(ما أكثر الذين يُمجّدون الفحمة المنْطفئة، ليس لأنّهم يحبّونها، بل لأنّهم يكرهون الشمس!)
دائماً يسير معي، من مكان إلى آخر، من مرفإ إلى مدينة، إلى سهل، إلى جبل!
لكلّ إنسان ظلّ واحد، ولي ظلاّن، وهو ثالثنا.
يراه العابرون في المدينة، فيتعجّبون منه ومنّي، ويسألون: لماذا هو معك منذ ولدت، يرافق خطواتك، ولا يبتعد عنك؟ أفليس له أقرباء، أو زوجة، أو أبناء يشتاق إليهم؟
أجبتهم: أنا أبناؤه كلّهم، وهو من أبنائي. تزوّج امرأة هي خيالي، وأنجَبَني، وأنجب لي أمّاً وأباً أيضاً. وهكذا تداخلنا، فصرتُ أنا هو وهو أنا.
تعجّبوا وقالوا: لكنّك مُخْلص له، وتتعب من أجله، وتسكب من عرق ودموع في كأس من البلّور لكي يشرب ولا يعطش، أمّا هو فخائن.
تبعثرت ملامحي، وسألت: كيف تعرفون أنّه يخونني؟
قالوا: ألا ترى كيف أنّ أهل المدينة كلّها لا يحبّونك، ما عدا قليلين فقط… هو الذي يحرّض عليك… يبدو أنّك لم تسمع بالقول عن ظلم ذوي القربى؟
-سمعته بلى، بَيد أنّه ليس قريبي فقط، بل هو نصيبي، وحبيبي…
-وعدوّك أيضاً، بل ألدّ أعدائك…
قلت وأنا محْبط وخائب: ليتني أستطيع أن أتخلّى عنه!… قد أعلّمه رعاية الماشية، فينصرف عنّي وراء قطيعه. أنا الحمل الضالّ، فليتركني وشأني، ويلحق بالخراف التي تحبّ أن تعيش تحت عصا الراعي…
منذ أيّام قليلة، أقنعتُ رفيقي بأن ينفصل عنّي، وأعطيته بعض المال لكي يشتري ثياباً جديدة لا تشبه ثيابي، وهيئة تختلف عن هيئتي، ومزماراً ينفخ فيه كلّما اشتاق إلى الحقيقة، أو طلبَها في الأودية والقفار البعيدة… وقلت له: لا تنسَ قيمة العدالة! فقد تقرع الأبواب ولا تفتح لك، وقد تطلبها ولا تجدها، فما أكثر الذين يمجّدون الفحمة المنطفئة، ليس لأنّهم يحبّونها، بل لأنّهم يكرهون الشمس!…
وبعد أن رفض صديقي أن يرعى الأغنام، لأنّه يخشى أن تنطحه بقرونها، اقترحتُ عليه أن يعمل بحّاراً في سفينة، فيزور البلدان ويتعرّف بأهلها… وكنت في قرارة نفسي، أحاول أن أبعده عنّي إلى أقصى الأرض، فأنجو من عدوّ ماكر يتقمّصني، ويؤلّب الناس عليّ، حتّى أصبح من يحبّونني أقلّ من أصابع يدي… وما إن ودّعته عند الميناء، حتّى اتّخذت صديقاً آخر، اسمه الفشل… فكان كثير الوفاء، ومنذ أن رافقني أصبح أهل المدينة كلّهم يحبّونني، وصرت أشتهي أن يبغضَني أحد منهم.
***
*جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع