ميشيل دوغي
Michel Deguy (1930-2022)
“مع محمد بنيس”
مع Avec أهمّ أسماء المعية ـ أصله اللاتيني ab hoc، التي تعني “من هناك”، “في الوقت نفسه”، معاً. كلمة ab hoc هي نفسُها apud و cum في اللغات اللاتينية الأخرى. والشعرية، التي تصاحب الشعر، تتكلم لغة الـ”مع”. إلا أن هذه الـ”معـ”ـنا، (ولهذا أبدأ بهذه الملاحظة)، أصبحت محطَّمة بالدعاية التي شعاراتُها (“تشاهدون نشرة الأحوال الجوية مع مكَرونة بْويتُوني Buitoni، أو تشاهدون فيلمكم مع شوكولاتة ديبُّون Dupont “)، وهي تجمعُ بين أي شيْء وأيّ شيء، مُدمرةً بذلك الشعرية العميقة للغة. فالقصيدة تُقرّب بين أشياء لا علاقة بينها (“ما لا يُقارَن”) تبعاً لثالث متخيّل، علاقةٌ فيها الكلماتُ ماثلة بقدر ما هي مُقارَنة.
*
اللقاء، القراءة، الأحاديث والحوارات مع محمد بنيس؛ التقارب العنيد والمستحيل للترجمة، للتبادل البابلي للتفاهم ـ مع، ها هو ما أحاول اليوم القبضَ علي مراحله في جُمل بسيطة توحي بأهميته الدامغة بالنسبة لي ـ ربما أهمية انفتاحٍ على العالم أو على عالم، في العالم.
هي المفاجأة، كما نقول في الفرنسية لنقول الهبَة، كما لو أنّ العالم العربي ـ الفارسي ـ الإسلامي لم يكن ما كان يبدو عليه في العالم المسيحي، أعني “مملكة” ممزقة على نفْسها منذ القرن الهجري الأول وفي حروب أهلية، لكنها كانت موحَّدةً في الحُبّ وهي تصنع حضارة: مفاجأة الحُبّ، ها هو ما أستقبله ـ إنْ هي هذه العبارة الرقيقة، الغزلية، لم تكن بالغة السطحية بالنسبة للشيء الذي أشيرُ إليه.
*
الآن بعض كلمات عن المكان، أيْ عنصر أو إمكانية لقائنا، الذي يكْمن في هذين الشيئيْن المتكامليْن والمتداخليْن ويلحُّ عليهما: الشعر و(أو مع) الوعي بالشدّة القُصْوى، أو “انتزاع الإنسانية من الأرض”، اللذيْن تتطلب وضْعيتُهما المُسْتعجلة اعتبار ما نسميه “علم البيئة” “éco-logie ” أو “أخلاقيات الشعرية البيئية” “éco-poéthique”، هو الحظُّ الأخير الذي يجب أن يوحّدنا، نحن الأجانب عن بعضنا بعضاً، في “ضروري واحد” لا ديني، من أجل أن “نتكلم جميعاً” عن أشيائنا (“أشيائنا الأخيرة”) الموجودة في حالة فاجعة وشيكة.
لنبدأ بالحُبّ. في / رؤيةٍ (ملارمي) تُشرف على ألفي سنة من الحضارة الجاهلية، الإسلامية، النبوية، العربية ـ الأندلسية والحديثة وتكثفها، يقدم بنيس شعر الحُبّ عند العرب والشغف بالآخر، دراسة كان لي امتياز نشرها سنة 2017 في مجلة شعر Po&sie العدد المزدوج 160 ـ 161). في هذه الدراسة المطولة، يتعرض بنيس لجهل بتْرارك المذهل الذي يرفض شعر الحُبّ عند العرب، ـ هو الذي يعود إلى القرن الرابع الميلادي (ناسياً اسم هذا الشعر “الغزل”، ومهملاً ابن رشد). يتناول بنيس أيضاً إزرابّاونْدْ البّروفانْسيالي وجاك روبو Jacques Roubaud اللذين يقطعان الطريق على فرضية الأصول العربية لشعر التروبادور والرشدية. أتأسف لأن رُوبـو لم يردّ [على دراسة بنيس] ـ وأنا أمتنع هنا عن الزيادة في التعليق، بسبب عدم درايتي بالموضوع… لكني أتوقف عند النظرية الرشدية “l’averrhéroïsme” (كلمة منحوتة من Averroès و héroïsme) لأشخّصَ باختصار الإبدالَ الذي حصل في القرن الحادي والعشرين، حيث انتقلنا (وباتجاه واحد) من عبقرية ابن رشد “العقل الفعّال” للإنسانية Intellect Agent IA إلى “الذكاء الاصطناعي” الذي ينتزعنا من الأرض” (super – IA) : هذه الآلة اللوغاريتمية التي تتوفر على مليارات من البيانات الكبرى (paramètres Big Data) ويتمّ العمل على تنويعها حتى تتلاءمَ مع نوع معين من بنك المعلومات. إن “تعويض” العقل الفعّال الرشدي (أو عبقرية الإنسانية) بالذكاء الاصطناعي، هو تركُ اللوغاريتمات تُطوّعُ المجتمعات التي أصبح تدبيرُها غير ممكن، حيث الجائحة تضعُ في المشهد النفاق العام: أي نوعاً من “الإشارة الحمراء” الضخمة التي تشتغل مثل ألف شمس لـ”تُخْبر” كما تقول وسائل الإعلام.
*
كلمةٌ عن علاقتنا بمعرفة صيرورة الترجمة: قابلية ترجمة القصيدة العربية عملٌ لا نهاية له، إن شئت القول، أيْ أنه لا يُمكن أن يكون إلا بدايةً متجدّدةً. ويبدو لي أن هذا العمل مع مزدوجي اللغة (بنيس، شوقي [عبد الأمير] ومع آخرين كثْر) معاً، “خطوة خطوة” كما أحكي عنه في كتابي حول “محترف الترجمة” لمجلة شعر Po&sie، ربما أدى إلى تغيير ما هو مُترجَم والعمل على أن نسمع، فيما وراءَ الموضوع، النشيدَ، “اللغةَ”، العملَ على قابلية سماع متخيلها، الإمكانية؛ وزيادة التأثير المرغوب فيه.
*
لا يمكن أن أختم هذا الحديث دون أن أعود إلى تقديم حالة تمزّق العالم، مهما كان ما كنا نبحث عنه قليلاً حتى “نتحمّل تَعالينا”، على ارتفاع معقول، “في أي مكان لكن خارج العالم” anywhere but out of the world ـ الذي لا يمكن أن يصل إلى علوّ “أمريكا أولاً” l’America first.
ما الذي يمكن أن تُظهرهُ رؤيةٌ غيرُ حالمة؟ لأن الأمر لم يعد يتعلق بـ”أنْ يكون لنا حلم” (to have a dream). مذبحة شاملة؛ هجرة على مستوى الجموع الغفيرة؛ فساد كامل (اقتصاديات مافيوزية)؛ مواجهات بين القوى النووية على حافّة الهاوية، كما في نهاية شريط ويسْترن. القيامة الآن. صورة للشر الذي لا يشبه في شيء ما تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على أن تؤدلجه كـ”محور للشر”.
فكيف نمنعُ ضررَ الطوائف والنزعات الانقلابية، تسْوماني الحقد، بدلاً من منع الحُبّ؟
مارس 2021
ترجمة م. ب.