تعجبون يا أحبّائي من أنَّني فتحت أبواب المعبد لجميع الشعوب، فالله جمعكم لا ليفرِّقكم وفرَّقكم لأنَّ اختلافكم حكمة. وقد وُلدتم على دين، ليس لأنَّكم اخترتم دينكم، بل لأنَّ آباءكم وأجدادكم كانوا على هذا الدين. وبعد أن وُلدتم لم يسألكم أحد عن الدين الذي تفضّلونه فيكون لكم. لذلك فالأديان ليست منازل من حجر مقفلة الأبواب. وإنَّكم عندما تعبدون الله تكون عبادتكم دِيناً، وليس مهمّاً كيف تُصَلُّون. أمَّا الذين قالوا لكم إنَّ دين الآخرين ليس صحيحاً فهم تجَّار الهيكل الذين أصابهم الغنى، ومـا زالوا يجمعون المال ولا يشبعون، ولبسوا التكبُّر درعاً.
حقيقة أقول لكم إنَّ الذي يعمل في حقله يصلّي لإله الأرض، والذي يبحر في مركبه إلى البحر البعيد يصلِّي لإله البحر، والفنّانون والنحّاتون والراقصون والعاملون في المصانع لكلّ منهم إله يحبُّه، ولكنَّ كلَّ تلك الآلهة إنَّما هي في الحقيقة إله واحد. فأحبُّوا إلهكم لأنَّه أحبّكم ولا تقولوا: لماذا أعطيت الآخرين أكثر ممّا أعطيتنا، فقد يكون أعطاكم أكثر منهم ولا تعرفون، وقد يكون أعطاهم كثيراً لكنّهم يحزنون في ما عندهم وأنتم تفرحون بالقليل، فهناك مَن يأخذون الكثير ومع الكثير يحزنون، وهناك من يأخذون القليل ومن القليل يغتبطون، أما الذين في أيديهم الغنى فإنَّهم لا يشبعون ولو أصبحوا في القبور. يمدُّون أيديهم لأنَّ نفوسهم ضعيفة، ويتظاهرون بالحاجة وأموالهم في الخزائن يأكلها الصدأ، ويغطِّيها الغبار…
كونوا إخوة في معبد الروح، ولا تسألوا أحدكم: من أين أنت؟ ومن هما أبوك وأمُّك؟ فالمؤمن لا يسأل أحداً عن أصله ودينه، فالأصل واحد والدِّين واحد كما أنَّ الله واحد في كلِّ الأمكنة.
إنسانيّتُك هي دينك
بعد أن خدمتُ المعبد لأربعين سنة، وأصبحتُ شيخاً طاعناً، سلّمتُ المعبد إلى الكاهن الأصغر، وأوصيتُه خيراً بالناس، ثمّ ذهبتُ إلى الجبل الذي يرتفع فوق الغابة، حيث المعبد القديم الذي كان يعيش فيه الكهنةُ السابقون، وكان مهجوراً ومهمَلاً، فأصلحتُه وساعدني في عملي بعض الرجال والنساء الذين يعيشون قرب الغابة. ولم تمضِ أيّام حتّى بدأ قليلٌ من الناس يتوافدون إلى المكان، وكنت أستقبلهم بغبطة وأشاركهم في الصلاة.
لم أسأل أحداً منهم: من أين جئتَ؟ وكنت أعلم أنّ بعضهم قد جاء من قرية بعيدة، فالأسماء والأمكنة والوجوه لا تهمُّني. فكم من الأسماء لا تشبه أصحابها، وكم من أمكنة تضيق على ساكنيها، فيحطّمون حديد المسافة ويهربون إلى المجهول… وكم من وجوه مستعارة تتساقط عند هبوب الرياح!
إنَّ قيمة الإنسان لا تكون في صورته، فالصورُ تُعلَّق على جدران الأزمنة إلى حين، وقد تتساقط وتندثر، أمَّا الروح فتبقى، ولذلك يخلع الناس أجسادهم ولا يخلعون أرواحهم، أمّا الإيمان بالله وحده فهو جوهر تلك القيمة، وكلُّ شيء يتداعى بمرور الأيّام إلاّ ذلك الجوهر، فهو كالشمس، كلّما تقادمت بها العصور ازدادت نوراً ولمعاناً.
سألني أحد الزائرين يوماً: إلى أيّ دين تنتمي؟
فقلت له: إنّ الديانات تبطل إذا كانت سبيلاً للفرقة بين الناس، فهل أنت تفرّق؟
قال: لا. لم أفرّق يوماً، ولم أدعُ إلى الاختلاف.
قلت له: أنت من طائفتي وأنا من طائفتك. فلا ينبغي أن تسأل أحداً عن القشور التي لا أهمّيّة لها.
وسألتُ الرجل: إذا كنتُ في صحراء، وأشكو من الجوع والعطش، وكنتَ أنتَ في خيمة ورأيتَني منطرحاً على الرمال الحارقة، أفلا تخرج من خيمتِك على عجل لكي تنقذَني من الموت؟ وهل كنتَ تسألني: مَن أهلي وعشيرتي؟ وإذا كنت أعبد الله أو الحجر؟
فكّر الرجل هنيهة وكأنّه يتصوَّر المشهد الذي رسمتُه في خياله، وقال: نعم أيّها الكاهن، كنتُ أخرج من خيمتي وفي يديَّ خبز وماء لأطعمك وأسقيك. وما كنتُ سألتك: مَن أنت؟ لأنّ حياتك عندي أغلى من كلّ شيء.
فرحتُ بكلام الرجل، وقلت له: طوبى لكَ أيُّها المؤمن الشجاع. إنسانيّتُك هي دينُك.
هذه العبارة الأخيرة التي تفوّهتُ بها في ذلك اليوم، نقشتُها على حجر، وجعلتُها فوق باب المعبد لكي يراها الوافدون ويتمعّنوا فيها. وما تزال إلى الآن شاهدة على معرفتي وصدق إيماني بإله واحد هو إله البشر جميعاً، ولا يمكن لأحد أن يمتلكه.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني