“تحت المطر”  لجميل الدويهي

 

 

قالت لي امرأة كانت تسير تحت المطر: هل تأخذُني من يدِي؟

تعجّبتُ من سؤالها، وقلت لها: لا أعرفك يا امرأة، ولا تعرفينني، فمن أين أتيتِ؟ ولماذا آخذ بيدِك؟

قالت: جئت من داخلك… من أفكارك، من رأسك الذي لا يتنجّر. ألا تقول إنّ رأسك من خشب؟ أنا الشجرة التي أطلعتك، والأرض التي ولدتك، والشمس التي لفحتك، والسماء التي ظلّلتك. فإذا طلبتُ منك شيئاً بسيطاً، تواجهني بكلام قاس، وتتجاهلني!

قلت لها: اعذريني أيّتها السيّدة الجميلة، فقد يكون لك زوج، فإذا رآني أسير معك، غضبَ، وانفعل، وربّما سيضربني…

ضحكتْ وقالت: تبّاً لأزواجي، وأنت أكثرهم وسامة. لقد تزوّجتك منذ أن خلق الله العالم وأنت لا تعرف، وسأتزوّجك في كلّ يوم… حتّى نهاية الزمان… وعندي منك أولاد كثيرون… قبيلة من الجنّ.

انهمر المطر غزيراً في تلك اللحظة، فالتمعتْ مقلتا المرأة تحت كحلها الأسود، وهمست: أنظر إلى هذا المطر الذي يغمر الشارع… يكاد أن

يصبح نهراً… فلعلّني لو أردت أن أذهب إلى الرصيف الآخر سأتعثّر وأسقط في الماء.

قلت لها: ولعلّك أيضاً لا تتعثّرين وتسقطين. عندك فرصة للنجاة وأنت وحيدة، فلا تعتمدي عليّ، فليست عندي أيّةُ فرصة للخلاص…

نظرتْ إليّ بتعجّبٍ، وقالت: أنت أوّلُ رجل تزوّجته يقول عن نفسه ما تقول… فأزواجي الآخرون كانوا يزعمون أمامي أنّهم أغنياء، ونبلاء، وعباقرة، ومغامرون، وأصحاب إرادة… ولا يسقطون لا في الصيف ولا في الشتاء…

قلت لها بعجل: أنا أسقط في كلّ الفصول، في اليقظة والحلم… وبين السطور… وبين الثانية والأخرى أسقط مرّتين… أتعثّرُ بقرار إلهيّ… ولو أمسكتُك من يدِك، وعبرتُ معك هذا الشارع في الماء، فسأسقط وتسقطين معي، ويغرق هذا الثوب المخمليّ الأنيق الذي ترتدينه… لست خائفاً إلاّ على هذا الثوب… صدّقيني.

رمقتْني المرأة شَزراً، وأخذتني من معصمِي بقوّة، لنسير معاً، وهي واثقة من ثباتي، وعنادي، وقدرتي على تخطّي الصعاب… وكم كانت خيبتها كبيرة عندما سقطْنا، وكان سقوطنا عظيماً!

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي – سيدني

اترك رد