مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” مشروع الأديب د. جميل الدويهي أفكار اغترابية للأدب الراقي/ الورقة 28- الدكتورة سحر نبيه حيدر – لبنان: حول موضوع هجرة النهضويين من لبنان في العصر الحديث، أسباب ونتائج

 

 

انطلق  مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” الذي ينظمه  مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي-سيدني ، منتدى لقاء – لبنان، بستان الإبداع – سيدني. يصدر عن المؤتمر كتاب من جزءين او ثلاثة، يضم جميع الأوراق المشاركة، وترسل نسخ منه إلى المشاركين والمكتبات والكبرى. يعقد المؤتمر حضوريا في جلسة واحدة، فور انتهاء الأزمة الصحية، وتقرأ مختصرات الأوراق بالنيابة عن المشاركين المقيمين خارج أستراليا.

في القسم الأول من المؤتمر تم نشر عشرين ورقة لأدباء ومفكرين من لبنان وأنحاء العالم.

القسم الثاني يضم 12 ورقة، في ما يلي الورقة 28- الدكتورة سحر نبيه حيدر – لبنان: حول موضوع هجرة النهضويين من لبنان في العصر الحديث، أسباب ونتائج.

 

 

“أولئك الذين اغتربوا عن الأوطان طويلًا وحدهم يرون في كلّ إنسان لفظه الوطن، رسول وطن” إبراهيم الكوني، شاعر وأديب ليبي.

“لا يسكن المرء بلادًا، بل يسكن لغةً، ذلك هو الوطن ولا شيء غيره” إميل سيوران، فيلسوف وكاتب روماني.

المقدمة

يتخبط العالم وسط بحر من الأزمات المتضاربة على مختلف الصعد الصحية والاقتصادية والاجتماعية وحتى النفسية. بالرغم من ذلك ترتفع بعض الهامات المميزة لتعلن أنّ الثقافة تعلو ولا يُعلى عليها وأنّ ارتقاء الأمم يكون من خلال اليقظة العقلية التي تسبق أي نشاط سياسيّ كان أم اجتماعي أم اقتصادي، وتسمو النهْضات الإنسانية حيث لا مكان للجهل… وحده الوعي يعيد قواعد الأدب ويساهم في تغيير ما فسد.

كذا آمنوا وعلى هذا الأساس انطلق مشروع “أفكار اغترابية” للدكتور الأديب جميل الدويهي، فما كان لمنتدى “لقاء” بشخص مؤسسه د. عماد يونس فغالي سوى التكافل والتضامن لدعم هذا المشروع، الذي به ومن خلاله تلتقي النهضة الإنسانية والأدبية والاجتماعية والثقافية من “لبنان المقيم” الى “لبنان المغترب”، بطريقة سامية لافتة، تعيد مجد الكلمة واللغة الأمّ، ويبات كلّ حامل راية الثقافة مرسلًا ورسولا.

إنّ انطلاق مؤتمر النهضة الاغترابية الثانية من أجل الحضارة والانسان، خير دليل على إصرار “الثالوث المعمّد بالشراكة والحب” وأعني به “مشروع أفكار اغترابية”، منتدى “لقاء” و “بستان الابداع”. قامات أدبيةٌ تملك من بُعد النظر وحُسن التخطيط ما يخوّلها العبور بكلّ من التحق بالركب نحو شاطئ العطاء من دون منةٍ أو خوفٍ أو تردّد. حملوا ومَن معهم، لواء الانسان -الفرد، وجودَه وفكرَه وآثاره ورؤيته في البقاء والاستمرارية والنضال، ساعين إلى نهضةٍ جديدة للّغة العربية وأهلها وناسها، متحَدِّين بذلك كلّ العوائق والصعوبات، ومتجاوزين الحدود والأمكنة، حتى اختلط المغترب بالمقيم، وتشابكت الأفكار بتناغمٍ يعجز المرء عن فصله. عادت للأصوات أنفاسها العطرة وللأرواح زفراتها العذبة.

مواضيع متعددة الأوجه والاتجاهات ونقاشات لا بد وأن تثمر. غير أنّ القاسم المشترك يدور في فلكٍ واحد هو “الهجرة”. هجرةٌ من الذات نحو الآخر، هجرةٌ من الداخل نحو الخارج أو هجرة من الوطن إلى وطن “مختلف” بزيّ جديد ونفحة حضارية إنسانية جديدة.

نعم، إنّها الهجرة، تقصينا عمّن نحب، لكنها تجمعنا بما نحبّ فنكتشف معها مكامن فكرنا وتنطلق بفضل تحدياتها كلّ المكنونات التي تبحث عن الإنسان الذي لبست صورته وآن لها أن تكتشفه.

ترتبط الهجرة في غالب الأحيان بالحرية على مختلف الصعد: الدينية، الفكرية، الاجتماعية وحتى الاقتصادية. يهجر المرء ما يعيقه ويأسره من فكرٍ أو عادات أو بيئة محيطة أو حالة اجتماعية، وصولًا الى الهجرة الحسيّة نحو أرض جديدة أو بيئة جديدة تحرره من الخوف والاضطراب والقلق، وتفتح أمامه، إن كان أهلًا، بابًا للابتكار والإبداع. يبقى الأهم أن يحافظ الانسان على هويته ولا يهمل جذوره وأصوله على غرار ما فعله النهضويون المهاجرون، الذين حملوا تحت جلدهم إرثًا إنسانيًا مميزًا، طوّروا هذا الكنز المكنون ونشروه، كلّ على نهجه، فرفعوا اسم بلادهم حيثما حلّوا. بالإضافة إلى سعيهم الدائم للحفاظ على الروابط الثقافية والفكرية التي تثبّت جذورهم وتبني الجسور المتينة والأصيلة مع الوطن الامّ وتنثر البذور في الأرض الجديدة مع النسل الجديد، من أجل الحفاظ على الاستمرارية وصون الأسس بشتى الطرق المتاحة.

تتعدّد الزوايا التي يمكن لنا مناقشة قضية الهجرة من خلالها، بخاصةٍ مع تفاقم الأزمات من جهة واختلال التوازن الفكري، الذي باتت صورته شبه مشوّهة من جهة أخرى. وقد استقطبت هذه الظاهرة الكثيرين من باحثين ومؤرخين ودارسين ونقاد، حاولوا معالجة الموضوع من خلال منهجية علمية بحتة طالت مختلف المراحل التاريخية التي مرت بها الهجرة من لبنان، والتي ارتبطت تاريخيًا وجغرافيًا بحركة تجارية خارجية، كما بالبنية الاقتصادية وسوق العمل فيه. فاعتبرت الهجرة بمثابة رافد اقتصادي شبه دائم، يساهم في التصدّي لمختلف الأزمات التي زعزعت كيان هذه الأرض الصغيرة اقتصاديًا اجتماعيًا وأمنيًا.

من هنا جئتُ بهذه الورقة البحثية المقتضبة أهدف إلى تفكيك رموز الهجرة من حيث النوع ومعرفة أبرز أسبابها، كذلك تسليط الضوء على ما قامت به النهضة الاغترابية الأولى وما ترمي اليه النهضة الاغترابية الثانية، مع عرض سريع لبعض النماذج المبدعة التي ساهمت في تمجيد اسم لبنان عالميًا.

تعريف الهجرة

تمثل قضية الهجرة جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الإنسانية. وتُعرف في “اللغة” أنّها الخروج من أرضٍ إلى أخرى. أمّا في مصطلح الهجرة بمعناه القانوني فهو انتقال أو تحوّل لفردٍ أو جماعةٍ من دولةٍ اعتادوا الإقامة فيها إلى دولة أخرى لا يحملون جنسيتها لغرض الإقامة فيها بصفةٍ دائمة. يُقصد بالهجرة انتقال شخصٍ إلى بلد جديد وهو ليس مواطنًا فيه بقصد المعيشة والإقامة فيه بشكل دائم.

بالنسبة للعرف العام، توصيف الهجرة يختلف بحسب العوامل والدوافع. تعتبر الهجرة على أنواعها ظاهرة عالمية تتغيّر وفقًا للفوائد العائدة منها، وهي تجمع العديد من المعاني والدلالات تماشيًا مع طبيعة التحديات التي تفرضها هذه الظاهرة بشتى أنواعها. في وقتنا الحالي بات عدد كبير من بلدان العالم “مقصودًا”، حيث يفد إليها المهاجرون بحثًا عن الحياة الكريمة والأمان لما تقدمه من رفاهيةٍ واحترام لحقوق الانسان وكرامته وحضارته الفكرية وتقدّمهِ. ما هي أنواع الهجرة وأشكالها؟

أنواع الهجرة وأشكالها

شملت موجات الهجرة في العالم كما في لبنان مختلف الطوائف والأعمار، في ظل غياب الدراسات الإحصائية لحاجات سوق العمل، والفوضى الاقتصادية “واللا إستقرار” الأمني، كذلك هيمنة المحسوبيات وغياب المحاسبة والعدالة الاجتماعية. هذه العوامل جميعها دفعت بالكثير من اللبنانيين إلى التخلي عن أرضهم بحثًا عن الأمان النفسي والمادي والفكري. الدافع الرئيس في غالب الأحيان هو البحث عن الاستقرار والتطور وبالتالي فاعلًا رئيس لإثبات الذات والإبداع والابتكار.

العوامل المؤثرة على قرار الهجرة

بشكل عام تكمن عدة عوامل خلف مسألة اختيار الأفراد ترك أوطانهم ومسقط رأسهم. نعجز عن فصلها عن الأسباب. يُمكن تعريف المهاجر بالإنجليزيّة Migrant وفقاً للمنظمة الدولية للهجرة  International Organization for Migration-اختصاراً (IOM) – بأنّه أيّ شخص ينتقل من مكان إقامته إلى مكان آخر داخل دولته أو خارجها عبر الحدود الدولية، بغض النظر عن حالته القانونية أو مدّة إقامته في المكان الجديد أو الأسباب والعوامل التي دفعته للهجرة، أو إذا كانت هجرته طوعية أو تمّت بشكل قسريّ.

عوامل الدفع  Push Factorsوهي عوامل تجعل الاستمرار في العيش في المكان الأصلي أمراً غير مرغوب به، كعدم توفر فرص للعمل، أو الاضطرابات السياسية، أو الاكتظاظ السكاني.

عوامل الجذب أو السحب  Pull Factors وهي عوامل متوفرة في المكان المُراد الهجرة إليه، تُشجع على العيش في ذلك المكان وتجعل منه أمراً مرغوباً، كتوفر فرص العمل الجيدة أو وجود الأهل والأصدقاء في ذلك المكان.

أبرز أنواع الهجرة هي:

-الهجرة الداخلية أو الهجرة من الريف إلى الحضر، وهي انتقال الناس من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية في نفس البلد بحثًا عن فرص وأنماط حياة جديدة.

-الهجرة القسرية أو غير الطوعية، تتمّ عندما تجبر الحكومة أو السلطات في مكان ما الناس على الهجرة لسبب ما.

-الهجرة الدافعة (تسمى أيضًا الهجرة المترددة أو المفروضة)، وهي نتيجة حتمية لبعض العوامل الدّافعة مثل الحرب والجوع والظروف الصعبة…

-الهجرة الموسمية، تكون عندما يتحرك الناس في بعض الأحيان خلال مواسم محددة مثل حصاد المحاصيل وتغيّر المناخ للعمل، ثم يعودون عندما ينتهي الموسم.

-الهجرة الجغرافية، تشكّل المساحات الواسعة في بعض الدول فرصةً للهجرة إلى بعض الدول حيث توفر فرص عمل متنوعة تجذب المهاجرين.

أسباب الهجرة

تدفع عوامل متعددة البعض الى الهجرة، منها تحسين المستوى المعيشي للفرد أو المجموعة. نذكر على سبيل المثال هجرة العَمالة أو رأس المال باتّجاه مناطق الرخاء والاستقرار الاقتصادي وتعني بالإنجليزية immigration. أبرز أسباب الهجرة:

أسباب اجتماعية

للهجرة الاجتماعية العديد من الأسباب، منها خاص يتعلّق بالشخص نفسه ومنها عام يتعلّق بالمجتمع. وقد تكون مرتبطة بالعوامل الاقتصادية، فقد يهاجر الكثير من الأفراد هربًا من الفقر أو الفروقات الكبيرة في الرواتب، أو لارتفاع البطالة أو قلّة الفرص المتاحة في أوطانهم. ونلفت إلى أن البحث عن مستوى معيشي أفضل لا يقتصر فقط على الجانب المادّي، بل يشمل الناحية البيئية والصحية (نقص الرفاهية، الحياة الكريمة، ضمان الشيخوخة، التناقضات الاجتماعية التي تعاني منها بعض المجتمعات بخاصة ما يتعلق بالعلاقات الأسرية أو علاقة المرأة بالرجل. وجود صراعات عائلية تدفع بالأشخاص للانتقال إلى مكان آخر. السعي إلى التحرر من السلطة الأبوية، ولا يفوتنا مسألة الطمع في الحصول على جنسية ثانية التي تساهم في تأمين حياة كريمة وآمنة في بلدٍ يحترم الأفراد ويحافظ على حقوق الإنسان). كذلك هناك تأثير كبير للتطور المعرفي والعلمي وصلة القرابة (الاقتراب من العائلة أو الأصدقاء) التي تدفع البعض إلى اللحاق بمهاجرين سابقين تجمعهم علاقة اجتماعية سابقة. أضف إلى هذه الأسباب مسألة الزواج، حيث تنتقل الفتاة إلى منطقة أخرى للاستقرار فيها بعد زواجها من شخص يعيش في تلك المنطقة، كذلك عودة النساء إلى منطقة الوالدين للإنجاب، أو بهدف تحقيق زواج مختلط أو مختلف ترفضه بعض الحكومات.

أسباب سياسية

يلجأ بعض السكان للهجرة إلى دول أخرى بحثًا عن حرية التعبير عن الرأي والمعتقد، أو هربًا من الاضطهاد السياسي الممارس تجاههم، والتمييز بين المواطنين، وانعدام الشفافية في التعامل الرسمي. وتنبثق عن الأسباب السياسية، الأسباب الحكومية… تتحكم بعض الحكومات في مكان هجرة السكان عن طريق توجيههم إلى أقاليم معينة وفق خططٍ ودراسات تقوم على وضع برامج اقتصادية تطويرية في هذه الأقاليم. نلفت إلى أنّ البحث عن الأمن والأمان قد يكون أحد أهمّ أسباب الهجرة، إذ يضطرّ الكثير من السكان في مناطق النزاع والحروب إلى الهرب والهجرة إلى الخارج بحثًا عن حياة أكثر أمنًا، وهي الحال بالنسبة لغالبية المهاجرين اللبنانيين منذ التاريخ القديم وحتى يومنا هذا. والحروب العشوائية المتكررة على أرض هذا الوطن زرعت الشعور بالقلق والخوف والاضطهاد وانعدام الأمن، بالتالي دفعت المواطن اللبناني إلى التخلي عن أرضه بحثًا عن الأمان والاستقرار… والأمثلة عبر التاريخ كثيرة ومعروفة.

أسباب اقتصادية

الأسباب الاقتصادية تعتبر من أهم الدوافع المسببة للهجرتين الداخلية والخارجية، وتتمثل في تدني المستوى الاقتصادي للأفراد (عدم وجود مصدر لإعالة الأسرة، انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين، تراجع الحدّ الأدنى للأجور، ازدياد البطالة والبطالة المقنعة، الفقر، نقص فرص التقدُّم، إدخال الآلات الزراعية للعمل بدلاً من العنصر البشري، وعدم توفير مصادر دخل بديلة عن الأنشطة الزراعية، ما يؤدي إلى تقليل العمالة في المناطق الريفية…). هذه الأسباب تؤدي إلى التحرك العمليّ بهدف إيجاد عمل أفضل. تلعب العوامل البيئية والتغيّرات المناخية دورًا هامًّا في الهجرة. تجبر الكوارث الطبيعية المختلفة من زلازل وفيضانات وبراكين بعض السكان على النزوح نحو مناطق أكثر أمانًا.

الاعتبارات الشخصية

يؤمن البعض أن انتمائهم ليس للأرض التي ولدوا فيها. ويسعون إلى هجرة المكان لأسباب مختلفة، أبرزها تحسين المستوى المعيشي والسعي وراء التعليم والاكتساب بخاصةٍ الشباب الأصغر سنًّا الذين يسعون إلى الالتحاق بالجامعات العالمية أو التخصصات التي لا تتوفّر في بلدانهم، ثمّ يقرّرون بعد ذلك الاستقرار في البلد الجديد بشكل دائم. كذلك مسألة أنظمة التعليم غير المتطورة (التقدم التكنولوجي والتغيّرات الثقافية التي تساهم في تطوير المجتمع، البحث عن أنشطة ثقافية وترفيهية أفضل، هيمنة بعض العادات والموروثات الشعبية…)  بالإضافة إلى هذه الأسباب هناك أسباب دينية تدفع الإنسان إلى الانطلاق إلى بلد آخر. فرض بعض الحكومات القيود والشروط على الممارسات الدينية وحرية المعتقد يدفع المرء أحيانًا نحو أرض اخرى حيث يمارس الشعائر من دون قيدٍ أو شرط. لا يفوتنا ذكر تأثير وسائل الإعلام التي تساهم في تغيير المواقف والقيم للأشخاص، وتعزز لديهم فكرة الهجرة.

ونلفت إلى أمرٍ قد يكون ملتبسًا لدى البعض، وهو الفرق بين الهجرة والاغتراب. فالهجرة هي الانتقال من البلد الأم للاستقرار في بلد آخر مع النيّة بعدم العودة، أماّ الاغتراب فهو العيش في بلد آخر غير البلد الأم مع العزم على العودة إليه. يطلق لفظ المغترب على من سافر للعمل أو للدراسة ولا ينوي الاستقرار، حيث يعود إلى بلده بمجرد انتهاء الهدف من السفر.

كلاهما يبحث عن أمل!

آثار الهجرة

تترك الهجرة على اختلاف أنماطها آثارًا كبيرة سواء بالنسبة للدول المستقطبة/ المستقبلة أو للدول “الطاردة” وهذه الآثار أو النتائج تتنوع ما بين جغرافية واقتصادية وسياسية واجتماعية على حد سواء. نتناولها بإيجاز:

تلعب الهجرة دوراً مهماً في تحسين الوضع الاقتصادي للدولة المُضيفة، وتوفّر أسواق عمل مرنة، وعلى الرغم من ذلك يُمكن أن يؤدي ارتفاع أعداد المهاجرين فيها إلى زيادة الضغط على الخدمات العامة كالتعليم والمرافق العامة والتأثير على الناتج المحلي الإجمالي للفرد بشكل سلبي، وانخفاض في الأجور- خاصة أجور عمال البلد الأصليين- ذوي الخبرة المنخفضة.  أمّا بالنسبة للبلدان الطاردة أو المرسلة، قد تؤدي الهجرة إلى تقليل تكلفة العمالة في البلد المُرسِل.

وتكمن أهمية تعزيز التواصل بين “لبنان المقيم” و”لبنان المغترب” في الدرجة الأولى، في تأثير هذه العلاقة على الوظيفة الاقتصادية لهذا البلد. وتؤكد بعض الدراسات أنّ المهاجرين اللبنانيين يقومون بتحويل مبالغ نقدية كبيرة، تساعد في دعم الاقتصاد المنهار ،من خلال دعم بعض الأسر المقيمة التي تعاني من أزمة معيشية بسبب ارتفاع سعر الدولار ونقص كبير في المواد الغذائية والأدوية. وعليه تعتبر أموال المغتربين ركيزة أساسية للأمن الاقتصادي. يشير د بطرس لبكي إلى خطورة التأثير السلبي للهجرة الذي يطاول إنتاجية العمل بشكل عام: “تتسبب الهجرة في ازدياد تمركز الثروات بيد فئة ضيقة وتساهم في ضمور الطبقة الوسطى”.

كما قد تؤثر الهجرة على الأمن الصحّي للبلد المستقطب. قد ينقل المهاجرين بعض الأمراض المعدية إلى مواطني البد المستقبل أو قد يحتاج هؤلاء المهاجرون إلى رعاية صحيّة معينة تزيد من الضغط على الخدمات الصحية في البلد. أمّا بالنسبة للبلدان الطاردة فهي قد تخسر بالدرجة الأولى نسبة كبيرة من طاقمها الطبي، وبالتالي يتدنى مستوى الرعاية الصحية، كما حصل مؤخرًا في لبنان – بخاصةٍ في ظل تفشي وباء كورونا- حين هاجر عدد كبير من الأطباء والجهاز التمريضيّ إلى الخارج بسبب تدني الأجور والتقديمات الطبية والوظيفية. لا يغيب عنا دور الحوافز الاقتصادية في البلدان المُضيفة والتطورات العلمية المتاحة في مجالات البحث العلميّ التي غالبًا ما تجذب متخصّصي الرعاية الصحيّة.

آثار أخرى قد تنتج عن الهجرة قد تكون اجتماعية، منها على سبيل المثال :

ملء الوظائف الشاغرة وخاصة الوظائف التي لا تحظى بشعبية كبيرة،

توفير العمالة الماهرة، خصوصاً لذوي الخبرات كالممرّضات، والمعلّمين.

الاستفادة من العمال الشباب ممّا يُساهم في تحقيق الأرباح لميزانية الدولة.

حل مشكلة شيخوخة السكان في بعض الدول من خلال هجرة الشباب إليها. جذب رواد الأعمال المحتملين إلى البلد الجديد.

ارتفاع تكاليف السكن والإيجار بسبب زيادة عدد السكان في منطقة ما

وجود التنافر الاجتماعي الذي قد يحدث بسبب الهجرة السريعة.

تهديد الهوية الوطنية، وتهديد الأمن القومي الناتج عن الهجرة غير الشرعية أو الإرهاب.

تطرأ غالبًا تغيرات جغرافية للسكان بالنسبة للبلدان المستقبلة من حيث التركيب العمري والنوعي للسكان. غالبية السكان المهاجرين يكونون من فئة الشباب الذكور بالتالي قد ينتج عن ذلك ازدياد الأعداد في الدول المستقطبة وانخفاضها في الدول الطاردة. لا تقف التأثيرات الاجتماعية عند هذا الحد، بل تتخطاه لتساهم في “تأنيث المجتمع”. يقول الباحث الدكتور بطرس لبكي: “بما أنّ الذكور يشكّلون النسبة الأكبر من المهاجرين سترتفع حكمًا معدلات العزوبة وتأخّر سنّ الزواج وتراجع الولادات ما ينعكس تراجعّا ديموغرافيًا”. كذلك نلاحظ زيادة التنوّع الثقافي وارتفاع نسبة هجرة الأدمغة وذوي المهارات التقنية أو المعرفية. تؤكّد المعلومات الأخيرة التي وصل إليها د. بطرس لبكي إلى أن “نسبة الجامعيين من بين المهاجرين تخطّت ال 50%”.

ملاحظة أخيرة، لقد فشل النظام السياسي في لبنان منذ إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920 في تنظيم جغرافية لبنان بحدودها الحالية، بالرغم من صغر مساحة هذا الوطن، الذي يشهد منذ الاستقلال، تدفقات ضخمة من الهجرة “الاحلالية” والتي تضمّ جماعات من العمّال الوافدين من مختلف البلاد العربية او الأجنبية وأيضًا من النازحين، في مقابل استنزاف الموارد البشرية وهجرة الشباب. ونحن للأسف لا نملك أيّ معطيات رسمية تبين لنا التعداد السكاني الحالي منذ إحصاء 1932.

هجرة الادمغة

تكون الهجرة في أغلب الأحيان ضرورة مفروضة على الفرد ووسيلة لتجاوز مساوئ الوضع الاقتصادي. وقد بدأت ظاهرة هجرة “العقول البشرية” منذ القرن التاسع عشر وازدادت خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية لأسباب سياسية واقتصادية وامنية. وكانت هذه الهجرة من العوامل المؤثرة في الاقتصاد العربي بشكل عام، والاقتصاد اللبناني بشكل خاص الذي تمّ تصنيفه مؤخرًا في المرتبة 113 بين 144دولة في العالم نسبة إلى ظاهرة هجرة الأدمغة، مع ارتفاع نسبة المهاجرين الجامعيين إلى 44% وذلك بعد أن شهد لبنان في الآونة الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات الهجرة والساعين إليها، مما يجعلنا ندخل في بداية موجة هجرة جماعية Exodus.

آثار هجرة الأدمغة على لبنان

في كتاب للدكتور جهاد العقل حول تأريخ ظاهرة الهجرة، حدّد المؤلف أربع مراحل رئيسية لهجرة اللبنانيين هي: المرحلة الأولى (1861-1918) وتشمل الهجرة اللبنانية في عهد المتصرّفية، المرحلة الثانية (1918- 1943) وتتناول الهجرة اللبنانية في عهد الانتداب الفرنسي. المرحلة الثالثة (1943-1990) تركز على علاقة المؤسسات الرسمية والخاصة مع الهجرة اللبنانية لا سيما وزارة الخارجية والمغتربين والجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، وتدخل ضمنها المرحلة المتعلقة بالحرب الأهلية (1975-1990). المرحلة الرابعة (1990 حتى مطلع 2000) تعالج دور المغتربين وتعاطيها مع الهجرة اللبنانية. ويشير أستاذ ناصر ياسين إلى تأثرات “الهجرة الثالثة” وعواقبها الوخيمة “عبر خسارةٍ يصعب تعويضها للرأسمال البشري اللبناني وهو المدماك الأساسي في إعادة بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد”. ويقول خبير علم اجتماع الديموغرافيا نزار حيدر في حديث إلى سكاي نيوز إنّ “غالبية اللبنانيين صاروا جاهزين للمغادرة ويحملون جوازات سفر… الكلّ أصيب بالإحباط وحاليًا وصلنا إلى هجرة الأساتذة والمدرسين والطلاب. هذه العوامل أدّت إلى خسارة لبنان للموارد والمهارات البشرية من مهندسين وعاملين في القطاع الصحي وأصحاب مهارات بحثًا عن وطن بديل”. ويشير أستاذ السياسات والتخطيط في الجامعة الأميركية ناصر ياسين إلى خطورة هجرة “محركي الاقتصاد” الأمر الذي سينعكس سلبًأ على لبنان لأمد طويل: “سيفقده العنصر الإبداعي والمهني القادر على إدارة القطاعات والنهوض فيها. كذلك بالنسبة الى الخريجين الجدد الذين يرحلون بحثًا عن فرص في الخارج بعد انعدامها في الداخل.”

لا يخفى على أحد ما استنزفته هذه المراحل التاريخية بتحركاتها من قوى لبنان المادية والمعنوية والاقتصادية، وخسارة لبنان لثروته البشرية التي تعادل الثروات الطبيعية التي تحيي الاقتصاد. هذه الكفاءات الشابة المنتجة تركت لبنان سعيًا وراء الاستقرار الأمني والمادي، وأحيانًا التطور الفكري في مواقع مؤقتة، ما لبثت أن تحولت إلى مراكز استقرار دائم. هذه المسألة التي تتكرر وللأسف لأسباب لا تغيب عن القاصي والداني، أبرزها وضع الليرة اللبنانية وتدهور النقد الوطني، دفعت بذوي الكفاءات وأصحاب رؤوس الأموال الى الهرب نحو الأمان بحثًا عن مستقبلٍ مضمون بعيدًا عن لبنان.

النهضة الاغترابية الأولى

قد يضطر المرء إلى ترك أمرٍ ما والتخلّي عنه، بخاصةٍ حين يختار الهجرة أو الانتقال إلى بلدٍ جديد بعض النظر عن الأسباب الموجبة. لكن من الطبيعي أن يحمل معه عادات وتقاليد وموروثات من الصعب تغييرها أو نسيانها. أعني بها لغته الأم وذكريات الأرض والطفولة والنشأة والبيئة التي تربى فيها وانطبعت في تصرفاته وأعماله.

يمرّ المهاجر بمتغيرات جوهريّة تمسّ حياته، قد تكون سلبية فتتسبب بالاكتئاب والعزلة والاحساس بالانسلاخ، فيعجز عن الإنتاج والابتكار والانخراط بكل ما هو غريب عنه، وبالتالي تمنعه من التطور والتقدّم وتحقيق الهدف من هجرته، الذي هو غالبًا البحث عن الاستقرار والأمان النفسي والاجتماعي. هذه المتغيرات يمكن أن تكون إيجابية لدى الكثيرين، فتكون ملهمةً، مفعمة بالأفكار الإيجابية ومملؤة بالتفاؤل، تسمح لحاملها بالتكيّف والتأقلم مع المجتمع الجديد من دون أن يتخلّى عن خلفيته الثقافية وتجاربه السابقة. وخير مثالٍ على ذلك الأدباء المهاجرون. إذ أنهم انطلقوا من خلفيتهم الثقافية والفكرية والبيئية المنبثقة عن بلدهم الأم وراحوا يفلشونها بشغفٍ وحب، بأساليب راقية تجسّد معنى الوطنية والانتماء الصادق والحرّ وتحافظ على توازنهم الداخلي واتزانهم الخارجي وعلاقاتهم بالمحيط الجديد. فراحوا يزرعون بذور وفاءٍ سرت في عروقهم فأثمرت عطاءاتهم نتاجًا ثقافيًا وإرثاً حضاريًا في بلدٍ جديد بات بلدًا محببًا يوازي بمحبته بلد المصدر. فتجانست أفكارهم وتمازجت مع تربة الأرض الجديدة وكانت انطلاقتهم واستمراريتهم خميرةً لمن لحق بالركب من كلّ الأصقاع، ورسمت في الأفق حيث ما حلّوا خطوطاً عريضة لنهضات إغترابية شعارها التفاؤل وميزتها الثقافة الإنسانية، فكان صداها مثمرًا على مختلف الصعد، بخاصةٍ في ما يتعلّق بموضوع الدمج بين ثقافتين مختلفتين الذي يؤدي إلى إثراء الحياة ويوفر عددًا من الإمكانيات الجديدة.

أدباء وشعراء المهجر

يطلقُ مصطلح “أدباء وشعراء المهجر” على نخبة من أدباء وشعراء من بلاد الشام ولبنان الذين هاجروا إلى أمريكا الشمالية والجنوبية ما بين الفترة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين تقريبًا إلى خارج البلاد العربية. عاشوا هناك طيلةَ حياتهم وقاموا في تلك البلادِ التي استقرُّوا فيها بالتأليف وكتابة الشعر وغيره، وقد قام الكثيرُ منهم بإنشاء العديد من النوادي والروابط الأدبيَّة التي جمعت الكثير منهم في مهجرهم، مع أنَّ بعض الأدباء لم يكُن من أعضاء تلك المجموعات، ومن أشهر الروابط الأدبيَّة لشعراء المهجر هي الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية والنادي الفينيقي.

الرابطة القلمية

بدأت فكرة الرابطة القلمية عام 1916 إلا أنها تأسست رسميًا عام 1920 على يد نخبة من أدباء المهجر الذين هاجروا أوطانهم لأسباب اقتصادية واجتماعية وأمنية وسياسية في بلاد الشام، يمكن أن يطلق عليها مدرسة أدبية، وقد كتب جلهم باللغة العربية والإنجليزية. ألّفت هذه الفئة النهضوية فيما بينها رابطة فكرية قومية تجمعها في كلّ المناسبات الوطنية، تتبادل فيما بينها الأمور المتواترة والأحداث المستجدة في تلك الحقبة على الساحة العربية. دوّن هؤلاء النهضويون وغيرهم بوجدانهم ظاهرة الهجرة اللبنانية أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حتى نصفه الأول، وحافظوا على نهج عربي صادق لتثبيت التراث في الأرض الجديدة وتمجيد اللغة، مراعين بذلك قدسية الكلمة وسلامة الحرف. “الغيرة على الأدب وما آل إليه من جهود وتقليد هو الدافع لتأسيس الرابطة، كونهم نقلوا الأدب العربي إلى تلك المهاجر. وأنشأ هؤلاء أدبًا عبروا فيه عن مشاعرهم وكتبوا شعرا يصورون فيه عواطفهم ويتحدثون فيه عن الغربة والحنين إلى الوطن”.

من أبرز أدباء الرابطة الثقافية جبران خليل جبران، نسيب عريضة، رشيد أيوب، ندرة حداد، ميخائيل نعيمة، إيليا أبو ماضي…. تبنت الرابطة فكرة تجديد الشعر العربي، وهدفت: ” أن يكون لأدباء المهجر رابطة تضم قواهم وتوحد مسعاهم في سبيل اللغة العربية.” تفككت الرابطة القلمية بعد فترة وجيزة من موت جبران خليل جبران سنة 1932.

العصبة الأندلسية

تأسست عام 1933 برئاسة ميشال المعلوف ونخبة من الأدباء أبرزهم داود شكور، نظير زيتون، يوسف البعيني وعقل الجرّ وغيرهم، ثم انضم إليها نخبة من أشهر الأدباء والشعراء في القرن العشرين. الفرق بين الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية أنّ الرابطة القلمية أكثر تجديدا في الأدب العربي شكلًا ومضمونا، أمّا العصبة الاندلسية فكانت أكثر محافظة على القديم من حيث اللفظ الفصيح والمعاني والوزن والقافية.

النادي الفينيقي:

جمعية أدبية أسست في البرازيل من طرف أدباء مُهاجرين لبنانيين وسوريين، بمبادرة من الأديب اللبناني عقل الجرّ بهدف جمع شمل أدباء ومفكري المهجر في الأمريكيتين، ومن أجل تبادل الأفكار والدعم المتبادل.

***

أبرز السّمات التي اجتمعت في هذه الحركات الثقافية الاغترابية، التعلق بالوطن والشوق إليه والحنين إلى أرضه كما اعتماد كل ألوان الفن الأدبي، من نثرٍ وشعرٍ ومقالات. وقد كان للمرأة اللبنانية حضورًا قويًّا في الأدب المهجري وفي وجدان أدباء وشعراء المهجر. نذكر على سبيل المثال لا الحصر مي زيادة – التي أثّرت بشكل واضح على كتابات جبران خليل جبران، وسلمى بنت جبران الصائغ، من أديبات المهجر في البرازيل وإحدى أبرز نساء العصبة الأندلسية، وأبرز الصحفيات اللبنانيات والشاميات في المهجر.

النهضة الاغترابية الثانية

يسمو الأدب بالإنسان إلى أرقى درجات إنسانيته ويسعى إلى تغيير الواقع عن طريق النقد الإيجابي الفعال، الساعي إلى إذابة المشكلات الإنسانية بأقوالها وتعاليمها. يعود استخدام مصطلح الأدب المهجري كما سبق وأدرجنا إلى المضمون الذي استخدمه الفنانون والشعراء والمتخصصون في عالمنا العربي من أدباء. يقول الأديب “ميخائيل نعيمة”: من يسعى إلى الإنسانية عليه بذر بذور الإيمان واقتلاع أشواك الشهوات، وهنا يحصد الكمال الروحيّ، الذي يسعى إليه…”.

استطاع الأدب المهجريّ في كافة أوجهه التعبير بصدق عن مختلف المطالب الإنسانية المحقة. وهو بعامة يُعد طلقة مهمة من طلقات تطور الأدب العربي الحديث، وكذلك لبنة أولى استطاع أصحابها المهجريون أن يرسوا دعائم هذه النزعة الإنسانية في أدبنا الحديث، وكان غرضهم الأسمى التعبير والتطلع إلى المثل الإنسانية العليا… “عملوا على خلق مجمع إنساني يسوده العدل و الرحمة و الحب، وبذلوا جهدًا للتخفيف من آلام البشرية وشقائها بتصويرهم للحياة بالصور المحببة للناس جميعًا فناشدوا بذلك الإنسانية وساهموا في العطاء الإنساني.

مشروع د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي

نبصر اليوم لفتة جديدة ومميزة. رجالات رأووا في الأدب مسرحًا مميزًا للحفاظ على الحضارة فسخّروه لخدمة الانسان وارتقاءه. من هنا كانت الانطلاقة، انطلاقة الأديب د. جميل الدويهي الذي قرر ترك لبنان منذ عام 1988 لكنه ما لبث أن عاد إليه تحمله الوطنية ويشغله الحنين… وشاءت الظروف أن يتأرجح بين كرٍ وفر إلى أن استقرّ في استراليا عام 2013. وبدأ مشروعه الأدبي عام 2014  إيمانًا منه بدور الأدب في تعزيز الحضارة والفكر ورفع مستوى الثقافة، والتركيز على اللغة الرفيعة التي تبتعد عن السوقية والابتذال. وتعودني قولة الأديب المهجري ميخائيل نعيمة حين صاغ قانون الرابطة القلمية: “هذه الروح الجديدة التي ترى الخروج بأدبنا من دور الجمود والتقليد إلى دور الابتكار في جميل الأساليب والمعاني، حريةٌ في نظرنا بكلّ تنشيط ومؤازرة، فهي أمل اليوم، وركن الغد.”

أطلق “الدويهيّ الجميل”ثورةً في المفاهيم الأدبية في استراليا بهدف تغيير الواقع الأدبي الجامد. فأتى مشروعه متعدد الأنماط والأشكال. حاك الشعر بأنواعه الثمانية: العمودي، التفعيلة، المدوّر، الشعر المنثور، الزجل، التفعيلة العامية، المدور العامي، النص العامي الشعري. وغزل الرواية والقصة القصيرة وأدب الأطفال. ولم تغب عن حديقته كتب الفكر وهي سبعة، والتأريخ، والدراسة الأكاديمية باللغتين العربية والانكليزية. احتضن المشروع طاقات جديدة وهيأ لها السبل لنشر أعمالها كما نشر من أعماله الخاصة 40 كتابًا. اللافت في نظرته الشمولية للنهضة والأدب تلك السمة الإنسانية التي لا تسعى إلى التفرّد في الارتقاء، لا بل تترافق مع من توحّدت رؤاهم  وتاقت نحو العلى، ويليق به هذا التوصيف: “ما تعنيه الإنسانية بشكل عام هي تلك النظرة الواسعة إلى الإنسان كمجتمع بشري لا تحده الحدود الجغرافية ولا تحول بينه المذاهب الدينية و العقائد الإيديولوجية”. لذا بادر إلى نشر الكتب الأدبية لأدباء مقيمين ومهجريين، وفتح الباب لجلسات حوارية ووقائع امسيات تنوعت محاورها. أطلق العديد من الأساتذة الكبار على مشروع الأديب د. جميل الدويهي” أفكار اغترابيّة”  للأدب الراقي، اسم” النهضة الاغترابيّة الثانية” تيمّناً بالنهضة التي أطلقها أدباء الرابطة القلميّة في أميركا، منذ أواسط القرن التاسع عشر. كما أقام جسراً بين القارّات، وانضمّ إلى توأمة مع نادي الشرق لحوار الحضارات. وأقام المشروع مهرجانات أدبيّة في أبعد نواحي الأرض، حضرها الآلاف وحوّل مدينة سيدني إلى عاصمة للثقافة العربيّة.

لا شك أنّ الأدباء المهجريين المعاصرين ومنهم د جميل الدويهي والشاعرة كلود ناصيف حرب، قد أعادوا إلى المدرسة الأدبية المهجرية ألقها. فالوارثون الجدد خير من يحافظ على الإرث، يعيشون قضايا بلادهم بحب ويسعون إلى زرع البذور الطيبة لإرث ضمّوه بين الثنايا واختاروا إعلانه وتوريثه إلى الأجيال من بعدم.

خلاصة

لكلّ قضيةٍ مخاطرها وسلبياتها. قد تضيف معالجة الموضوع، من خلال تسليط الضوء على الأسباب الكامنة خلف ارتفاع معدّل الهجرة، مفاهيم جديدة حول أهمية الأدب المهجري ودور النهضة الإغترابية في المحافظة على هوية لبنان الاجتماعية وترسي ثقافة الإنتماء وتعيد اللحمة بين اللبناني المقيم واللبناني المهاجر.

وقبل الختام من المهم جدًا أن نعترف بأنّ النهضة الاغترابية لا تكون فقط بالاضاءة على الادباء والمفكرين، لا بل ينضوي تحت سقفها كلّ لبناني مبدع في كافة المجالات والاختصاصات، إذ لكلّ منهم فرادته، وكلّ حمل اسم لبنان إلى دنيا الإغتراب على طريقته. نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: العالم حسن كامل الصبّاح، الشاعر جودت حيدر، الأديب جورج شحادة، بروفسور مايكل دبغي، الموسيقيّ غبريال يارد، العالم إدغار الشويري واللائحة تطول…

تكمن أهمية المؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية” في سعيه إلى نشر ثقافة الإنسان وتشبيك العلاقات ومدّ جسور التواصل مع القارات والوطن الأم، باتجاه كلّ مؤمن بهوية أرضه وحضارته ووجوده وكيانه وبإرثٍ ثقاقيّ يفوق عمره آلاف السنوات.

” الإنسان هو طاقة الحضارة المقبلة”. تحية شكر وتقدير لكلّ من ساهم وسعى وجاهد على غرار د. جميل الدويهي، د. عماد يونس فغالي والأديبة كلود ناصيف حرب، إلى الارتقاء بالإنسان وحرص على إرساء مفاهيم الحضارة الإنسانية بمختلف المعايير.

مبارك السعي الدائم إلى وضع مشروعٍ يجعل التراث الثقافي اللبناني معروفًا ومشتركًا للمهاجرين والمقيمين وأحفادهم، ويساهم في الحفاظ على مستقبل العلاقات بين لبنان الأم واللبنانيين المتحدرين في المهجر.

د. سحر نبيه حيدر – باحثة في التاريخ الاجتماعي.

بيروت في 9-2-2022

***

*غداً 12 شباط 2022، ورقة المركز العربي الأميركي للثقافة والفنون – أميركا

اترك رد