كانت تمسكني من يدي، وتأخذني إلى كرْم لنا. هو ليس لنا حقيقة، بيْد أنّه شيء من أفكارنا، وأحلامنا البعيدة بُعد السماء عن الأرض…
ليس من أمر مستحيل. تقول لي، وهي تنظر في عينيّ الصغيرتين، وتهمس: كآبة هي مدينة… ليست مألوفة عند الصغار.
وكانت تسير معي. ولا تتعب… والأولاد في حيّ العرَب يسخرون منّا: قال عندهم كرم! الكرم ليس لكم… عنب أسود لم يخلق مثله الله.
أتشاجر مع الأولاد في الحيّ. أبادلهم الكلام القاسي. فتقول: لا تدع الكبار يسمعون. الكلمة السيّئة عندما تخرج من فمك تصبح جريمة. والرجال يغضبون كالنار في الهشيم. لا تخبر أبداً أنّك تشاجرت مع الأولاد، ولا تحقّر أحداً من الناس… يمكنك أن تعضّ على الجرح وتتجاهل.
وأسألها عن الكرم هناك على التلّة، حيث نحن ذاهبان بعزم لا يلتوي. وأقول: سمعت من الأولاد أنّه للناطور.
تجيب وهي تضحك: هو لنا. الناطور الأعرج أخذه منّا عنوة، ونحن سنستردّه.
-كيف؟ هل نقوى على ذلك الشرّير، ولا نملك أداة لنحاربه؟
-لا تخف. عندما يخاف الإنسان يصبح ميتاً. الشجاعة تحرّرنا.
نصل إلى التلّة، والشمس في أعلى السماء، امرأة من لهب، تحرقني، وتكوي جبهتي، فأمسح العرق الهاطل من وجهي. وأرتعش، لأنّ المواجهة مع الناطور ستكون صعبة… سلاحنا الإصرار.
ويصرخ الناطور من خيمته: إلى أين؟
فنجيبه: إلى أشجارنا، وعناقيدنا السوداء كالليل. كعيون الخيل الهاربة من المعركة… ما هي مشكلتك؟
ينزل الرجل العملاق من خيمته، على درج من الخشب، فيكاد ينهار تحت ساقيه الطويلتين. إحداهما أقصر من الأخرى، فيتمايل جسده كشبح مخيف. كان ظلّه فوقي مثل جبل. خفت على ظلّه أن يكون ثقيلاً عليّ، فأتحطّم.
يخاطبنا الناطور بصوت أجشّ: أليست وقاحة أن ترفضا أوامري، وتعودا إلى هذا المكان؟
أسارع إلى القول: إسمع أيّها الرجل الطويل القامة كسكّان الكهوف. إذا كان لك شأن معنا، فتحدّث إليّ… رجل لرجل.
-أنت يا صعلوك؟
-نعم أنا. صعلوك وسأنتصر عليك…
يهجم عليّ الناطور، ويمسكني من عنقي، ويرفعني فأظنّ أنّ الأرض أصبحت بعيدة عنّي. وأصرخ…
أسمعها تقول بلهفة: إذا أمسكته من ذقنه، يذوب ويصبح كالماء…
-وكيف أمسكه؟ هو أطول منّي…
-ألست ملاكاً؟
كانت كلماتها بمثابة البرق الذي التهم روحي. مددت يدي الصغيرة، وأمسكت بالناطور من ذقنه، وتعلّقت بها، فأصبح يذوب، ويتلاشى، فسقطتُ منه على الحضيض، أنوح من الألم.
قالت لي: إنهض. أنت بخير… العناقيد تنتظر من يقطفها.
قمتُ عن الأديم بثقل، وهرولت نحو الكرم، وعيناي شاخصتان إلى العناقيد. لم تكن سوداء، بل شقراء، يقطر منها سائل شهيّ. فركت عينيَّ غير مصدّق أنّ لون العنب قد تغيّر. التفتّ إليها، فرأيتها تضحك وتقول: لا تهتمّ يا بنيّ. الألوان كلّها هي لون واحد يرتدي ثياباً مختلفة… هل فهمت ما أعنيه؟
هززت برأسي موافقاً، وقلت بصوت خفيض: فهمت. ثمّ رحت أضحك، ويردّد الوادي صدى ضحكتي.
كانت تراقبني بشغف وأنا أقطف حبّات من الذهب، مسرعاً مسرعاً، كأنّني أخشى على اللحظات الجميلة أن تنتهي، وأن تهرب منّا الحياة على حين غرّة.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي ,,, النهضة الاغترابية الثانية – تعدّد الأنواع .