة اللبنانية.
ونجحت السعودية في وقف الحرب من خلال عقدها مؤتمر الطائف في العام 1989. وبعد الانتهاء حرب
لبنان، عملت المملكة على دعم لبنان اقتصادياً، وكذلك برامج التنمية وإعادة الإعمار، وبخاصة ما نتج عن
اعتداءات إسرائيل عليه في السنوات 1993 و1996 و1998، و2006.
[13] حول الإحباط المسيحي، راجع دراستي: “سورية ولبنان والمتغيرات الدولية: من اتفاق الطائف إلى القرار
1595: مكامن القوة ومآزق السياسة والممارسات”، حوار العرب (بيروت)، 7 (2005)، ص 9-10.
[14] بول الأشقر، “رحلات في عربة الترويكا”. المرقب (البلمند)، 2(1998)، ص 11-57.
[15] غاصب المختار، (تحقيق). “هواجس أقطاب من السنّة حول الدور والمشاركة والمرجعية”. حلقة 2، جريدة
السفير، 19 آب 2003.
[16] فؤاد أبو زيد، “سقط التسونامي المسيحي بسقوط أوراق التين”، جريدة الديار، 1 حزيران 2009؛ وقارِن بـ:
ديب، هذا الجسر العتيق. سقوط لبنان المسيحي 1920-2020، بيروت 2008، ص 310-311.
[17] علي الأمين، “بازار المُحاصصة يفضح التمثيل المسيحي ويفتح باب تأجيل الانتخابات”، جريدة البلد
(لبنان)، 13 أيار 2005.
[18] بولا أسطيح، “توافق المسيحيّين على قانون انتخاب يعطي كل طائفة حق اختيار مرشّحيها يثير امتعاضاً في
لبنان”، جريدة الشرق الأوسط (الرياض)، 19 كانون الأول 2011.
[19] حول الطائفية المجتمعية، راجع الفصل الأول من كتابي: لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف. إشكاليات
التعايش والسيادة وأدوار الخارج (يصدر في كانون الثاني 2014)
[20] Augustus Richard Norton, ‘The Lebanese Formula Revisited’, in Theodor Hanf (ed.), Power Sharing: Concepts and Cases (Lettres de Byblos/Letters from Byblos, Byblos 2008), 85-88 <http://library.fes.de/pdf-files/bueros/beirut/05478.pdf> accessed 24 April 2013; Bassel Sallouk, “Syria and Lebanon: A Brotherhood Transformed”. MERIP (Middle East Research and Information Project), no. 236.
[21] “قرنة شهوان تطالب بوقف التخوين والشحن الطائفي”، جريدة المستقبل، 17 آب 2002.
[22] عماد الزغبي، الحركة الطلابية في لبنان. خمسون عاماً من النضال، 1951 – 2001، بيروت 2002، ص
222 – 223 .
[23] “القصة الكاملة للتهديدات السورية التي سبقت اغتيال المفتي الشهيد حسن خالد”. نقلاً عن مجلة الشراع،
حوار حسن صبرا مع نجل المفتي سعد الدين خالد.
<www.yabeyrouth.com/pages/index2007.htm>accessed 2 Apil 2013.
[24] سلام جميل منصور، “الصمت الإسلامي”. فضيل أبو النصر (محرر ومشرف)، في: هواجس المسيحي
اللبناني، مرجع سابق، ص 63-68.
[25] عبد الرؤوف سنّو، حرب لبنان، مجلد 1، ص 357.
[26] سنّو، حرب لبنان، مج1، ص 401-408.
[27] خلال حرب لبنان، سقط زعماء سياسيون وروحيون ومهنيون سنّةٌ ضحايا عمليات اغتيالٍ قيل إن أجهزة
الاستخبارات السورية كانت تقف وراءها. ومن هؤلاء: الشيخ صبحي الصالح، والمفتي حسن خالد، وناظم
القادري، والدكتور عدنان سنّو، ومحمد شقير… وغيرهم. انظر: محمد السمّاك، الإرهاب والعنف السياسي،
بيروت لا ت، ص 18-21، وعلي عواد، الدعاية والرأي العام، ص211-212، ووثائق الحرب اللبنانية
للأعوام 1985 و1986 و1987، وطوني جورج عطا الله، نزاعات الداخل وحروب الخارج. بناء ثقافة
المناعة في المجتمع اللبناني 1975-2007، بيروت 2007، ص 80-84.
[28] “حوار مع سيمون كرم في 5 تموز 2000″، في: هواجس المسيحي اللبناني، مرجع سابق، ص 135.
[29] عبد الرؤوف سنّو، “العلاقات السعودية اللبنانية 1943–2010″، دراسة أُعدت لـِ
Common Space Initiative, Lebanon، أيار 2011.
<www.abdelraoufsinno.com/periodicals/docum_233.pdf> accessed 2 March 2012.
[30] ديب، تاريخ سورية المعاصر. من الانتداب الفرنسي إلى صيف 2011، بيروت 2011، ص 631.
[31] Farid El- Khazen, ‘The Postwar Political Process. Authoritarianism by Duffion”. Theodor Hanf/Nawaf Salam (eds.), Lebanon in Limbo. Postwar Society and State in an Uncetain Regional Environment. Baden-Baden 2003, 69.
.[32] بكاسيني، الطريق إلى الاستقلال، ص224. وقد سبق للحريري في انتخابات العام 2000 أنْ قَبِل بوديعة
سورية ضمّت: عدنان عرقجي وباسم يمّوت وناصر قنديل، ففازوا في الانتخابات ودخلوا إلى البرلمان كنواب
على لائحة الحريري. انظر: محسن دلّول، رفيق الحريري رجال في رجل. محطات في عقدين من الصداقة،
حوار وتحرير يوسف مرتضى، بيروت2009، مرجع سابق، ص 79.
[33] نقولا. “الفصل السادس الإرجواني. بكركي: حتمية الدور أم عبء الخيار؟”، ص 203 -262.
. Myriam Catusse, Karam Karam et Olfa Lamloum (eds..), Métamorphose des figures du leadership au Liban, Beyrouth, Presses de l’Ifpo (« Contemporain publications », no CP 30), 2011, pp. 203-262. Collections électroniques de l’lfpo (Livres en ligne des presses de l’institut français du Proche Orient), http://ifpo.revues.org/2568. 22
[34] International Crisis Group Working to Prevent Conflict Worldwide, “Engaging Syria? U.S. Constraints and Opportunities”, Middle East Report no. 83, February 11, 2009, 31 pages. http://reliefweb.int/sites/reliefweb.int/files/resources/8C6E970E5E2DAC378525755A006C4B17-Full_Report.pdf3-4.
وقد اتهم وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفلد (Donald Rumsfeld) سورية بتطوير أسلحة غير تقليدية،
وبخاصة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، في حين تحدّثت تقارير أميركية عن التعاون النووي بين سورية وروسيا. إيال زيسر، باسم الأب. بشار الأسد السنوات الأولى في الحكم، القاهرة 2005، ص 273.
[35] انظر الفصل الثاني من كتابي: لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف.
[36] نقلاً عن: جورج بكاسيني، الطريق إلى الاستقلال. خمس سنوات مع رفيق الحريري، ط2، بيروت 2008، ص 236 .
[37] عبد الرؤوف سنّو، “الحرب الإسرائيلية – اللبنانية 2006: الخلفيات والمواقف والأبعاد”. مجلة حوار العرب، 22(2006)، ص 30-44.
[38] حول “وثيقة التفاهم”، راجع: “عامان على التفاهم بين حزب الله وعون، والمتحمّسون له يؤكدون أهميته في السلم الأهلي”. AFP، 6 شباط 2008.
<http://afp.google.com/article/ALeqM5jfD1YiBiDZHR-ikpabp_jrAEiGZw> accessed 2 October 2012.
[39] حاول حمادة تحريض المجتمع الدولي ضد شبكة الاتصالات التابعة للحزب، وزود الرئيس الفرنسي ساركوزي
بنسخ عن خارطاتها، بينما أرسل الحريري طائرة خاصة نقلتها إلى الملك عبد الله بن عبد العزيز وإلى رئيس
المخابرات السعودية الأمير مقرن بن عبد العزيز بملف مشابه. مقابلة بين مروان حمادة والقائمة بالأعمال
الأميركية في بيروت ميشيل سيسون، وثائق ويكيليكس، إعداد مريم البسام، بيروت 14 نيسان 2008، رقم 1:
لبنان وإسرائيل، ص 28،
Wikileaks, ‘Hamadeh to Sison: “As Soon as he received the Telecom Maps, he sent copies of them to Saudi Head of Intel, Muqrin bin Abdul Aziz…”’, 11 April 2008 <http://exciledpalestiniane.wordpress.com/2011/05/10/wikileaks-hamadeh-to-sison-as-soon-as-he-received-the-telecom-maps-he-sent-copies-of-them-to-saudi-head-of-intel-muqrin-bin-abdul-aziz/> accessed 24 April 2013.
[40] اتفاق الدوحة. بناء ثقافة المواثيق في لبنان من أجل مواطنية فاعلة، المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي/
المؤسسة العروبية للديمقراطية، بيروت 2009.
[41] Wikileaks, ‘Saad Hariri: “You need to have the Sixth Fleet near Syrian waters and fly jetfighters over Damascus!”’, 12 May 2008 <http://exciledpalestiniane.wordpress.com/2011/05/03/wikileaks-saad-hariri-you-need-to-have-the-sixth-fleet-near-syrian-waters-fly-jetfighters-over-damascus> accessed 24 April 2013.
وقارن بـ:
Hicham Safieddine, Meet the Lebanese Press: US Military “Tourism”’, Electronic Intifada, 17 March 2008 <http://electronicintifada.net/content/meet-lebanese-press-us-military-tourism/7419> accessed 24 April 2013.
[42]U.S. Department of State, Country Profiles ‘Syria’, Bureau of Near Eastern Affairs, 18 March 2011. <www.state.gov/r/pa/ei/bgn/3580.htm> accessed 2 May 2012.
[43] من حوار البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي مع تلامذة الصفوف النهائية لمدارس القلبَيْن الأقدسَين، جريدة النهار، 30 تشرين الثاني 2011.
[44] جريدة البلد، 8 آذار 2012.
[45] نقلاً عن: ديب، هذا الجسر العتيق، ص 311-312.
[46] ما لبثت “القوات اللبنانية” أن تنصلت من “المشروع الأرثوذكسي”.
[47] فادي شامية، “قراءة في صيغة المُثالثة. مصير مجهول للكيان اللبناني عندما تنفرد طائفة بـ “الثلث الصافي”. موقع: الشبكة الدعوية.
<www.daawa-info.net/article.php?id=623> accessed 2 October 2012.
[48] في الواقع، تعود مطالبة “حزب الله” و”حركة أمل” وميشال عون بالثلث الضامن إلى تشرين الثاني من العام 2006، عندما استقال الوزراء الشيعة وبدأ الحديث عن تشكيل حكومة جديدةٍ يكون فيها لقوى المعارضة الثلث الضامن (ثلث الوزراء + وزير واحد). لكنّ الرئيس السنيورة رفض ذلك، معتبراً أنّ معنى ذلك تسليم الحكومة رأسها إلى “حزب الله وحلفائه”. من هنا، فقد بقي السنيورة يحكم من دون وزراء شيعة. انظر: جريدة الشرق الأوسط، 13 تشرين الثاني 2006.
[49] جريدة الأهرام، 26 كانون الثاني 2011.
[50] نقلاً عن: ديب، هذا الجسر العتيق، ص 382-383.
[51] ديب، هذا الجسر العتيق، ص 384-385
[52] “الكتائب: الفدرالية مقابل إلغاء الطائفية”، جريدة الأخبار، 15 كانون الثاني 2010، ويتضمّن المقال دعوةً صريحة من النائب سامي الجميّل إلى الفدرالية.
[53] عطا الله، “”حلف لبناننا” أحيا الذكرى الأولى لأنطلاقته انتخاب الرئيس لا يحل الازمة بل احترام التعددية وحق الاختلاف”، 6 تشرين الثاني 1976.
http://www.10452lccc.com/newsreporter/pierreatallah6.11.07.htm
[54] سامي الجميّل، “الفدرالية ليست تقسيماً. كل القيادات المسيحية تدعو اليها بخجل”. مقابلة مع نهار الشباب. http://www.10452lccc.com/interviews07/samigmayel28.3.07.htm.
[55] مقابلة مع سجعان قزّي، عضو المكتب السياسي لحزب الكتائب، برنامج الحدث، تلفزيون الجديد، 21 تموز 2012.
[56] طوني حدشيتي، “هل تلتقي الدولة المدنية مع الدولة اللامركزية؟”، موقع: ليبانون فايلز، 26 نيسان 2012.
<www.lebanonfiles.com/news/370448> accessed 2 October 2012.
وطوني حدشيتي، “أسئلة عن الدولة المدنية والفيدرالية واللامركزية… نقاش مع د. عبد الرؤوف سنو”، جريدة اللواء، 30 نيسان 2012.
[57] هذه هي مقولة “روجيه إدّه” في ردّه على مقالي عن الفدرالية والدولة المدنية. فإنه يرى أن يُنتخب رئيس الدولة الفدرالية على أساس غير طائفي أو إثني أو عنصري. “نظام اتحادي لا مركزي ولا طائفي” جريدة اللواء، 9 أيار 2012.
[58] قارن بـ: طوني جورج عطا الله، نزاعات الداخل وحروب الخارج. بناء ثقافة المناعة في المجتمع اللبناني 1975-2007، بيروت 2007، ص 393.
[59] ربّاط، التكوين التاريخي للبنان السياسي والدستوري، ترجمة حسن قبيسي، ج2، بيروت 2002، ص 935.
[60] قارن بمقالي: عبد الرؤوف سنّو، “ردّ على مقال طوني حدشيتي حول الحلّ الفيدرالي: يؤدّي إلى التقسيم والتقوقع الطائفي/المذهبي على الذات”، جريدة اللواء، 3 أيار 2012، وفي موقع: ليبانون فايلز، 5 أيار 2012.
<www.lebanonfiles.com/news/373028> accessed 2 October 2012.
[61] ربّاط، التكوين التاريخي للبنان السياسي والدستوري، ج 2، ص 937.
[62] ديب، هذا الجسر العتيق، ص 377-378.
[63] عصام سليمان، الفدرالية والمجتمعات التعددية ولبنان، بيروت1991، ، ص 44-45، و123.
[64] جورج عطا الله، نزاعات الداخل وحروب الخارج، ص 392.
[65] حول هذه النقطة، راجع: “النظام السويسري”، موقع: الأوراس القانوني، 28 آذار 2010.
<http://sciencesjuridiques.ahlamontada.net/t1274-topic> accessed 2 October 2012.
[66] ياسين سويد، مرايا الأحوال مرايا الأحوال. أبحاث في أحوال البلاد والعباد، لام، 2012، ص 69.
[67] أشكر الدكتور طوني بدر على تزويدي بالمعلومات الإحصائية العائدة إلى الجدول، علماً أنه يُجري أبحاثاً
حول التوزيع الطوائفي في لبنان.
[68] “عضو بلجنة الطاقة: “بعض شركات النفط تستغلّ الخلاف بين المركز والإقليم للضغط على بغداد””. موقع: السومرية نيوز.
<www.alsumarianews.com/ar/1/46489/news-details-Iraq%20politics%20news.html> accessed 2 October 2012.
[69] ربّاط، التكوين التاريخي للبنان السياسي والدستوري، ج 2، ص 939.
[70] خلال حرب لبنان، كانت هناك دعواتٌ لشخصيات دينية من “حزب الله” إلى إقامة الدولة الإسلامية. وفي العام 1986، صدر عن جماعة مؤلَّفةٍ من علماء شيعةٍ وسُنّة دستورٌ لدولة إسلامية. وفي الوقت الحاضر، لا يتحدّث “حزب الله” في العلن عن الدولة الإسلامية، لكنّ تبعيّته وطاعته العمياء لـِ “الوليّ الفقيه”، تحمل معها إمكان أنْ يَعهد إليه “الوليّ الفقيه” إقامة دُويلةٍ إسلامية. انظر: عبد الرؤوف سنّو، حرب لبنان، مرجع سابق، مج1، ص 616–623.
[71] “الراعي والدفاع عن النظام السوري”، جريدة الشرق الأوسط، 14 أيلول 2011.
[72] سنّو، حرب لبنان، مج2، ص1695.
[73] سنّو، “دولة حزب الله المدنية المؤمنة!”، جريدة النهار، 15 كانون الثاني 2012.
[74] سنّو، “دولة حزب الله المدنية المؤمنة!”، المرجع السابق نفسه.
[75]قارن بمقال أليزابيث بكار وألكسندر رامسبوثام، “لبنان: هل يمكن إحداث تحوُّلٍ في الديمقراطية الشكلية؟”،
جريدة النهار، 5 آب 2012.
********
(*) محاضرة ألقيت في ندوة “تاريخ لبنان عبر العصور: مسائل واكتشافات مسائل في تاريخ لبنان المعاصر”، الجامعة الأميركية للعلوم والتنكولوجيا (AUST، 26) حزيران 2013.