“أوطانكم” لجميل الدويهي

 

كلّما ابتعدت أوطانكم عنكم اقتربت منكم أكثر، ولكنّ أوطانكم هي في قلوبكم، وأوطانكم هي حرّيّتكم، فأينما حللتم لا تسألوا عن الأرض والسماء والبحار، ولا تقولوا: من يحكُم هذه البلاد وسكّانها؟ بل انظروا إذا كانت الفضاءات أوسع من أحلامكم البعيدة، وعندما ترون أنّ أجنحتكم لا تبلغ إلى سماء، بل تصطدم بجدران مطليّة بالسواد، فعلّموا أجنحتكم أن تخترق الحدود والمحيطات. وإذا ضاقت عليكم الأرض فاسكنوا في الخيال، واذهبوا إلى جزر لا تصل إليها السفن العابرة، وهناك أقيموا مع الصمت والصلاة، إنّ الصمت هو أجمل العبادة، والصلاة هي أجمل الفرح.

حيث تعيشون عراة ولا يقول لكم أحد: خذوا ثياباً واستروا عريكم تكون براءتكم للخلود. إن الأجساد ليست خاطئة بل إن الخطيئة في العين التي تنظر والقلوب التي تشتهي.

وإذا ذهبتم إلى أوطان بعيدة فعلِّموا أبناءها العزف على المزمار، واجلسوا معهم على الأرض لكي يعرفوا كم أنتم متواضعون، وإذا أعطوكم أرضاً كي تزرعوا وتحصدوا، فاجعلوا لابنائهم نصيباً من أعدالكم. إنّ لصاحب الأرض حقّاً عليكم. وستشتاقون كثيراً إلى مواطنكم الأولى لأنّها لم تنفصل عن أرواحكم، وما تزال أصوات أجدادكم وآبائكم تطاردكم على أجنحة الرياح، فباركوا الريح التي حملت أصوات الغابرين، ولكن إيّاكم أن تغرقوا في العاطفة فإنّها تقتلكم، ولا تترك منكم إلاّ القشور الفارغة.

ولأنّ أوطانكم هي الحرّيّة فلا تأخذوا الحرّيّة من الآخرين. كونوا طليقين كالينابيع، ومضيئين كالقناديل التي تمحو عتمة الليل، فما أكثر الذين يدّعون الحرية وهم محبوسون في أقفاص من حديد! وما أكثر أعداء الحرّيّة وهم يدافعون عنها! لا تكونوا مثل هؤلاء الذين يتوهّمون أنهم كالأطيار، لكنَّ أجنحتهم مكسورة وهم لا يعلمون.

لا تطلبوا من أوطانكم أن تعطيكم، لأنها تعطيكم من غير أن تطلبوا، فاعطوها أنتم من زادكم أيضاً، وكم من جائع لا يطلب منكم رغيفاً، وكم من مشرّد لا يسألكم عن رداء!

خذوا أوطانكم معكم إلى حيث تذهبون، فالأوطان ليست من طين وماء. هي الوجود الذي لا تحدُّه حدود. هي أنتم… ومِن غيركم أنتم لا مكان للمكان.

***

*جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد