“مَن صَنعَ الباب؟” لجميل الدويهي

 

يعتقد أغلب الناس في القرية أنّ أسعد ابن وديعة أمهرّ النجّارين، وأكثرهم معرفة بأمور حرفته، وجميع أبواب القرية ونوافذ بيوتها تحمل توقيعه، فقلّما يلجأ أحد السكّان إلى نجّار آخر، لكي يصنع له طاولة، أو صندوقاً، أو شبّاكاً، أو مدخلاً لقصر يليق بالقصور.

وكان عند أحد الأثرياء منزل فخم تحيط به حديقة غنّاء، وله برجان عاليان… هو مبنى قديم ورثه الرجل عن أجداده، ويبدو أنّهم كانوا في عداء مع أناس آخرين في قرية مجاورة، فصمّموا البرجين لغرض المراقبة والدفاع عن النفس. وكان مدخل الرواق المؤدّي إلى أحد البرجين مبنيّاً بشكل عجيب، فهو  مثلّث الأضلاع، قاعدته في الأعلى ورأسه في الأسفل. فأراد صاحب المنزل أن يجعل له باباً، فطلب من أسعد ابن وديعة أن يعمل تفكيره في اختراع باب لذلك المدخل، يكون من خشب الجوز، منيعاً ومحكَم الإقفال.

ارتأى المعلّم أسعد أن تكون مُفصّلتا الباب من فوق، والقفل عند أسفل الباب على الأرض، وجعل له رافعة كهربائيّة، فلا يجهد المرء في رفعه وإنزاله. ولم تمرّ أيّام حتّى كان الباب آية في الجمال، فجاء الدهّان ودهنه بلون ذهبيّ، كما وضع القفلَ له حدّادٌ متخصّص بتركيب الأقفال.

وعاينَ ربّ المنزل الباب، فأعجب به كثيراً، وأراد أن يدفع لكلّ مَن اشتغل فيه أجرته، لكنّه قرّر ايضاً أن يكافئ النجّار على ما ابتدعته يداه، فقال له:

اسمح لي أيّها النجّار المبدع أن أقدّم له مكافأة بسيطة، هي تعبير عن محبّتي وامتناني لما أنجزته من عمل رائع!

انفعل الدهّان، والحدّاد، وغضبا لأنّ ابن وديعة وحده سيحظى بمكافأة، لعبقريّته الفذّة، وثارت ثائرتهما، واتّهَما الغنيّ بالتمييز وسوء المعاملة، فقال الدهّان: أنظرْ إلى الباب كم هو أنيق! لو أنا تركته من غير طلاء، لكان أشبه بالعجوز. وصاح الحدّاد: ولولا القفل الذي وضعتُه أنا بإتقان، لبقي الباب مفتوحاً لكلّ دخيل، وتعصف به الرياح… لقد تعاونّا جميعاً في عملنا، وصَدّقْ يا سيّدي أنّني اشتريت القفل الذهبيّ من تاجر كبير في المدينة. وهو كما ترى، متين، ولو أعملتَ فيه مطرقة لما كسرته، فأنا أيضاً أستحقّ التقدير والعطاء.

وازداد صخب الرجلين، وكان ابن وديعة صامتاً، لكنّه في قرارة نفسه كان يشعر بالغثيان من مساواة يريدها بعض البشر في كلّ شيء، فهم يحشرون أنوفهم أيّما حشر، ويستغلّون كلّ فرصة ممكنة للاصطياد في الماء العكر، وإذا فشلوا في الحصول على سمكة واحدة، فهم يرفضون أن يكونوا في مرتبة أقلّ من مرتبة صيّاد تمكّن بمهارته وعبقريّته أن يصطاد حوتاً.

طلب صاحب المنزل من الدهّان والحدّاد أن يهدآ، ليفكّر كيف يستطيع البتّ في القضيّة المعقّدة. وبعد أن حكّ رأسه: قال لهما: أنتما محقّان بالتأكيد… فقد أردت أن أكافئ النجّار بدينارين، ليس لديّ الآن سواهما، ولكنّني أتذكّر أنّني خبّأت في جرّة من الفخّار أربعة دنانير، فيا للمصادفة الرائعة! سأعطي كلّ واحد دينارين، فتستقيم العدالة… هل أنتم راضون؟

نظر الثلاثة بعضهم إلى البعض، وهم معجبون بحكمة الرجل واتّزان فكره… ولم يعترض ابن وديعة على ما حدث، والتفت إليه ربّ المنزل كأنّه يريد أن يعرف ما هي ردّة فعله، فكانت ملامحه طيّبة وهادئة، وقال: إنّني راض يا سيّدي كلّ الرضى. فقد حصلت منك على أتعابي من غير زيادة ولا نقصان، كما أنّ مكافأتي بدينارين هي من فضلك عليّ، لا من فضلي عليك، ولم أخسر درهماً واحداً عندما أخذ الدهّان والحدّاد مثلما أخذت.

وبينما كان العاملون الثلاثة يمدّون أيديهم ليحصل كلّ واحد منهم على دينارين، قال صاحب المنزل مخاطباً الدهّان والحدّاد: لقد خطر في بالي أيضاً، أن أكافئ النجّار مرّة ثانية بمئة دينار، لأنّه لم يعترض على عطائي لكما، مثلما اعترضتما على عطائي له… وقد رأيتما وسمعتما كم هو على قدر كبير من النبل والاحترام لإرادتي.

ونادى صاحب المنزل إلى خادمه قائلاً: هيّا شهْبَنُور إلى المصرف، وجئني بمئة دينار لأغدق بها على ابن وديعة النجّار.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني 2022

اترك رد