“لا تحتقروا أحداً من الناس” لجميل الدويهي

 

لا تحتقروا أحداً من الناس، فإنّ الشحّاذين قد يكونون أغنى من النبلاء، وإنّ الذين يخدمون في القصور قد تكون أفكارهم أجمل من أفكار الشعراء.

كانت امرأة تبيع جسدها في الطريق، فرأت رجلاً يسقط عن صهوة جواده، فتركتْ تجارتها وأسرعت إليه لكي تساعده، فكم هي بائسة في تجارتها، وكم هم بائسون مَن يشترون منها، لكنّها عظيمة عندما أعطت ولم تأخذ. فلا تقولوا: هذا غنيٌّ وهذا فقير، فالفقراء يملكون ما لا يملكه الأغنياء، وقد يشتهي الأغنياء الذين في أرواحهم جليد ممّا في قلوب الفقراء من الحبّ والطهارة.

لقد رأيت ملوكاً يشحذون رغيفاً، ورأيت صعاليك يصنعون للشمس عقوداً وأساور. والتقيت بأناس يأكلون ولا يشبعون، فهؤلاء هم المحتاجون، فمَن يساعدهم؟

كلّما التقيتم بفلاّح يعمل في الحقل فانحنوا له، ومجّدوا تعبه لأنّه يعطيكم خبزاً لتأكلوا وتُطعموا أطفالكم. وصدقاً أقول لكم إنّ الرسّامين والنحّاتين يعرضون أعمالهم في معارض لكي ينظر إليها المعجَبون ويشتروا منها، أمّا الفلاّح فلا حاجة به إلى أن يفعل مثلهم، لأنّ الطبيعة معرضه، وكلّ ثمرة تخرج من بين يديه لوحة من الجمال رسمتها يد المبدع.

وكلّما رأيتم حدّاداً ينزل بمطرقته على الحديد، فقدّموا له وردة من أجل عرقه الذي يبذله من أجلكم. وهكذا افعلوا للنجار والخبّاز والراعي والمرأة التي تطحن وتعجن وتهزّ السرير بيمينها، فهؤلاء هم الملائكة الذين يسيرون بينكم، وإن كانت ثيابهم ممزّقة ويكسوها الغبار والسواد، فمِن حدائقهم زنابق، ومن أفواههم صلوات. وإذا سمعتم أحداً يسخر ممّا يرتدون، فامنعوه، لأنّ لا أحد يسخر من الشرف والفضيلة.

كان ملك عظيمٌ يتفقّد أحوال رعيّته وحوله رهط من جنوده ووزرائه، فمرّ على شاطئ البحر وشاهد طفلاً صغيراً يرتدي ملابس حقيرة، ويقف أمام كوخ من التنك. كان الطفل يراقب طيّارة من الورق ويمسك بخيطها، فنزل الملك عن حصانه واقترب من الولد وسأله:

هل تسمح لي يا أخي الصغير بأن أمسك بهذا الخيط دقيقة واحدة؟

تفاجأ الطفل ممّا سمعه، كما تفاجأ الجنود والوزراء. وعندما أمسك الملك بالخيط كان مغتبطاً، ثمّ أعاده إلى الطفل وقال له:

أشكرك يا أخي الصغير على ما فعلته، لقد أعطيتَني كثيراً من السعادة.

وبينما كان الملك عائداً إلى مدينته، سأله وزير من وزرائه عن سبب فرحه وهو يشارك طفلاً من الفقراء في اللعب، فقال الملك: اسمع يا وزيري، لقد فتحتُ العواصم، وملكتُ خزائن من ذهب وفضّة، لكنّني لم أستطع أن أفعل شيئاً يقرّبني من السماء، كما فعل ذلك الولد…

كونوا أنتم كهذا الملك الذي عنده من الحكمة ما يعجز عنه المكابرون، ولا تكونوا كأولئك الملوك الذين يتبجّحون بنعمة ليست منهم، ويتوهّمون بأنّ السماء تصغي إليهم، وتأتمر بأمرهم، وما أرواحهم إلاّ من تراب.

لا تعاشروا مَن يمعنون في تحقير الآخرين لكي يُظْهروا أنّهم الأفضل، فالناس ليسوا أغبياء، والأقنعة لا تظلّ طويلاً على الوجوه. فإلى أيّ مدى تستطيع القباحة أن تتغنّى بجمالها، ويستطيع الظلام أن يقول إنّه يضيء للعابرين في الطريق؟… صدقاً أقول لكم إنّ الذين يصدّقون أنّ الظلام نور سيكتشفون حقيقته عندما يتعثّرون ويسقطون.

إذا حقّركم أحد فلا تردّوا عليه، لأنّ الذي ينطق بالحقارة لديه بضاعة رخيصة لا ينظر إليها أحد، وأنتم في أرواحكم كنوز، فإذا أظهرتمُوها في كلّ مكان، فقد يستولي عليها اللصوص.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد