مساحات: منيرة مصباح/ الحداثة ما بعد ناظم حكمت ويشار كمال

 

الفن ليس غاية بل وسيلة، الغاية هي الحياة.

بهذه الفكرة الكبيرة التي أطلقها الكاتب التركي صباح الدين علي، يبدأ الكاتب محمد نور الدين تقديم ملامح من الأدب التركي الحديث، ليلقي الضوء على أهم الأدباء الأتراك المعاصرين، وعلى نتاجهم الفكري والفني من قصة ورواية وشعر. هذا إلى جانب دراستين إحداهما حول يشار كمال والثانية حول القصة التركية. وبما أن الأدب التركي المتجدد كان دائما ملازما للتحرر الوطني، فقد تبادر للذهن مباشرة أسماء كل من ناظم حكمت وعزيز نيسين ويشار كمال. هؤلاء الثلاثة الذين انتشروا في العالم لارتباط انتاجهم بتصاعد الدفاع عن حقوق الانسان من أجل العدالة الاجتماعية والسياسية، فانخرطوا منفعلين وفاعلين في خضم الأحداث، ليحققوا دور الأدب في أن يكون هادفا، بجانب الانسان وضد الارهاب والظلم والاحتكار والاستغلال.

ويعتبر الكاتب أن الأدب ىالتركي، حتى الحرب العالمية الأولى، هو توأم الآداب الشرقية، العربية والفارسية، إن كان من حيث الشكل والموضوعات، أو من حيث خصوصية اللحظة التاريخية التي أنتجته. تلك اللحظة الممتدة في الزمان، والمليئة بالتخلف الواقع في جميع الميادين الاجتماعية والسياسية والثقافية.

لذلك جاء اختيار الكاتب لنماذج القصة والشعر من فكرة واضحة وانسانية هادفة. فتلك النماذج لم تقع في سلسلة الاغراءات الواسعة التي نجدها في جانب كبير من القصة والقصيدة كما يقول الكاتب، والغارقة في التجريد والفلسفة والهواجس الذاتية والعوالم المصطنعة. لكننا نلاحظ توظيف الشعراء الاتراك للتجديد الشكلاني الذي لم يؤدي إلى التغريب، فقد ابتعد هؤلاء الشعراء قدر الامكان عن الاعتداء على المعنى، وذلك ما نجده عند كثير من الشعر العربي المعاصر، مع استثناءات بالطبع.

والسؤال الذي يتبادر للذهن، ما هو الذي يهم العمل الفني المكتوب، وأي دور يؤديه ان لم يكتب بابداع وصدق، تماما كما يشرب الماء من راحة اليد. إن أعذب الماء أشده نقاوة، كما قيل عن ناظم حكمت.

وما يلفت النظر في ترجمة الشعر التركي عدم قصورها على اسماء معروفة فيه وموازية للنتاج الشعري العالمي. فنحن نذكر دائما “مميد الناحل” وتعني محمد الناحل، كلما تذكرنا اسم “يشار كمال” تلك الرواية التي غدت واحدة من أشهر نتاجات عصرنا، حيث ترجمت للعديد من اللغات، وهي ثلاث أجزاء وتمثل ملحمة شعب باكمله.

“مميد الناحل” والرواية التركية

ان ما يستوقفنا ونحن نقرأ محمد الناحل ليس ذلك العالم الغريب، بل ذلك التصديق الذي لهذا العالم الممتع. فلا نتساءل ما إذا كان لهذا العالم من وجود حقيقي. ولا نحاول معرفة لماذا هو هكذا وليس بشكل آخر. كما لا تحدونا الرغبة في ايقاف أحداثه، كي نعيد ترتيبها ثانية.

إن ما يتملكنا ونحن في خضم احداثها هو أننا أزاء واقع روائي صلب له وجوده، بحيث نعتقد انه هو الذي يروي سيرته، مدخلا فيها أحلامه دون توهم فهي ذاكرة هذا الواقع الذي نبت فيه. إنه لا ينسى حاضره، ويحلم.. لاينسى تاريخه وهو يتوقف لحظة، فتبدو ذاكرته قاسية لكنها ليست يائسة، ليصبح مميد في نهاية الرواية شائعا كالهواء والشمس. فهو يمثل الواقع الذي ينظر في مرآته ويتذكر، ومن خلال هذين الفعلين يعيش الحاضر المؤلم ويقهره بالفعل والحلم معا.

ان البحث عن الأدب التركي يدفعنا لمعرفة القصة التركية كونها الجانب الأساسي في هذا الأدب. لذلك فان النتاجات الابداعية لأكثر ممثلي هذا الأدب شهرة في الداخل والخارج مرتبطة بتطور وتشكل القصة، وجماهيريتها لا تفسر بحداثة مواضيعها وصداميتها الحادة أو تركيزها البنائي، بل وبتقاليد الحكايات الشرقية عامة والضاربة في التاريخ.

لكن الباحث في  دراسته يؤكد أن النثر في الادب التركي لم يكن متخلفا كما هو شائع في القرون الوسطى، إنما كان غنيا وموازيا للنثر الأوروبي بجانب الشعر الذي كان يحتل المكان الأول. هذا الى جانب عناصر القصة المأخوذة من الملاحم البطولية لقبائل “الأوغوز” الذين شكلوا أحد عناصر الشعب التركي.

لكن في عصر الحداثة والمعاصرة حين تطلب الواقع الجديد اشكالا جديدة في الفكر الأدبي، اهتم الكتّاب بتطويره على أساس اجتماعي وايديولوجي، مع التأثر بإنجازات الأدب الغربي. فظهرت القصة التي أسسها في الأدب التركي الحديث الكاتب أحمد مدحت الذي اتخذ النكتة كمعبر لتشكل أقاصيصه.

ثم يأتي تطور القصة على يد “سامي زادة سيزاي وزادة ناظم” حيث استطاعا تجاوز الواقعية التنويرية السائدة لتدخل أعمالهم الواقعية النقدية. ولتمثل قصة ” الرجل العظيم لسامي سيزاي” بداية تجاوز الاغراءات الرومنسية في الأدب التركي الى الاتجاه الواقعي.

أما بني زادة فقد استطاع ان يوظف في قصته ” قارابيبيك ” البطل الأدبي ليكون من الفلاحين الاتراك، حيث تتمحور المشكلة حول الانقسام الطبقي في القرية التركية وهذه القضية مازالت مستمرة الى هذا العصر.

لكن الملامح الخاصة للقصة التركية التي تحمل خصائص مستقلة، بدأت تتشكل مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث توطدت العلاقة بين الأدب التركي والعالمي من خلال دخول الترجمات للأدب الفرنسي والروسي، ليصبح اميل زولا، فلوبير، بوشكين، ليرمنتوف، تولستوي، وتورجينيف، من أكثر الأدباء قراءة لدى الكتاب الأتراك، مما ساعد على تعميق المفاهيم الفنية والفكرية لديهم.

أما في منتصف القرن العشرين فقد برز العديد من الأسماء في الأدب الواقعي، منهم أورخان كمال، والذي تناول قضية الانخراط الجماهيري في الأيديولوجيا، وكمال طاهر الذي تمحورت قصصه حول الفلاح، حيث تمثل مجموعته القصصية “ناس المستنقعات” مكانا بارزا في القصة التركية.

ومن نمازج الكتاب الأتراك هناك يعقوب قدري وسعاد درويش وسعيد فايق ورفعت إيلغاز وعزيز نيسين ويشار كمال وفقير ياقوت وطارق دورسون وغيرهم كثيرون.

الشعر

اما الشعر فنمازجه عديدة يتقدمهم ناظم حكمت.

ومن الشعر الحديث اخترت نصا بعنوان “ماريا” للشاعر آصاف شلبي:

“بعيدة مثل الصين وقريبة كالروح

أنت فتاة أسطورية

بالأمس وصلت من الصين ومن لشبونة

اليوم عدت على وجهك وفي عينيك – توحش

يوما ما ستذهبين من هنا، يا ماريا

بعيدة مثل الصين وقريبة كالروح”.

هذه القصيدة الحديثة هي واحدة من قصائد الحداثة في الشعر التركي المتأثر بالحركة الشعرية الأوروبية التي رفدته بدم جديد، خاصة بعد موت الشاعر الكبير ناظم حكمت. ان حركة الحداثة التركية جاءت من أجل الانسان، لاحتوائها على المضامين الانسانية وعلى المذاهب الفكرية التي تتناول في مضامينها الانسان كفاعل أساسي في الثقافة. لكنها مع ذلك لم تنف بقية المذاهب الفنية العالمية. كما انها استطاعت ان تجمع في صفوفها معظم الشعراء الشبان مع الشعراء الأكبر سنا منهم ليكون صلة الوصل بينهم الأب ناظم حكمت.

ان هذه الدراسة تعتبر بحق “انتولوجيا” مصغرة للأدب وللشعر التركيين الحديثين. ولا بد لصدى هذه الترجمة ان تنتشر عبر الهواء الافتراضي، لما تحمله من همّ الحداثة التي دخلها الروائيون والقاصون والشعراء الاتراك، وربما يتطابق الى حد كبير مع تطلعات وهموم الأداب الأخرى في العالم.

اترك رد