دخلَ إلى المعبد رجل لا أعرفه، وبدا هادئ الطباع، حادّ النظرات، له شاربان خفيفان. كان يتأمّل في أرجاء المعبد ولا يتكلَّم، وكأّنّي به أخذته دهشة، لأنّ المكان يختلف عمّا رآه في الماضي من الزخارف والأعمدة التي ترتفع في المعابد. وبينما كنت أرحّب به وأسأله عن حاله، دخل علينا لصٌّ يضع على وجهه قناعاً، ويحمل سكّيناً كبيرة، وقال: أعطياني ما لديكما من أموال. فارتعد زائري وانفعل، بينما كان يأخذ ما في جيبه من نقود ويضعه في يد اللصّ، ومثله فعلت أنا. فخرج اللصّ على عجل وتوارى عن الأنظار.
قال زائري ولم يذهب عنه الوجل: أرأيت كيف أنّ الأشرار يتحكّمون بمصائر الخيّرين؟ أليس من رجال شرطة في هذه النواحي نشكو إليهم أمرنا، ونطالبهم بأن يقبضوا على هذا اللصّ ويعيدوا إلينا أموالنا؟
قلت له: سمعتُ أحد الحكماء يقول: “إنّ الخير إذا جاع يطلب الطعام ولو في الكهوف المظلمة، وإذا عطش فإنّه يشرب من المياه المنتنة الراكدة”… فأنت الكهف المظلم الذي جاء إليه الخير ليأخذ منه طعامه، وأنا المياه المنتنة الراكدة التي جاء يسعى إليها في تعطّشه. وإذا كنت تتعجّب من أنّ الأشرار يتحكّمون بمصائر الأخيار، فلا شكّ في أنّك لم تسمع كلام القائل: “ليتَ الظباء تستطيع أن تعلّم السلاحف كيف تجري بسرعة”.
رمقني الرجل بنظرة غاضبة، ولم يقل شيئاً، لكنّه هرول من الباب مسرعاً، ولم أعد أراه منذ تلك الساعة.
ولم تمض دقائق حتى دخل عليّ رجل لا أعرفه أيضاً، وبعد التحيّة، قال لي إنَّه من بلاد أخرى تقع وراء البحر الكبير، وقد أمضى حياته يبحث عن الله ولم يجده، حتّى وصل إلى قناعة مفادها أنَّ وجود الله ليس ضرورة، وطالما أنّ الإنسان فيه القوّة والإرادة والعزيمة، فلماذا يحتاج إلى الله؟
قلت للرجل: لستُ أحكم عليك ولا أدينك في ما ذهبت إليه، ولكنّي صدقاً أقول لك إنّ في ساحة المعبد شجرة كبيرة، وقد يبستْ منذ زمن بعيد، وأردتُ أن أقتلعها من جذورها لأنّها لا تنفع لشيء، وطلبتُ من المكارين الذين يمرّون من أمام المعبد أن يربطوها بالحبال إلى خيولهم ويحاولوا اقتلاعها، فلم يفلحوا، فهل تقدّم لي خدمة صغيرة وتساعدني في اقتلاعها بيديك؟
نظر إليّ الرجل بتعجّب وقال: كيف أقتلعها بيديّ الاثنتين وأنت تقول إنّ الخيول لم تتمكّن من اقتلاعها؟!
قلت للرجل: لكنّ الله يستطيع أن يقتلع الشجرة من أصولها، وأن يُنزل عليها صاعقة فتشقّها إلى نصفين، ويمكنه أن يبعث طوفاناً في اللحظة فيجرف الأرض وما عليها، ونبحث أنت وأنا عن سفينة نوح لكي ننجو.
ارتبك الرجل وتلعثم، وكأنّي به لا يعثر على جواب. وعندما ودّعني ليمضي إلى سبيله، كان يجرّ أذياله على التراب. وفيما غاب في الأشجار الكثيفة متوجّهاً إلى البحر الكبير، كنت أودّعه بنظراتي، وأطلب من الله أن يرافقه ويَظهر له، فيعرفه عن قرب ويوفّر عليه مشقّة البحث عن المعرفة والعذاب من أجلها.
وما كاد زائري يختفي حتى جاء زائران آخران، أحدهما شرقيّ السمات، والآخر غربيٌّ أشقر الشعر. بقي الشرقيُّ خارجاً ولم يدخل إلى المعبد، بينما دخل الغربيّ وسألني بلهفة: هل رأيتَ صديقاً لي أضعته منذ أيّام؟ لقد تعبتُ ولم أعثر عليه.
قلت: لعلّه الذي كان عندي منذ قليل وذهب في الغابة… إنّه غريب من وراء البحار البعيدة، ويعتقد أنّ الإنسان ليس في حاجة إلى إلهه.
أجابني الغربيّ: عرفته، وقرأت له… إنّه فيلسوف عظيم… لكنْ… لكنْ ما شأني به؟ أنا أبحث عن شيطاني الذي تآمر مع الله، وجاء لكي يدلُّني على طريق الشرّ، ويرافقني في كلّ خطوة أخطو بها.
استغربتُ كلام الرجل، وسألته: هل تآمر الشيطان مع الله لكي يوقع بك؟
أجاب: نعم. وقد تعاهدتُ مع شيطاني على البقاء معاً، لكنّه تركني بينما كنت نائماً وانصرف. وقد التقى به صديقي الآخر الذي يمكث خارجاً.
-عجيب كلامك يا رجل… ألم يخبرك صديقك إلى أين ذهب الشيطان؟
-لا. لقد صادفَه على جسر، وتحادثا. وأعلن الشيطان أنّه هو الذي وفّر للبشريّة سبل التقدّم ودلّها على مسالك العلم… قال الشيطان ذلك واختفى، ولا نعلم إلى أين ذهب.
-ولماذا لا يدخل صاحبك إلى هنا، ويخبرنا عمّا جرى له مع شيطانك؟
-إنّه لا يحبّ المعابد.
-وهل هو مؤمن؟
-نعم… يؤمن بالله على طريقته ولا يختلف مع المؤمنين الآخرين إلاّ ببعض القشور.
-إذن هو يعرف الله، وإلهه لا يختلف عن إلهنا… من ليس ضدّنا فهو معنا… هكذا يقول المعلّم الأكبر.
-لا يهمّني ماذا يقول المعلّم الأكبر، أريد شيطاني.
-ولماذا تريده؟
-لأنّه يزيّن لي طريق الشهوة ويساعدني على عمل الشرّ.
فكّرتُ في كلام الرجل، وأدركتُ كم هو جاهل، على الرغم من ادّعائه العلم. قلت له بعجل:
كم كان عمرك عندما جاء الشيطان إليك؟
قال: كنت في الثلاثين من عمري.
قلت له: لقد وقعتَ ضحيّة النسيان وخانتك الذاكرة أيّما خيانة. فهل كنت لا تفعل الشرور منذ ولادتك حتّى أصبحت في الثلاثين من عمرك؟ وهل توقّفت عن عمل الخطيئة بعدما فقدت شيطانك؟
أجاب وهو يحكّ رأسه وكأنّه يستعرض الماضي الغابر من حياته كشريط لا يتوقّف: نعم فعلت الخطيئة، وأنا أفعلها الآن.
قلت: أنت رجل صالح حين تعترف بأنّك كنت خاطئاً وما تزال، وإنّني أعرف أنّ فيك كثيراً من الخير، فليس من إنسان يخلو من الخير والشرّ، لكنّهما يتصارعان في نفسه، فتارة يغلب الخير وتارة يغلب الشرّ. صدقاً أقول لك إنّ اللصّ الذي سرق أموال المعبد سيُطعم أبناءه الجياع، وقد يصادف رجلاً فقيراً مُعدماً يشحذ على الرصيف فيعطيه قليلاً من الدراهم. عُدْ يا بنيّ إلى منزلك، ولا تدع الوساوس تهيمن عليك، فليس من شيطان خارج الإنسان، والله ليس في حاجة إلى الشيطان لكي يساعده على الإيقاع بك. وقد أعطاك العقل لتفّكر وتختار.
كان الرجل بفكّر بصمت، بينما تابعت كلامي قائلاً: إنّ كثيراً من البشر يتركون الشرّ يتملّك أرواحهم، فلا يبقى من الخير في نفوسهم إلاّ قطرات قليلة، تشبه قطرات الندى على غصن شجرة، فهؤلاء هم الطغاة والظالمون، وبعضهم يغرقون في الخير وفي محبّة الله حتّى الاعتقاد أنّهم والله واحد، وكم قرأنا في الكتب عن أناس تعرّضوا للعقاب والجَلد والحرق لأنّهم قالوا كلاماً لم يفهمه الملوك. فلا أعتقد أنّ عاقلاً يستطيع أن يقول إنّه إله، ولكنّ المبالغة في الكلام أوقعت الكثيرين في المهالك… هل فهمت ما أعني؟
وبينما كنت أنتظر من زائري جواباً، صاح الرجل الذي في الخارج قائلاً: لماذا نضيّع وقتنا في جدال لا طائل منه؟ إنّ أمامنا عملاً كثيراً، فقد لا نستطيع بعد الآن العثور على الشيطان.
قلت للرجل الواقف أمامي: هل سمعت؟ إنّه يسعى وراء الشيطان لأنّه صدّق أنّه مسؤول عن تطوّر الخليقة. وصدقاً أقول لك إنّ الله وضع في كلّ واحد منّا عقلاً، لا ليمشي إلى الوراء، ولا ليتحجّر في شرنقة الجمود… نحن المسؤولون عن التقدّم والتأخّر، ونحن نحمل رسالة وعلينا أن نوصلها… وكم يكون فاشلاً مَن يتعب من حمل الرسالة فيرمي بها في الرياح قبل أن يبلغ هدفه.
انحنى الرجل أمامي انحناءة تعبّر عن شعوره بالرضى والاحترام، ثمّ غادر لينضمّ إلى صاحبه الذي سمعته يهذر: لقد كان على الجسر، ودعوتُه إلى بيتي، فشربنا معاً… وبعد قليل طلبتُه ولم أجده… يا له من شيطان… يا له من شيطان!
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع