القديس جاورجيوس في التراث

 

   إعداد د. جميل الدويهي

 

القدِّيس جرجس أو جاورجيوس (شهيد)، ويُعتبر واحداً من القدِّيسين العظماء في التراث المسيحي. والقدِّيس جرجس ينتمي إلى أسرة غنيَّة ووجيهة. والأغلب أنّه وُلد في اللدِّ (فلسطين) في العام 280 للميلاد، وقد جاء إلى بيروت صغيراً مع والدته بعد موت والده الذي كان ضابطاً في الجيش الروماني.

وفي بعض الترجمات أنّه وُلد في بلاد الكبّادوك (آسيا الصغرى) من أبوَين مسيحيّين شريفين. وبعد وفاة والده ارتحل هو وأمّه إلى فلسطين باعتبار أن أمّه كانت، في الأساس، من هناك وكانت لها أملاك وافرة.

والد القديس جرجس كان اسمه أناسطاسيوس، وكان واليًا على مدينة Melitene بكبادوكيا، وكان اسم والدته ثاوبستي أو ثاوغنسطا، وهي فلسطينية، ابنة والي اللدّ.

قيل إنّ والد جرجس كان إنسانًا تقياً ومؤمناً بالله، ومقرّباً من الملك. ولكنه عندما كشف عن إيمانه بالسيد المسيح أمر الملك بقطع رأسه. وكان القديس جاورجيوس في الرابعة عشرة من عمره.

وعندما شبَّ جاورجيوس عن الطوق دخل إلى سلك الجنديَّة في الإمبراطوريَّة الرومانيَّة، وتمتَّع بقدرات جسديَّة وعقليَّة نادرة، فحاز على إعجاب الإمبراطور ديوقليطانوس، الذي كان حاكماً ناجحاً، لكنَّه يدين للآلهة الوثنيَّة القديمة، وكان حريصاً على إعادة إحياء هذه الآلهة في نفوس مواطنيه، بعد أن استشعر بأنَّ المسيحيَّة بدأت تشقُّ طريقها إليهم، ولذلك يعتبره المؤرِّخون واحداً من أكثر الأباطرة قسوة في حقِّ المسيحيِّين الأوَّلين.

وذات يوم شهد الجنديُّ جرجس في نيقوديميا محاكمة غير عادلة لثلَّة من المسيحيِّين، فأخذته الشفقة عليهم، وتراءى له أنَّ العذاب سيكون من نصيبه هو أيضاً في ذات يوم، فاستيقظت في نفسه مشاعر التواضع والقداسة، فقرَّر أن يهِب كلَّ ما يملك من ثروة إلى الفقراء والمساكين، وحرَّر العبيد الذين كانوا في منزله، ثمَّ توجَّه إلى ديوقليطانوس، وجاهر أمامه بأنَّه مسيحيٌّ، واستنكر ما يقوم به الإمبراطور من أعمال مشينة في حقِّ المسيحيِّين.

وتعرِّض جرجس لضغوط قاسية من أجل  التخلِّي عن إيمانه بالمسيح، ولكن من غير جدوى. ثمَّ أمر ديوقليطانوس بتعذيبه، فحُشر في زنزانة منفردة، وكان عليه أن يبقى منبطحاً على التراب طوال الوقت، وهو مقيِّد الرجلين واليدين، وعلى صدره حجر كبير. وكان في كلِّ ذلك يمجِّد الله ويتحمَّل العذاب بصبر وأناة. وهذا التحمُّل أغضب الجنود الرومان، فعمدوا إلى جَلده وعلَّقوه على دولاب، وأمروه بأن يركض وهو منتعل حذاء مليئاً بالمسامير، ثمَّ قطعوا رأسه في نيقوديميا عام 303 بعد الميلاد. وقد حُفظت هامته في كنيسة بروما أقيمت على اسمه.

وللقدِّيس جرجس صورة شهيرة يبدو فيها ممتطياً حصاناً أدهم، وفي يده رمح طويل، وتحت الحصان تنِّين رهيب يتلقَّى طعنة نجلاء في شدقه. وهذه الصورة مستوحاة من تقليد شعبيٍّ يفيد بأنَّ تنِّيناً كان يعيش في بحيرة قرب مدينة بيروت، ويهاجم الناس فيفترسهم. ومن المرجَّح أن يكون ذلك التنِّين تمساحاً ضخماً أو حيَّة كبيرة أو سمكة قرش كانت تهاجم الصيَّادين. وكان مواطنو بيروت يقدِّمون إلى التنِّين فتاة لكي يفترسها ويكفَّ عن إيذائهم. وذات يوم، توجَّهوا إلى القدِّيس جرجس وطلبوا منه أن يخلِّصهم من التنِّين. وعندما وصل الدور إلى ابنة حاكم بيروت لتكون ضحيَّة تُقدَّم إلى التنيِّن، ظهر فجأة خيَّال شابٌّ على حصانه، فهاجم التنِّين برمحه فقتله وأنقذ الفتاة من الموت المحتَّم.

وكان ذلك العمل البطوليُّ كافياً لإقناع أهل بيروت، خصوصاً أبناء الجيل الجديد، بالتخلِّي عن الوثنيَّة واعتناق المسيحيَّة. ويُكرِّم أهل بيروت القدِّيس جرجس تكريماً عظيماً، إذ يسمُّون خليج المدينة باسم خليج مار جرجس، وبنيت كاتدرائيَّة ضخمة قبالة الشاطئ، حيث اجترح القدّيس عمله البطوليَّ الرائع. وقيل إن كنيسة قديمة كانت موجودة عند الشاطئ تحمل اسم القديس.

وينقل صالح بن يحيى، أحد مؤرّخي القرن الخامس عشر الميلادي، في مؤلَّفه “تاريخ بيروت”، عن المسيحيين في بيروت أنه “خرج، في القدم، في بيروت، تنّين عظيم فقرّر أهل بيروت له، في كل عام، بنتاً يخرجونها إليه اكتفاء لشرّه، فوقعت القرعة في سنَة من السنين على صاحب (والي) بيروت. فأخرج بنته ليلاً إلى مكان موعد التنّين فتوسّلت بالدعاء إلى الله، فتصوّر لها مار جرجس القدّيس. فلما جاء التنّين خرج عليه مار جرجس فقتله، فعمّر صاحب بيروت في ذلك المكان كنيسة بالقرب من النهر. والنصارى تصوّر هذه الكائنة في سائر كنائس بلادهم، وقلَّما تخلو منها كنيسة. ويزعم النصارى أن مار جرجس من لدّ (اللد) قتله ملك عبدَ الأصنام بحوران، وله عيد مشهور عندهم في سائر البلاد. وأهل بيروت المسلمون والنصارى يخرجون في ذلك العيد إلى نهر بيروت، ويُسمّى عيد النهر”.

وقد ورد في معجم “لسان العرب” لابن منظور أنَّ شيخاً عربيَّاً كان نازلاً على ساحل فينيقية مع جماعة من العسكر، فشاهدوا سحابة ترتفع فوق البحر، وكان ذنب التنِّين يرتفع في السحابة. وفي أغنية شعبيَّة فلسطينيَّة تـُنشد في عيد مار جرجس:

بو جريس راح الحرب ومات

وخلَّف لجريس حشرات (أي أزمات)

وقام جــريس هــــــوِّي وأمُّو

مــــن مدينتهم وارتحلــــــــو

طاحو بيروت أو نزلو… إلخ… إلى أن تنتهي القصَّة، التي رويناها أعلاه.

وأغلب الظن أن الصورة التي تمثّل مار جرجس ممتطياً حصاناً، وفي يده رمح طويل يضرب به الشيطان (التنين)، هي صورة رمزية، تكررت في الكثير من الأيقونات، ومن القدّيسِين الذين لهم أيقونات وهم يطعنون الحيّة أو التنّين، القدّيس ثيودوروس التيروني (أي المجنّد). وفي الثمانينات من القرن العشرين كشفت الحفريات في تيراكوثا في مقدونية النقاب عن إيقونات تصوّر القدّيس ثيودروروس على حصان والتنّين بين رجليه وهو يقتله، وهناك أيقونة للقدّيس جاورجيوس والقديس خريستوفوروس، جنباً إلى جنب، وهما يطعنان بالرمح حيّة ذات رأس بشري. وهذه الأيقونة تعود في رأي الدارسين إلى ما بين القرنين السادس والسابع الميلادي. كما وجدت أيقونات مشابهة في تونس. وفي التراث الفرعوني القديم، نقع على أسطورة إيزيس وأوزريس وابنهما حورس، وقد صُوّر حورس على شكل صقر وهو يمتطي حصاناً، ويطعن بالحربَة إله الشرّ “سِت” المرموز له بالتمساح.

والأرجح أنّ الصورة نفسها تمثّل انتصار القديس جرجس على الوثنية والشيطان. وقد يكون التنين رمزاً للطاغية ديوقليطانوس نفسه.

وتفتقر الروايات الشعبيَّة إلى المصداقيَّة في تحديد المكان الذي دفن فيه القدِّيس جرجس، فالبعض يشيرون إلى موضع بين مرفإ بيروت ونهرها، وتحديداً في محلَّة الكرنتينا، يقال إنَّه القبر، وقد بُني عليه مسجد. وفي طرابلس أيضاً قبَّة تُعرف بقبَّة الخضر (والخضر هو اسم القدِّيس جرجس لدى كثير من المسلمين)، كما يُقال إنَّ القدِّيس جرجس دُفن في جبيل. ويُقال أيضاً إنَّ رفات مار جرجس نُقلت إلى فلسطين، أو إلى روما.

-هل الخضر هو مار جرجس؟

كثيراً ما نسمع في لبنان خصوصاً، تسمية “مار جرجس الخضر”.  وقد ذكر القرآن الكريم قصة الخضر مع النبى موسى في سورة الكهف، ولكنه ليس هو مار جرجس، فالقديس جاورجيوس عاش بعد صلب المسيح، أي من 280 إلى 303 للميلاد. والنبي موسى عاش قبل المسيح، وولد في مصر في عهد فرعون.

ويُعتقد أنه  أثناء الحروب الصليبية، وفي ظل التبادل الثقافى الذى حصل بين الثقافتين العربية والأوروبية، اختلطت قصّة الخضر القرآنية، مع قصّة القديس مار جرجس. وصدق الناس أنّ مار جرجس هو الخضر.

جاء فى كتاب “تاريخ الموصل” للقس سليمان صائغ الموصلي، أنّ الخضر لقبٌ لصاحب النبى موسى، ويكنّى بأبى العباس، وقيل إنه إيليا وهو نبيّ مشهور، وقيل إنه مار جرس”.

كما ذكر كتاب “عيون الأنباء فى طبقات الأطبّاء” لابن أبي أصيبعه، أنّ “الخضر” أحد الأنبياء الذى أرشد النبي موسى، وقد حظي عند الصوفيين بمركز ممتاز، ويطلق عليه النصارى اسم القديس جرجس أو النبى إيليا.

الخلط إذن حدث بين 3 شخصيات، هي شخصية الخضر القرآنية، وشخصية الخضر النبي إيليا،  والخضر الذي يُعتقد أنه مار جرجس. وهذا الخلط جدّ خاطئ، لأن الخضر والنبي إيليا عاشا في العهد القديم، ومار جرجس عاش بعد صلب السيد المسيح.

ويذكر الباحث السورى، فايز مقدسى، فى دراسة بعنوان “أصل اسم مار جرجس /الخضر” أنه عندما جاء الإسلام إلى سوريا، تمّ إطلاق اسم “الخضر” على مار جرجس”.

اترك رد