مبدعون يتبعوننا (2)
“ما بين جبال لبنان وجبال تشيلي”
يحمل المبدعون الكثير من الملامح الإنسانية التي قد تخفى على الكثيرين، لكن هذه الملامح قد تظهر أحيانا من خلال مواقفهم وأحاديثهم وكتاباتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وهذه الملامح ربما تكون قريبة جدا من الحياة العامة، لذلك عندما بدأت كتابة هذا الموضوع حول عدد من المبدعين الكبار في الساحة الفكرية والثقافية العربية، لاحظت أن الشيء المشترك بينهم هو هذا الزخم الإنساني والأخلاقي الذي يطغى كثيرا على كل المفاهيم الثقافية. ورغم أن لكل مبدع منهجه وآفاقه الفكرية، وأسسه ومنابعه وأسلوبه الذي يتميز به لبلوغ مرحلة الابداع، كما لكل منهم موهبته ورموزه التي كبرت معه لاحقا، رغم معرفتي بأن في خصوصيات المرء، ما يخفى عن الكشف.
“ناسك الشخروب”
ميخائيل نعيمة الذي يحمل لقب “ناسك الشخروب” والمولود بقرية في لبنان تدعى “بسكنتا”، هذا المبدع في الادب والفكر والشعر كشخصية حاضرة كما لو أنها إحدى صخور جبال لبنان التي كتب فيها أهم أعماله. ميخائيل نعيمة الذي لم تتوقف مسيرة حياته إلا بعد بلوغه المائة عام تقريبا، كيف لي أن أختصر أفكاره في أسطر قليلة! ربما من خلال ما قاله قبل وفاته بقليل من إن أوراقه مازالت مسودة فيها خطوط غير مفهومة، هذه الكلمات بحد ذاتها هي رموز بثها ليحدد هذا الاديب ما يريد قوله.
أما ابنة أخيه مي نعيمة التي كانت تشرف عليه قبل وفاته فهي تقول عنه أنه كان يقضي أياما لا يكتب فيها بسبب حالته الصحية، وفي أواخر أيامه كان لا يفعل شيئا سوى القراءة، حيث كان يعيد القراءة في كتبه.
وتضيف كان يستيقظ صباحا عند الحادية عشرة، يحلق ذقنه، ثم يتناول فطوره المكون من العسل و”الغريب فروت”، وهو الفطور الذي اعتاد تناوله خلال خمسين عاما، ثم يذهب إلى مكتبه للقراءة، ويعود للغداء في وقت متأخر. وعندما يخف وهج الشمس، يرتدي بذلته مصرا على ربطة العنق، ويجلس فوق المصطبة المطلة على حديقته المزروعة بالزهور، يتأمل قليلا، يسافر في أفكاره البعيدة، ثم يتناول ورق اللعب ويمارس وحيدا رياضة زهنية رقمية حتى حلول الليل. وبعد ذلك يدخل إلى غرفته ويعود إلى كتبه من جديد. لقد كان ميخائيل نعيمة في حياته يعتمد على عائدات كتبه كدخل مادي له يعيش من ورائه. وكان أيضا يحب التدخين كثيرا، لذلك كان كلما قبض من عائدات كتبه، غيّر تبغه ليشتري أجود الأنواع. هذا إلى جانب أن قراراته كانت أبرز ما يميز شخصيته، فهو لم يعتد طوال حياته أن يأخذ قرارين أو يتردد بين فكرتين.
ولقد اخترت هذا المقطع من نص طويل يحمل عنوان “وحدي” الذي يتضمن فلسفية للحياة وللكون
وحدي …
أجل، وحدي وما من بشر غيري على وجه البسيطة
لا سفينة في البحر والجو، ولا سيارة أو قطار أو قافلة على اليابسة
لا عابد في معبد، ولا طبيب في مستشفى، ولا دارس في مدرسة
لا فأس في غابة، ولا منجل في كرم، ولا معول في حقل
لا شاعر ينظم، ولا رسّام يرسم، ولا كاتب يكتب
لا من يبكي، ولا من يضحك، ولا من يغني
لا من يُحارِب، ولا من يُحارَب
لقد فني الكل ولم يبق غيري شاهدا
لقد أفناهم التكالب على خيرات الأرض
وهذه الأرض هي اليوم ميراثي وحدي
فماذا عساني أن أصنع بما ورثت؟!
عمر أبو ريشة
هذا الشاعر الطبيب والدبلوماسي المولود في “منبج” بمحافظة حلب بسوريا، والذي شغل منصب سفير لبلاده في العديد من الدول منها الولايات المتحدة الامريكية سنة 1961، مارس الطب ودرس الكيمياء العضوية، ثم اتجه لكتابة الشعر. اما عمله في السلك الديبلوماسي فقد أتاح له العديد من المناصب السياسية الى جانب تمثيل بلاده كسفير، وهذه الملكات الثلاثة من طبيب الى ديبلوماسي الى شاعر، جعلته يحمل صفات الاعتزاز الممزوج بتواضع الكبار، وهو خريج جامعة مانشستر في بريطانيا.
ومن خلال بحثي عن ملمح خاص في حياته وجدت في أحد تصريحاته عن بيروت أنها محطته الأجمل، وهي التي لم يغادرها أثناء الحرب، ولن يتركها مهما تكاثرت عليها الأخطار. وحين كان يعود بذكرياته إلى الوراء يتحدث كثيرا عن طفولته وحياته، وعن دراسته للكيمياء العضوية، وعن حياته العملية كطبيب كما يصر على أنه يعتز بذلك. ومما يذكر عن القصص التي عاشها والتي أوحت إليه بأجمل قصائده، وجدت تلك التي حصلت معه أثناء سفره كمبعوث إلى “سنتياغو عاصمة شيلي” ليكون سفيرا، حيث جلست بقربه في الطائرة فتاة لاتينية، سألها بعد الإقلاع بقليل:
من أنت؟ فقالت على الفور، أنا تشيلية لكنني من أصل عربي، إن الدم العربي يسري في عروقي. ثم بدأت تتحدث عن مآثر أجدادها العرب، وكيف أنهم فتحوا الدنيا وأقاموا صرح الحضارة، كان الشاعر مندهشا من هذا الذي لا يجده في الحاضر، وقبل الهبوط سألته من أنت؟ لم يجب وبقي صامتا أمام الكلام الكبير الذي قالته هذه الفتاة. لكن الفتاة اكتشفت بعد ذلك من يكون هذا الرجل الذي تكلمت معه، حين رأت من يستقبلونه، فعرفت أنه ديبلوماسي، وقفزت بينهم تعتذر لعدم معرفتها له.
ويقول المقربون من عمر أبي ريشة، أنه لفرط حساسيته وتأثره، كلما شاهد نفسه على شاشة التلفزيون يلقي قصائده، فإنه يداري البصر كي لا ينحدر الدمع من عينيه، ويشعر به الآخرون. إنه الكبرياء الذي يبدو أكثر عمقا من كل دموع المناسبات.
هكذا عمر أبوريشة الشاعر الشامخ الذي لم يكن يبكي، إنما يرسم قصيدة الدهر في نقطة دمع ساخنة، تحمل المعنى والمبنى والروح وقصة الشاعر مع الحياة عندما يستعيد سطورها امام عينيه. إنه كالفرح المأسور بحزن عميق.
يقول في قصيدة من أجمل قصائده بعنوان “وداع”:
قفي لا تخجلي مني فما أشقاك أشقاني
كلانا مرّ بالنعمى مرور المتعب الواني
قفي لن تسمعي مني عتاب المدنف العاني
خذي ما سطّرت كفاك من وجد وأشجان
صحائف طالما هزّت بوَحْيٍ منك ألحاني
خلعت بها على قدميك حلم العالم الفاني
فان أبصرتني ابتسمي وحييني بتحنان
وسيري سير حالمة وقولي كان يهواني