سمعت واحداً من صحبي يقول للآخرين: يدهشني ما يتفوّه به صاحب المعبد، فبالأمس وصفنا بأنّنا الأحبّة الجاهلون، وطفقت أفكّر في هذا الوصف الدقيق لحالتنا. فنحن أحبّة له ونحبّه أيضاً، ولكنّنا جاهلون كما هو جاهل، فلا أحد يعرف الحقيقة، وما نراه منها هو جزء يسير لا يكاد يظهر للعين المجرّدة، أمّا الباقي الذي لا يبدو لنا، فأكوان وراء الأكوان، وطلاسم لا يصل إليها علم ولا دراية.
قال واحد منهم: وسمعته بالأمس يتحدّث عن المبدعين في الإثم. وأعتقد أنّه أوّل من ابتكر هذا الوصف لفاقدي الضمير والكاذبين الذين ينشرون الظلام في المدن والقرى، ويملأون السماء غباراً لكي يحجبوا الشمس وهي في عين السماء… أليس هذا ما يقصده؟
وقف ثالث كان قاعداً على الأرض، وفي يده كتاب “التأمّلات”، ففتحه على عجل، وقرأ بضعة أسطر، ثمّ أغلقه، ونظر إلى البعيد متأمّلاً. وبعد هنيهة قال:
“المبدعون في الإثم” لها تفسير عندي، فما بين الإبداع والإثم كما بين الأرض والسماء، بيد أنّ الإبداع ليس كلّه جمالاً وفكراً يغني الحضارة، فهناك مبدعون في الحروب، وفي الشرّ، والغلاظة. وهناك من يترصّدون للمبدعين والفلاسفة، فيواجهون مآثرهم بتلفيق ظلاميّ، ويشوّهون سمعتهم، وينشرون عنهم الأقاويل التي لا صحّة لها، وليتهم ارتكبوا إثمهم بعد أن تلفّظوا بكلمة واحدة جميلة عن البحر الذي يهدر، أو عن الوادي الذي تفوح منه رائحة العطر والكروم، أو عن الشجرة المثمرة التي تغدق من غير حساب! فالعدل يقتضي أن ينظر المرء بعينين اثنتين، ولو كانت واحدة من عينيه كاذبة ولسانه ينشر الأقاويل… أفهمتما الآن كيف يكون الإبداع في الإثم؟
قال أحد رفيقيه: نعم. فهمنا، فأنت رائع في المنطق، وحبّذا لو أنّ كلّ البشر يتبعون المنطق الصحيح الذي يوصل إلى الخير والسلام. وأستطيع الآن أن أعرض لكم ثلاث طبقات من المبدعين في الإثم… المبدع الأوّل هو الذي يخترع الكذب والنميمة وينشرهما، والثاني هو الذي يصدّق، فهذا تابع ساذج وبسيط، لا يفكّر ولا يسأل… وفي ظنّي أنّ عليه أن يتأكّد قبل أن يتلقّى المعرفة كالببّغاء، أمّا الثالث فهو الذي لا يصدّق ويلزِم نفسه بـأن يصدّق، لكي يراعي مصلحة أو يحافظ على صداقة هي في الأصل تمثيل وتبادل أدوار… لكنّ الحقّ أقول لكم إنّ هذا الأخير أكثر إبداعاً في الإثم من الأوّل، وأكثر مرضاً منه، ويحتاج كلاهما إلى طبيب لمعالجة العقد النفسيّة التي تنطق شؤماً وخراباً أمام كلّ تفوّق وإنجاز عظيم. وبسبب هؤلاء، ترى مَن يصفّقون للغراب، والفحمة المنطفئة، والفكرة الضعيفة، وفي المقابل يحقدون على الحمامة البيضاء، والكوكب الساهر، والفلسفة الرفيعة… أما سمعنا كلّنا، أنّ في المدينة هناك، حشوداً تتحزّب لسليط اللسان، وعديم الفكر، والقاتل، ومخرّب الحضارة… وتتّخذه قدوة ومثالاً، بينما تتجنّب معاشرة الأنبياء والمصلحين، وقد تنكّل بهم وتصلبهم!
كنت أستمع إلى ذلك الحديث من وراء النافذة الصغيرة التي تطلّ على السهل المملوء سنابل وأشجار زيتون، وأفرح بأنّ صحبي قد فهموا كثيراً ممّا علّمتُهم… وفكّرت عميقاً في الفرق بين الفاهمين الحكماء، وبين قاطعي الرؤوس، وناشري الجهل والتردّي. وقلت في نفسي: إنّ هؤلاء الطيّبين هم الذين سيحملون من بعدي، كلمة الحقّ والعدالة، في عالم يحتاج إليهما، كما يحتاج التائه في الصحراء إلى خبز وماء.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع