صدر عن مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني 2022 البيان التالي:
مشروع لا مشاريع… ولا إعلانات مضخّمة على الورق… مشروع العمل والإنجاز الظاهر على الأرض… يقول ويفعل… ويتابع الطريق، ولو وحيداً، من أجل الحضارة والإنسان…
شكراً لكل من أحبّه… وإلى اللقاء في مواعيد العطاء والتضحية حتّى الرمق الأخير…
***
على الرغم من كل الصعوبات والضغوط الحياتية، والعمل الإعلامي والأدبي والفكري، أنهيت ترجمة كتاب تاريخ “هنيبعل القرطاجي” (أعلنّا عن بدء الترجمة في 13 كانون الأول الماضي). الكتاب مؤلّف من 295 صفحة، هو ترجمة حرفيّة غير مختصرة لسيرة بطل فينيقيّ عظيم ملأ الدنيا وشغل الناس، وعندما سأله القائد الروماني سكيبيو (شيبيون) من هو أعظم القادة؟ أجاب: الاسكندر المقدوني. ثم سأله: من بَعد الاسكندر؟ قال: بيروس. (وهذا الأخير قائد يونانيّ عبر بحر الأدرياتيك وحارب الرومان). ثم سأله: مَن هو القائد الثالث بَعد الإسكندر؟ فأجاب: أنا، لو لم تهزمني.
حقائق وأسرار عسكرية تُنشر لأول مرة باللغة العربية، بالتفصيل عن بطولات هنيبعل، وعبوره جبال الألب، ودور شقيق هنيبعل، صدربعل، الذي عبر جبال الألب أيضاً لنجدة شقيقه… والظروف التي أدت إلى تدمير قرطاجة وإحراقها، ودور صدربعل الثاني في المعركة النهائية… التي نقتطف منها مشهداً يدل على ضراوة تلك المعركة وعناد الفينيقيين في مقاومة الغزاة:
“لم يعد بعض السكان الآن ميّالين إلى المواجهة، بل ألقوا بأنفسهم تحت رحمة الفاتح. بينما آخرون غاضبون في يأسهم، كانوا مصممين على القتال حتى النهاية، وغير مستعدّين للتخلي عن متعة القتل لكلّ مَن يمكنهم قتله من أعدائهم المكروهين، وغير عابئين بإنقاذ حياتهم.
وهكذا قاتلوا من شارع إلى شارع، وانسحبوا تدريجيّاً مع تقدّم الرومان، حتى وجدوا ملاذاً في القلعة. وصعدت فرقة واحدة من جنود سكيبيو على أسطح المنازل، وكانت السطوح مستوية، فشقّوا طريقهم عليها، بينما تقدّم رهط آخر بالطريقة نفسها في الشوارع.
لا يمكن لأيّ خيال أن يتصوّر الضجّة والضوضاء الناجمتين عن مثل هذا الهجوم على مدينة مكتظة بالسكان: اختلاط فظيع بين أوامر الضباط الصاخبة، وصيحات المهاجمين المتقدّمين والمنتصرين، مع صرخات الرعب من النساء والأطفال الهلِعين، والآهات المروّعة والشتائم من الرجال الذين يموتون في جنون من الانتقام المقيت، ويضربون الأرض في عذاب أليم.
سيطر المقاتلون الأكثر تصميماً، وعلى رأسهم صدربعل، على القلعة التي كانت عبارة عن رُبع المدينة المحصنة، والواقعة على أحد المعالم البارزة، والمحميّة بقوة، وتقدم سكيبيو إلى أسوار هذا الحصن، وأشعل النار في الجزء من المدينة الأقرب إليها. أضرمت النيران لمدة ستة أيام، وفتحت مساحة كبيرة أتاحت للقوات الرومانية فرصة للتحرّك. وعندما جاءت القوات الرومانية إلى المنطقة التي أصبحت شاغرة بفعل النيران، ووجد الناس داخل القلعة أن الوضع ميؤوس منه، نشأ، كما هي الحال دائمًا في مثل هذه الحالات، صراع يائس داخل الأسوار في ما إذا كان يجب الاستمرار في المقاومة أو الاستسلام من جرّاء اليأس. فقرّرت مجموعة هائلة، تقارب ستين ألفًا من السكّان، نصفهم من النساء والأطفال، الخروج لتسليم أنفسهم لرحمة سكيبيو، والتضرّع من أجل حياتهم. أمّا زوجة صدربعل التي كانت تأخذ طفليها إلى جانبها، فقد ناشدت زوجها بجدّية للسماح لها بالذهاب معهم، لكنه رفض. وكانت هناك مجموعة من الفارّين من المعسكر الروماني في القلعة، وهؤلاء لم يكن لديهم أمل في الهروب من الدمار إلاّ بمقاومة مستميتة حتى النهاية. وكان من المفترض أن صدربعل لن يستسلم أبدًا. وقد كلّف أولئك الفارّين من المعسكر الرومانيّ بزوجته وأطفاله. وأخذ الهاربون الذين لجأوا إلى معبد كبير في القلعة، الأمّ المحمومة معهم لمشاركتهم مصيرهم. ورغم ذلك، فإن تصميم صدربعل على مقاومة الرومان حتى النهاية، قد تلاشى بعد وقت قصير، فقرر الاستسلام…
فتح الجنود القرطاجيّون أبواب القلعة، ودعوا الفاتحين يدخلون. فأصبح الهاربون الآن يائسين تمامًا بسبب خطر أعدائهم، وبعضهم ممّن كانوا أكثر غضبًا من البقيّة، فضلوا الموت بأيديهم بدلاً من إعطاء أعدائهم المكروهين الفرصة للتمتّع بقتلهم، فأشعلوا النار في المبنى الذي حُوصِروا فيه. ركض السجناء البائسون ذهاباً وإياباً في المبنى، شبه مختنقين بالدخان ومحروقين بالنيران. وصل الكثير منهم إلى السطح. وكانت زوجة صدربعل وأولاده من بين هؤلاء. نظرت إلى الأسفل، بينما كانت كمّيات من الدخان واللهب تتدحرج حولها، فرأت زوجها يقف هناك مع القائد الروماني، وربّما كان ينظر، في ذعر، إلى زوجته وأطفاله، وسط مشهد الرعب هذا.
إنّ رؤية الزوج والأب في وضع آمن، جعلَت الزوجة والأم غاضبة تمامًا وتشعر بالاستياء والثورة. صرخت بصوت عال، تجاوزَ كلّ الضجيج حولها: “يا للبؤس!… هل تسعى إلى إنقاذ حياتك بينما تضحّي بحياتنا؟ لا يمكنني الوصول إليك بشخصك، لكنني سأقتلك هنا في أشخاص أطفالك”. بعد أن قالت هذا، طعنت أبناءها المنكوبين بخنجر، وألقت بهم، وهم يكافحون طوال الوقت ضد جنون والدتهم، إلى أقرب فتحة كانت النيران تصعد منها، ثم قفزت وراءهم بنفسها لتقاسمهم هلاكهم الفظيع.
عندما حصل الرومان على المدينة، اتُّخذت الإجراءات الأكثر فاعلية لتدميرها الكامل. فنُقل السكّان إلى المناطق المحيطة ، وحُوّلت بأكملها إلى مقاطعة رومانية.
وجرت بعض المحاولات فيما بعد لإعادة بناء المدينة، وكانت منذ وقت طويل مقرّاً لبعض المنتجعات، وبقي الرجال الحزانى هناك في أكواخ بنوها بين الأنقاض. ومع ذلك، فقد تخلّوا عنها تدريجيًا، وانهارت الحجارة وتآكلت، واستعاد الغطاء النباتي ملكية الأرض، والآن لا يوجد أي شيء يشير إلى المكان الذي كانت تقع فيه المدينة”.
***
*بعد قراءة ثانية للتدقيق اللفظي، يُنشر الكتاب قريباً.