“لتنتصر الياسمينة على الخوف” (دعوة إلى السلام) لجميل الدويهي

 

تعالوا إليّ لنسير معاً إلى مشرق الشمس، ونغنّي مع الربيع والجدول. للسلام نغنّي، بعدما بكينا طويلاً، وسكنَ الحزن في قلوبنا.

الرجال سيغنّون، ويمحون من ذكرياتهم أيّاماً سوداء، كأنّها شبح يرتدي ثياب العواصف والرعود.

والنساء سينشدنَ بألحان سماويّة: طوبى للذين يعودن إلى حقولهم ليزرعوها قمحاً ويغرسوا في الوادي أشجار زيتون وتين. وطوبى لمن يحطّمون أغلالهم، ويفرّون من الموت الذي كان يستعبدهم، وينطلقون بخطى ثابتة إلى زمان جديد.

والأطفال سيغنّون قصائد جديدة ليس فيها كلام عن الرحيل والدموع والنسيان، بل فيها كلام عن الوردة والعطر وهديل الحَمام.

والشيوخ سيردّدون مع المغنّين: لقد طرحنا عن أنفسنا رداء الغضب، وخرجنا من عتمة رهيبة ضاع فيها أبناؤنا ولم يعودوا… سنلتقي بهم من جديد ونفرح. سنكسر الخوابي العتيقة ونشرب خمراً عصرناها من كرومنا، صافية، رقيقة كأنغام كمان.

والفقراء سيأكلون على موائد عامرة، ولن يجوعوا بعد الآن.

والأغنياء سيفتحون صناديقهم لأنّ أعمارهم قصيرة والكنوز لا تدخل إلى القبور.

تعالوا إليّ لكي نُخرج المدن من حرائقها، ونعطي للعابرين كتاب حياة.

وداعاً يا كلمات الرثاء، ويا أناشيد البطولة، ويا حكايات المجد البائدة.

وداعاً للقصائد المعلّقة التي تتحدّث عن فرسان القبائل، وللدماء التي ما زالت تصرخ في رمال الصحراء. وداعاً للسيف والبندقية والحجر، ولتنتصر الياسمينة على الخوف، وليتمجّد حبر القلم.

سنمضي في الغابات والقفار حتّى نصل إلى البحر الهادر. سنخاطب الطيور البيضاء التي تنشر أجنحتها على الموج قائلين: نحن مثلك أيّتها الطيور… لا نسأل عن بيوتنا، ولا من أين جئنا، ولا ماذا نأكل ونشرب. نعرف أنّ الله يعرفنا ويجعل لنا مساكن في قلبه، وهو الزمان والمكان والعناوين كلُّها، وهو يطعمنا من حصاده، ويسقينا من ينابيع لا ينضب ماؤها.

تركْنا السلاح على الرصيف ليأكله الصدأ، فنحن لا نريد البكاء بعد اليوم.

لا نريد الثأر، ولا نريد القبيلة.

مَن يقدّسون الدماء فبالدماء يموتون، ومن يعبدون الروح فبالروح يعيشون. فلنحيَ نحن بأرواحنا، ولنترك أبناء الجسد يموتون في أجسادهم، ويبكون عليها ولا أحد يسمعهم سوى أعمدة القبور.

للسلام نبني لأنّ السلام حياة. وكم فقدنا من أحبَّة لنا، عندما أعمى الحقد عيوننا، وتلطّخت ثيابنا بالدخان. ومن بقيتْ له عينان فلينظر إلى الوراء، وسيرى كم من العذاب يطارده، فإنّ الذين بدأوا الحروب لم ينتصروا، والذين رفعوا سلاحهم ليقتلوا الأبرياء لم يبقَ منهم سوى صفحات في كتب، وتماثيل عرّتها الرياح في ليالي الخريف.

لتعودوا يا أبنائي وأحبّتي إلى البيوت البيضاء التي بنيتموها في القرى، وأشعلتم فيها نار المواقد، وغنّيتم للفصول… لتعودوا إلى آباركم وحكاياتكم… إلى غناء الجدول وهديل اليمام على السطوح… وإلى أرواحكم التي غادرتموها ولم تودّعوها، وهي تبكي بألم وتسأل عن أبنائها فلا يجيب سوى الفراغ.

أنتم تحزنون على أحبّاء لكم رحلوا في مراكب الجهل والضياع. رحلوا وأقفلوا أبواب الزمان، وقطعوا أشجارهم وكرومهم وألقوا بها في أحضان الليل… فمتى ينتهي الحزن، وتضحك الأيّام؟

إنّ صوت الله هو صوت البراءة، فلا تفقدوا براءتكم، لأنّ الأرض التي أطلعتكم لا تريدكم أن تتحاربوا من أجلها… لقد غضبت تلك الأرض من عاركم، وكتبت أسماءكم على ألواح الهزيمة، فكيف تقرأون تلك الأسماء وتقولون: ها نحن مذكورون في سفر الخلود؟… إنّ خلودكم يكون في مَن أحببتم ومَن ستحبّون. والحقد لا يجعلكم خالدين، لأنّه والموت واحد، فابحثوا عن البقاء في مدينة الأحياء، ولا تحملوا بعد الآن نعوشكم وتسيروا إلى العدم، فإنّ العدم نفسه لا يشتهيكم وأنتم ترتدون ثياب الضغينة وتحتفلون بالثأر والدمار.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد