انطلق مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” الذي ينظمه مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي-سيدني ، منتدى لقاء – لبنان، بستان الإبداع – سيدني. يصدر عن المؤتمر كتاب من جزءين او ثلاثة، يضم جميع الأوراق المشاركة، وترسل نسخ منه إلى المشاركين والمكتبات والكبرى. يعقد المؤتمر حضوريا في جلسة واحدة، فور انتهاء الأزمة الصحية، وتقرأ مختصرات الأوراق بالنيابة عن المشاركين المقيمين خارج أستراليا.
في القسم الأول من المؤتمر تم نشر عشرين ورقة لأدباء ومفكرين من لبنان وأنحاء العالم.
القسم الثاني يضم 12 ورقة، في ما يلي الورقة 23- الأديبة نجاة الشالوحي – لبنان: حول رواية “حدث في أيّام الجوع” للأديب د. جميل الدويهي.
الأدب تعبير عن عواطف الانسان وافكاره، او عن شخصيته. والقصة من أهم فنون الأدب التي يبث فيها الكاتب هواجسه ومشاعره بسعة خياله، وقوة لغته بقالب أدبي بديع.
استحوذت القصة اهتمام الدكتور جميل الدويهي، فقد كتب 4 روايات، هي “الذئب والبحيرة”، “طائر الهامة”، الإبحار إلى حافة الزمن”، و”حدث في أيام الجوع”… وقد علمت أن الأخيرة التي صدرت ضمن 18 كتاباً من أفكار اغترابية في العام الماضي، هي قيد الترجمة إلى اللغة الإنكليزية.
الرواية هي أداة مثلى للكشف عن تجربة الأديب الإبداعية والإنسانية، وفيها يصوغ أدباً جمالياً يرتقي إلى مستوى التأثير وانتزاع الاعجاب، ويحمل هموم الوطن وأبنائه. وفي قصته بعنوان “حدث في ايام الجوع” يصور أديبنا تجربته الانسانية بحرارة، ودفق، وقلق، واندفاع، وحماسة. فأدبه إنساني يتصف بالعمق والقوة والشمول والتنوع والتعدد والاختلاف، يعتلي به قمة الهرم الادبي الابداعي.
و”حدث في ايام الجوع” لها ابعادها التعبيرية والمعنوية والجمالية، وتتميز ببنيتها اللغوية المتينة، وتشكل البنية الداخلية دورا اساسيا في ترجمة انطباعات الأديب ورؤاه. فيعمد الى حشد اللغة العميقة في صور مؤثرة ومتنوعة التركيب، موحية في دلالاتها ورمزيتها ليتيح المجال لقراءات متنوعة ومختلفة نظرا الى إختلاف تأثيرها على المتلقي. هذا من جهة الأسلوب. أما في المضمون، فالدويهي يحمل الوطن في أدبه كما في قلبه، فالادب عنده أداة لتحرير الوعي وتحرير الجماعات. فهو يعلن ثورته على أهل الثروات الذين ينفقون أموالهم على البذخ متخلين عن الفقراء و المحتاجين من ابناء الوطن: “انقسم أهل البلاد إلى سارقين كبار، وهم جلّة القوم وأصحاب القرار، وسارقين صغار، هم الحفاة، العراة، الفقراء، والكادحون المشرّدون، الذين مسحوا الأرض بعرق أجسادهم، واجتاحوا الأرصفة بثورتهم الصامته، وملأوا السماء بشكوى لا تكاد ترتفع من شدّة الذلّ والمهانة. وما الفرق بين غنيّ يزداد غنى… ومعدم يزداد حاجة؟ الأوّل يمتلك القوّة ليتمتّع بالحياة، والثاني يمتلك الضعف، ويرضى بالفتات لكي يبقى على قيد الحياة” (ص 38). ويصرخ عبدالله بالثورة والتمرد: “سأحطّم هذا الحديد بأصابعي لكي أتحرّر… إنّ قطّاع الطرق أكثر كرامة منّي! لأنّهم يرون الشمس، ويتنشّقون الهواء، ولا حدود لأفكارهم!” (ص 64).
إن الكاتب هو الذي يدعو على لسان عبد الله الى المواجهة وايقاظ روح الغضب. ويعلن ان “الجوع لا وطن له، ولا هوية،يدخل من كل باب ويبسط جناحيه الاسودين على البشر، ليحوّلهم إلى أعواد هزيلة، تسير في الشمس والعاصفة، وترفع أصواتها الضعيفة إلى السماء، متضرّعة ولاهثة” (ص 5). إنّها صورة حيّة لزمن يخالف الزمن الذي تشير إليه القصّة في إطارها التاريخيّ.
أما رجال السياسة، فكان لهم النصيب الاوفر من النقمة، والانتقاد اللاذع، وهم يمثلون قوة اجتماعية وسياسية بارزة النفوذ في المجتمع اللبناني، يتحكمون بالمصير، ويرسمون مستقبل الوطن بما يناسب فسادهم: “لو أنّ الدولة التي نحيا في ظلالها، تعتبرنا شيئاً مهمّاً، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه… نحن في نظرهم عدد من الرؤوس التي تلفحها الشمس، ويضربها الهواء، كما الأعمدة… أو كما الفزّاعات في الحقول… أما نرى كلّ يوم كيف يتباهى الحاكم بأثوابه الفضفاضة، وبقصوره، وأمواله وخدمه… وقد حوّل البلاد إلى ملكيّة خاصّة له ولأسرته… والأمم العظيمة لا يكون أبناؤها أرقاماً، بل يكونون حُكّاماً على الحاكمين” (ص 22).
وتتكرر مثل هذه النبرة الغاضبة في كثير من مفاصل القصّة، في محورها السياسي. ولكن هل هذا هو المحور الوحيد؟
لقد أفرد الدويهي جزءاً من قصته لقضية المراة واضطهادها في المجتمع، فالقصة لها وجه آخر اجتماعي صارخ. ولان الدويهي عرف المرأة وعذبه الظلم الذي تعانيه، ولانه احس بمدى استبداد الرجل بها، كانت حرّية المرأة تؤرقه فيكتب عنها بحرقة. فسلمى الرمز، هي مثال المرأة الضعيفة جسداً وروحاً، تبيعها أمها لمنصور، فيعرضها للبيع من أجل الكسب المادي: “سلمى لم تتغيّر، فقد كانت منذ صغرها كئيبة، وجسدها نحيل، وكانت دائماً عرضة للمرض. وقد باعتْها والدتها لمنصور، فتحوّلت حياتها من جحيم إلى جحيم أكثر لهيباً وعذاباً…كانت سلمى أشبه بسلعة… تجارة رابحة… وما أقبحها من تجارة زهيدة!” (ص 70). وهنا يلتقي الادب الدويهي مع الادب الجبراني في الدفاع عن المرأة وحرّيتها، وتقدير مكانتها في المجتمع وفاعليته، فلنسمع إلى سلمى في تمردها ورفضها لتسليع جسدها الطريّ: “أطيعك في كلّ شيء، فأنا امرأة عاقلة ومتواضعة، ومن أسرة فقيرة… لا مكان للتعجرف عندي، ولا تتوق نفسي إلى الشرّ ومعاندة شريكي في الحياة. هي كلمة واحدة: الموت… الموت ولا الذلّ بعد الآن” (ص 99). وتشبه سلمى في قصّة الدويهي سلمى كرامه في “الاجنحة المتكسرة” التي كانت ضحية التحالف الأبوي -الكهنوتي الظالم. اما سلمى في “حدث ايام الجوع” فكانت ضحية الطمع_ تحالف الام والعريس_ (وزفت الموؤودة الى رجل يكبرها بكثير من السنوات) ولكن الدويهي ابى ان تستسلم المرأة في قصّته لقدرها الاسود، وهي ترمز الى كل امراة عانت الظلم والقهر والاستعباد، فثارت على جلادها، ومزقت شرنقة العبودية: “اندفعت سلمى بجسارة وقوّة، فطوّقت عنق منصور بقميص أخيها، وشدّته إلى الوراء… فسقط الحجر من يده… قاوم كثيراً، وهي تشدّ وتشدّ…
نهض عبدالله عن الأديم. فصرخت به: أتركه لي… ثمناً لكرامتي… لا شأن لك في هذا…
تضاءلت عزيمة منصور… ولم يفلح في الخلاص من القميص التي تقبض على عنقه، وكانت سلمى تلفّ رجليها النحيلتين حول جسده، فدار في حلقة مفرغة وهي لا تزيح عن ظهره… لم يكن سهلاً عليه التخلّص من المصير المحتوم… لوّح بقبضتيه إلى الوراء، ثمّ ترنّح وانهار، فسقطت هي معه، وبقيت على إصرارها، حتّى تلاشى… واختنق” (ص 100-101)…
ثمن للكرامة هو ما طالبت به سلمى، وهو ما حصلت عليه بعدما تخلصت من جلادها، بصورة لا تخلو من العنف… لكنه عنف مبرّر ويتمّ لا ثأراً لشرف، بل دفاعاً عن النفس، فمنصور الزوج كان عازماً على قتل عبدالله، شقيق سلمى بحجر كبير، لولا أنها أجهزت عليه لمنعه من قتل أخيها.
إن مجموع اعمال الدويهي صرخة في وجه الانسانية، تضع الإصبع على الجرح، تحاكي الغامض والخفي، تفتح ابوابا موصدة. وكأن الدويهي، في كل ما يكتبه يحاول ان يفتح عوالم من الجمال الانساني، هو الذي عانى الم الفراق عن الوطن، وعلى الرغم من مرارة الغربة، حمل لبنان وآلام شعبه في وجدانه كما في أدبه، فالقصّة “حدث في أيام الجوع” جرت وتجري اليوم، على الرغم من محاولة الأديب التغطية على الزمن، وإيهام المتلقّي بأنّها حدثت في زمن غابر. فكل ما يجري فيها يشبه ما نعانيه اليوم في وطن جريح يئنّ شعبه من الجوع والمرض والحرمان.
تعددت ابداعات الدويهي بين العامية والفصحى والقصة القصيرة، عازفا اعذب الالحان بالاحاسيس والافكار الحكيمة، ومحققا ثورة في الادب المهجري الحديث. فجميل هو رائد الثورة والتمرد، يسعى الى خلق أدب مهجري عظيم يليق بعظمة لبنان. وما رواية “حدث في أيام الجوع” سوى لبنة في بناء أدبه الذي يرتفع يوماً بعد يوم، ويثبت أن الأدب المهجري يلتمع من جديد في تجلياته ورؤاه ومواكبته لقضايا الأوطان والإنسانية جمعاء.
***
*غداً 8- 2- 2022 ورقة الشاعر وسام زيدان – ملبورن