لا تدعوا أحداً يدخل بينكم وبين أرواحكم. فبعض مَن يأكلون خبزاً على موائدكم، ومَن يشربون خمراً من جراركم، يشبهون السارق الذي يأتي ليلاً… فاحذروا أن تصدّقوا المشاعر التي يهرقونها عند أقدامكم، فهي من أجل فرح أنفسهم.
ولا أحد يحبّكم إلاّ لأنّه يحبّ نفسه من خلالكم، ولأنّكم تصنعون له كثيراً من الخير والعطاء.
ليس من حبّ صادق، إنّما المحبّة صادقة، لأنّ الحبّ يأخذ، والمحبّة تعطي. وليس من حبّ متجرّد من الشهوة، بينما المحبّة تطير بأجنحة الملائكة، ولا حدود لفضائها. والذي يصنع المحبّة هو كالبيدر الذي يطفح بالغلال، ولا يسأل عمّا يأخذه، بعد أن يفرغه الفلاّحون في أعدالهم، فلا يبقى منه شيء سوى الفراغ، لكنّه ينتظر وحيداً إلى أن يجيء الصيف، فيفرح قلبه مرّة بعد مرّة بصدق العطاء والفضيلة.
أمّا الذي يصنع الحبّ، فمِن أجلكم ومن أجل نفسه أيضاً… ولا يستطيع الحبّ أن يرقى إلى المحبّة، لأنّه يرتدي الجسد، ويحتمل الكذب والرياء. وصدقاً أقول لكم إنّ التاجر في السوق، يبالغ في إظهار العطف، ويغمركم بالكلام الجميل، لكنّه في المساء، ينصرف إلى عدّ نقوده، ويفرح لأنّه أصبح غنيّاً بفضلكم، ولولا ذلك الفضل الذي تظهرونه كلّ يوم، لعاش فقيراً، وخلتْ صناديقه من الثروة.
وها أنتم تتنكّرون لبلادكم، وتخلصون لمن نهبوا خزائنها، وأفقروا شعوبها، فأيّ شيء يبقى للخلود؟ إنّ الذي يبقى هو الفكر المبدع الذي أضاء لكم الطريق لتعرفوا أين هو الحقّ. وبه تدركون عاجلاً أم آجلاً أنّ الحبّ الذي تسحقون أنفسكم من أجله، قد نهبَ منكم أغلى كنوزكم، وترككم على الرصيف معدمين، تشتهون اللقمة، أمّا الذين أخذوا ولم يعطوا، فهم يعيشون في القصور، ويتنعّمون بالحرير والديباج، ويضحكون من سذاجتكم، ومن حبّكم الذي بلغ من السخافة حدّاً لا يُطاق.
مرّ في التاريخ عاشقون كثيرون، وكلّهم كانوا يزعمون أنّ الحبّ خالد ولا يموت، لكنّه مات، وانقلب الوفاء إلى جفاء، والمشاعر إلى جليد، أمّا الذين أحبّوا بالمحبّة، فقد تعرّضوا للاضطهاد، والعذاب، والجلد من أجلكم، وأنتم تتنكّرون لهم في كلّ يوم، لتحبّوا الخائنين والمتكابرين، الذين لم يتركوا لكم حصيراً لتناموا عليه، ولا كسرة خبز لتطعموا أطفالكم الجائعين.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع