هموم المرأة في الأدب

 

 

   الشاعرة منيرة مصباح 

                                          (جامعة شيكاغو)

تتميز ثقافة الهند بتأثرها بالثقافة الغربية وأحيانا إرتباطها اللغوي بالإنكليزية، لدرجة ان أدب كثير من مجتمعات الهند هو نافذة تطل على الواقع الاجتماعي فقط، ولم يصبح قوة تتناول قضايا الخيال العلمي في ابداعاتهم. وربما يعود ذلك الى محاولة الاستعمار، ولعقود عديدة، اقصاء كل ما له علاقة بجذور الإنسان في هذه القارة الأسيوية، التي تعتبر تعدد لغاتها من أهم عناصرها. وبالرغم من تعدد اللغات المنتشرة في الهند إلّا ان اللغة الثقافية والأدبية فيها ما زالت تستخدم الإنكليزية باستثناء القليل جدا، أهمهم شاعر الهند طاغور الذي كتب بلغته “البنغالية” وبعض من الادباء والشعراء المحدثين.

والكتابة باللغة الانكليزية نراها بمثابة اتجاه عام في الكتابة هناك، مما يؤكد على ازدواجية الثقافية الفنية، خاصة في الأدب الروائي. وهو بذلك يمتلك الكثير من الميزات، منها قدرته على الانتشار عالميا بسرعة، ومن جهة اخرى استطاعته مخاطبة الفئات اللغوية المختلفة داخل الهند نفسها. لكن هذه الميزات التي يمتلكها الأدب المكتوب بالانكليزية لم يستطع ان يمحو مثيله المكتوب باللغات الهندية العديدة الأخرى.

“رحيق في غربال”

تطرح “كاملا ماركندايا” في روايتها “رحيق في غربال” قضايا هندية مهمة، وهذا ما جعلني أبحث في أعمال هذه الكاتبة المتميزة بعد قراءتي لهذه الرواية. حيث وجدت لها ايضا “غضب داخلي” و “امتلاك”، وكلها تتناول مشكلات المرأة الهندية، حيث تتنوع الهواجس فيها وتتداخل مع المشكلات الاجتماعية والاقتصادية للإنسان في الهند.

لقد استعملت الكاتبة في رواياتها الثلاث أسلوب السرد القصصي، بلسان المفرد حيث تبدأ الرواية من نهايتها كتداعيات الأحلام، او كشريط فيلم من الذكريات، كل ذلك بشكل دائري يرسم بنية العمل الروائي. وداخل هذا البناء الدائري تذوب الشخصيات الواقعية، لتبقى المشكلة المطروحة في العمل الروائي هي الجوهر لذلك العمل.

وأستطيع ان أقول عن رواية رحيق في غربال انها رواية واقعية رومنسية معا، فهي تصف الجوع والفقر الذي ينعكس على جميع أفراد العائلة دون استثناء، الى جانب طرحها لمشكلة التحديث السريع، والتحولات الاجتماعية التي ظهرت اثناء دخول التصنيع الى مجتمع الهند، حيث شكلت هذه القضية محور الرواية، لكن ماركاندايا تفاجئنا باحداث اخرى في روايتها، تمتزج بالمشكلة الأساسية المطروحة وهي مأساة الجفاف. وهنا تلتقي المأساتان وتلتحمان في مواجهة حياة الانسان الهندي، حيث تدفعه في النهاية الى الإستسلام للموت.

أحداث الرواية تدور كلها في قرية هندية، حيث تعود “ركماني” اليها بعد وفاة “ناتان” وبعد فقدها لجميع افراد عائلتها، هنا يبدأ شريط ذكرياتها الدرامية التي تؤدي في النهاية الى النتيجة المأساوية، والتي تدفعها بالتالي للاستسلام للموت دون اي رفض او حتى انتظار. ان بطلة الرواية “ركماني” ترث حزن العائلة من خلال معايشتها ثم من خلال ذكرياتها التي لا تحمل ازمنة محددة، انما قلق ومعاناة تبعث في النفس المزيد من الشقاء والاستغراق في الماضي والحاضر، ومحاولة الخروج منهما نحو المستقبل الذي تحلم به لكن دون جدوى. وحزن بطلة الرواية هو حزن يلقي ظلاله على الناس وعلى كل ما يتعاملون معه، لكن الزمن الذي يصنعه الانسان ليتحرر من عبودية الواقع المؤلم لا تنجح به “ركماني”، لذلك نراها تذهب الى الموت.

وهذا الايقاع المسيطر على الرواية، ايقاع الحزن، الموت، والمأساة، ينشر رائحة خاصة بزمن الكاتبة، مما يؤدي الى انعكاسه على الأشياء القريبة من وعي المثقف المهتم بالادب، لذلك لا نحتاج الى عناء في إدراك تأثيراتها على حياة الفرد والمجتمع، ان حزن الإنسان وفرحه وأحلامه، يدفعنا للإحساس بالشفقة والرأفة، والألم، وبالتالي الإحساس بالقرف من هذا العالم الإنساني كما يسمى. حيث نرى الثروة في أيدي قلة من الناس، بينما مجتمع كامل محروم حتى من أبسط احتياجات العيش الكريم، ومن أدنى حق له في الحياة.

ان “ماركاندايا” في كتاباتها، تؤكد على أنها قد عاشت فترة حزن الزمن وانعكاساته على الأشياء، على النفس في الإنسان، وعلى المجتمع ومجريات حياته بكل حركاتها ومسيرتها. فالأماكن يختلف وقعها من زمن لآخر، والشوارع التي كانت جميلة في زمن ما لم تعد كذلك في زمن آخر، كذلك الأشجار والحدائق والطرقات والحقول والعلاقات الإنسانية والسفر والحب والخيال والأحلام كلها تتغير وتتخذ منها النفس ذلك الإحساس بحزن الزمن المتأتي من المتغيرات وانعكاسها على رائحة وطعم ونكهة وصورة مجتمع بأكمله

ان رواية “رحيق في غربال” تنفتح على عالم ربما بعيد عن رؤية الكثيرين، ذلك الذي يعتبر جزءا من مأساة البشرية التي يغيبها العالم الحديث…. عالم الحضارة والمدنية.

اترك رد