(تختصر هذه القصة القصيرة رؤيتي الفلسفية للكون التي أوضحتها في كتبي الفكرية التسعة، وهي التوازن الدقيق بين الروح والجسد، الخير والشرّ، النهار والليل. وهي عناصر متكاملة لا يوجد أحدها من غير الآخر).
غضبتْ نفسي منّي وقالت: كم ضجرتُ من هذا الجسد الذي يحتويني! وأشعر أنّني نغمة في قصب يابس، أو جدول لا يستطيع أن يخرج من ضفّتيه إلا لتلاحقه لعنات الناس… قلتُ لها إنّ القصبة قد وُلدت لكي ترتعش في الهواء، وهي لم تعرف الموسيقى إلاّ بعدما قطعتْها فأس المُبدع، وعملت فيها، ليخرج منها لحن شجيّ. وكم من القصب الذي في البراري، يشتهي أن يأخذه المبدع ويحوّله إلى آلة موسيقيّة، تُفرح الناس وترافقهم في لياليهم وأعراسهم! أنتِ يا نفسي أفضل من العيدان اليابسة التي لا نفع منها، وأكثر فائدة من جداول كثيرة لا تفيض عن ضفافها، لكنّ ماءها ملوّث، ولا تنفع لشيء.
قالت: وعلى الرغم من ذلك، فإنّني أشتهي أن أتحرّر منك، وأصعد إلى الجبال، فابتهل وأفرح بالسماء الزرقاء، ونور الشمس، ولا يكون لك سلطة عليّ.
أشفقتُ على نفسي، وأعطيتُها الحرّيّة، لكي تبتعد عنّي، فأسرعتْ في خطاها نحو الهضاب العالية. وكانت غبر مصدّقة أنّها صارت طليقة بعد زمان طويل من الهوان. وبينما كانت تمشي في الغابات، مرّت بجوار ينبوع جافّ، ليس فيه قطرة لظامئ، فنفختْ فيه وانساب منه ماء عذب. وشاهدت عصافير حزينة نختبئ من الشتاء، فوهبتها ربيعاً لكي تخرج من صمتها وتطير في غبطة. ورأت الفلاّحين يلطمون وجوههم لأنّ زيتونهم لم يثمر، وقمحهم كان قليل الحصاد… فعطفت عليهم وملأت حقولهم بالثمار الناضجة، وبيادرهم بقمح وفير.
وبعد سنة، اشتاقت نفسي إليّ، وفُوجئتُ بها تطرق على بابي، وتطلب منّي أن تعود إليّ…. سألتُها عن الحرّيّة، فقالت إنّها شيء كالعبوديّة، وإنّ الحياة من غير نزوات جميلة هي موتٌ للجسد والروح. وأخبرتْني أيضاً أنّها عاشت في أحزان، وكان كثيرون يضحكون منها، ويقولون بعضهم لبعض: كيف تبحر سفينة والبحر قد جفّ، ولم يبق منه سوى الرمال؟
وبينما كنت أعانق نفسي، وأحتفل برجوعها بعد طول انتظار، سمعتها تقول: كم رائعة هذه القصبة اليابسة التي هي أنت، وكم مدهشة! فمن غيرها يحزن الغِناء، وتنتحبُ كلّ سعادة.
وقبل أن تهدأ نفسي وتنام في سريرها الذي اشتاقت إلى دفئه، أخبرتها عن رجل كانت عنده آلة موسيقيّة أراد أن يبيعها، فأخذها إلى متجر للتُّحف القديمة، وعرضَها على صاحبه، فسأله صاحب المتجر: هل تريد أن تبيعها من غير الموسيقى التي في داخلها؟
فأجاب الرجل: نعم، أبيعها وحدها.
فقال صاحب المتجر: أعطيك ديناراً واحداً.
- وإذا أردت أن أبيع الموسيقى وحدها؟!
-
أعطيك ديناراً واحداً أيضاً.
عند ذلك حكّ الرجل رأسه، وقال: أبيعهما معاً، فكم تدفع لي؟
فقال له التاجر: أدفع لك مئتي دينار.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي، النهضة الاغترابية الثانية – تعدد الأنواع -سيدني