الشطي حول كتابه “جذور الثقافة في المنطقة العربية”: الهدف منه تكوين صورة ذهنية واضحة عن ثقافتنا وتاريخها

 

عرض نائب رئيس مجلس الوزراء السابق في الكويت عضو الامانة العامة للمؤتمر القومي العربي وعضو مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية الدكتور اسماعيل الشطي،  بدعوة مشتركة من “دار الندوة” في لبنان ومؤسسة “محمد عابد الجابري للثقافة والفكر” في المغرب، كتابه الموسوعي “جذور الثقافة  في المنطقة العربية، عبر الفضاءالافتراضي ” بمشاركة العديد من المفكرين والمثقفين من مختلف الأقطار العربية.

افتتح اللقاء رئيس  مجلس ادارة “دارالندوة” بشارة مرهج بكلمة ترحيبية باسم الدار ومؤسسة الجابري، شاكرا المحاضر والحضور، لافتا الى “خبر سار هو ان مركز دراسات الوحدة العربية قد نال جائزة افضل ناشر عربي في معرض القاهرة الدولي للكتاب ، وهو المركز الذي أصدر الكتاب الموسوعي للدكتور الشطي”.

ثم ترأس الامين العام لمؤسسة الجابري خالد السفياني رئاسة الجلسة، لافتا الى مناقشات بدأت منذ سنوات مع الدكتور الشطي حول كتابه الموسوعي “الذي يشكل اضافة نوعية للتراث الفكري والثقافي العربي”، مشيدا ب”التكامل الثقافي بين المشرق والمغرب يمثله التعاون بين مؤسستين ثقافيتين هامتين هما “دار الندوة” في لبنان ومؤسسة “محمد عابد الجابري” في المغرب”.

ثم عرض الشطي لكتابه، مستهلا بتحيةالحضور في هذه الندوة الافتراضية، وقال:”الهدف من هذا الكتاب تكوين صورة ذهنية واضحة عن ثقافة أهل المنطقة العربية وتاريخها، بدءا من أقدم العصور الأركيولوجية حتى العصور المتأخرة.  ولهذا فهو يقدم سردا تاريخيا مخالفا لنظرية التقدم الاجتماعي، التي قال بها جان جاك روسو وكوندورسيه وأوجست كونت، والتي شكلت الإطار الفكري أو الإدراكي للكتابة التاريخية في العصر الحديث”.

أضاف:” هي نظرية ترى المجتمع البشري يسير في خط متصاعد ارتقائي، مما يترتب عليها القول ببدائية ووحشية أجدادنا الأوائل، وإذا كانت هذه النظرية تكاد تنطبق على الأمم الأوروبية المعاصرة، التي كانت بدائية ومتوحشة قبل ألفي عام، فإنها لا تنطبق على أجدادنا في دلمون وملوخا ومجن وسبأ، ولا في سومر وأكد وبابل وأوغاريت وماري وملطية، ولا في منف وقرطاجنة وغدامس وهيبو”.

وأشار الى ان السرد الذي نتبناه يقوم على مجموعة معطيات:
1) أن عمر الإنسان العاقل كما قدره الأنثروبولوجيين والاركيولوجيين يزيد قليلا عن مائتي ألف سنة، وأن جنوب الجزيرة العربية هي من أقدم مواطنه.
2) أن الفترة الزمنية التي تواجد فيها الإنسان العاقل كانت في العصر الجليدي المسمى عصر البليستوسين، وهو عصر كانت فيه مناخ الجزيرة العربية رائقا وطبيعتها خضراء تزخر بالغابات والأنهار والبحيرات العذبة والعيون المتدفقة، وتغطي حشائش السافانا أراضيها المفتوحة.
3) أن الإنسان العاقل بنى مدنه وأريافه في المناطق الواطئة، الوفيرة بالمياه العذبة، ذات الطقس المعتدل، وبعيدة عن مواضع البراكين والزلازل، وبعيدة عن مواطن قطعان المتوحشين البهيميين الذي يغيرون على القرى والأرياف والمدن.
4) مع بداية عصر الجفاف المسمى الهولوسين إرتفع منسوب مياه البحار بالكرة الأرضية إلى عشرات الأمتار، وأدى ذلك إلى غرق المناطق الواطئة في العالم وتحولها إلى بحار وخلجان، وفي هذا العصر خسر الإنسان العاقل مدنه وقراه التي بناها، وأصبحت حضارته تحت قيعان البحار، أو تحت الطين والوحل والحمأة.
5) بدأ الإنسان في المنطقة يبحث عن مناطق رائقة أخرى في الجوار، واتجه شمالا وجنوبا وغربا، وركب البحر ليبحث عن مناطق في حوض بحر العرب، على الشاطئ الأفريقي والشاطئ الهندي.
6) في هذا الوقت نشأت حضارات دلمون وملوخا ومجن وسبأ في جنوب وشرق الجزيرة، والعبيدية وسومر وأكد وأوغاريت وماري في شمال الجزيرة، وحضارات وادي النيل والشمال الأفريقي.
7) ضمن هذا السرد يؤكد الكتاب أن هناك ثقافة مشتركة بين كل تلك الحضارات، ونعني بالثقافة التالي:

أولا – المنظومة المعرفية التي تشكل التصورات والعقائد والأفكار، حول الإله والكون والحياة والإنسان، وتنظيم علاقاتهم المتداخلة، بمعنى علاقة الإله بالوجود، وعلاقة الإنسان بالإله، وعلاقة الإنسان بالحياة والكون، وهكذا.
ثانيا – المنظومة الأخلاقية، من قيم على مستوى الفرد والمجتمع والسلطة، ومن موازين الخطأ والصواب، أو الحسن والقبيح، والمعروف والمنكر، ومن مسطرة معيارية تنظم عمل الضمير الحي داخل الكيان الإنساني.
ثالثا – المنظومة التعبيرية، سواء التعبير من خلال الابداع بالكلمة والنغمة والرسم والرقم والألوان والإزميل والنحت والمسرح والتمثيل، أو التعبير عن الذوق في المسكن والمفروشات والاكسسوارات والأزياء وفنون التجميل وفنون الطهي.
رابعا- المنظومة العقلية، من تطوير نظم العد والقياس في الحساب والهندسة، ونظم الرصد والتأمل والاستنباط في العلوم العقلية، ونظم التجريب والاستقراء في العلوم التجريبية.

وقال:” لقد صنعت تلك الثقافة للعقل العربي مقوماته، والتي كانت إطارا مرجعيا لتفكيره وتعبيره، وهي كالتالي:
أولا – الإيمان بالغيب، ففي كل حضارات المشرق كان الإنسان يؤمن بعالم مشهود وعالم غير مشهود، فجعل العالم المشهود ميدانا لعقله يكتشف من خلاله أسرار محيطه المادي، بينما جعل عالمه غير المشهود مصدرا للإجابة على الأسئلة الانطولوجية والميتافيزيائية، كخلق الوجود، ومصير الحياة، وطبيعة الوجود الإنساني ووظيفته.
ثانيا – البحث عن السببية، حيث أدرك أن هذا الوجود المادي قائم على قوانين طبيعية ثابتة، تحكمها علاقات السبب والتأثير، والتي يمكن ملاحظتها من خلال الخبرة اليومية في تفسير الظواهر العلمية، وهذا ما دفعه لاكتشاف الكون حوله، ولعل المنجزات العلمية الرائدة التي حققها في تاريخه هي أقوى الأدلة على بحثه عن السببية.
ثالثا- تحكيم الضمير، نظرا لإيمان المشرقيين بالغيب، تحررت عقولهم من الاقتصار على قيد الحس، مما أسس له منطقا لا يحتله العقل وحده، بل تساهم فيه الفطرة والقلب، وذلك الذي أطلق عليه الضمير، والضمير هو قدرة الإنسان على الحكم على نواياه أو عمله بتقييمها وفق مقاييس الحسن أو القبيح، أو الصواب والخطأ، وهي منظومة قيمية جلبها له الدين، وجعل منها مسطرة معيارية في عقله المرجعي، وهي مسطرة ثابتة، لا تتغير أو تتبدل مع كل الأماكن والأزمان والظروف والمجتمعات.
رابعا – تكريس الأنسنة، وهو مفهوم ينطلق من الفوارق الضخمة بين الإنسان والوحش، مما دفعه لأن يجعلها وظيفته الرئيسية على الأرض، تلك التي تعتني بتكريس الخصائص الإنسانية، وترتقي بها، دون اعتبار لعرق أو لون أو جهة أو عقيدة، وتسعى لتحويل الوحشي إلى إنساني، بالتدجين والاختلاط والألفة والتدريب والتعليم والتزاوج، وتتجلى في نشاطه الروحي والاجتماعي والثقافي، ولقد ظلت ثنائية الإنسي والوحشي هي السائدة في العقل المشرقي، حتى حولته الديانة اليهودية إلى ثنائية جديدة هي المؤمن والكافر، وتبعتها الديانات التالية.

وتابع الشطي :” يبني الكتاب سرديته للتاريخ البشري على أساس الصراع، ولكنه ليس صراعا سياسيا بين الطبقات الاجتماعية كما قال ماركس، ولا صراع عرقيا بين الساميين والهندوأوروبيين كما قال جيمس بريستيد، بل هو صراع ثقافي بين الأنسنة والوحشنة، فلقد كان الإنسان في عصر الهولوسين يعاني من جوار المتوحشين، وهو جوار ولد صراعا، بين محاولات الإنسان أنسنة المتوحشين، ومحاولات المتوحشين وحشنة الإنسان، ولعل ملحمة جلجامش جاءت لتقدم صورة من تلك المحاولات في شخصية المتوحش (أنكيدو)، وهي صراع ثقافي بالدرجة الأولى، ويمكن تفسير التاريخ كله على أساس هذا الصراع.

هذا صراع تحدث عنه ديوان الأساطير السومرية، والألواح المسمارية والآثار المصرية والأوغاريتية، وكتب التاريخ الكلاسيكية والملاحم الإغريقية، ومرويات الإخباريين العرب، وكتب الديانات الإبراهيمية، ونتائج علوم الآثار، ولعل أشهرها شعبيا قصة ذي القرنين مع أقوام يأجوج ومأجوج.

وعليها تم قراءة تاريخ المنطقة على أساس الصراع الثقافي، منذ غزو الغوتيين عام 2215 ق م، غزو الحثيين ثم غزو والحوريين الميتانيين، ثم غزو الكاشيين، ثم غزو رجال البحر، وكان آخرها غزو الإخمينيين الفرس 559 ق م، وهو الأخطر، لأنه كان شاملا ومدمرا، فقد اكتسح غالب المعمورة، الأناضول وسورية وبلاد الرافدين ومصر
– كما تم قراءة الصراع مع الدولة الإخمينية الفارسية وفق فكرة الصراع الثقافي، صراع تمثل بنزوح كثير من المتحضرين بعائلاتهم وثرواتهم وعلومهم وفنونهم إلى مناطق لم يصلها الاحتلال الإخميني، مثل جزر البحر الإيجي وجزر البحر الأبيض المتوسط وجبال اليونان المنيعة والشمال الأفريقي.

ويرى الكتاب أن قيام حضارة في اليونان هو نتيجة لنزوح المشرقيين إلى تلك المناطق، كما يعتبر أن الوحدة الثقافية تمثلت بشكل واضح من خلال صور الدعم والتعاون بين المقاومين والثوار والمحاربين ضد الإخمينيين القادمين من جبال زاغروس ، سواء في اليونان وأسبرطة وبابل ومصر وليديا هو تعبير عن الوحدة الثقافية، كما يرى أن حملة الاسكندر المقدوني العسكرية هي حرب تحرير للمنطقة، استقبلها أهل المنطقة بالزهور والزغاريد والأدعية والصلوات.

لم ينته التحدي الثقافي بهزيمة الإخمينيين، فقد تركوا خلفهم ملايين البرابرة الذين استوطنوا مدن الشرق، وخالطوا السكان، مما أوجد ثقافة هجينة تدعو للفردانية والإباحية، ونبذ التكاثر والتوالد، وتجعل هدف الإنسان المتعة، وتعتبر الأسرة والدين والعفة قيودا ضد متعته، وعرفت هذه الثقافة زمن الرومان بالأبيقورية، وهو ما أضطر الأباطرة الرومان اصدار قوانين تحد من انتشارها.
يقرأ الكتاب تاريخ الديانات المشرقية في إطار الصراع الثقافي باعتبارها دعوات إصلاحية لتصحيح انحرافات المنظومة المعرفية وحماية الثقافة لتبقى نقية كما جاء بها الأب الأول آدم.

  • كما يعتبر قيام قسطنطين بنقل العاصمة الرومانية من روما إلى القسطنطينية هو جزء من الصراع الثقافي، فمع بداية القرن الرابع الميلادي كانت الغالبية السكانية في روما لصالح البرابرة والعبيد، ولم يكتف بالجدران المنيعة لحماية شعبه من الثقافة الغازية، بل أضطر لتغيير ديانة الشعب الصبائية لعجزها عن مواجهة هذا الغزو، واعتناق النصرانية لقدرتها الفاعلة على مواجهة الثقافة الدخيلة.

غير أن حماسة الأباطرة البيزنطيين في ضرب الثقافة الأبيقورية دفعتهم لفرض الديانة المسيحية بالقسر والإجبار، ومنع التدين بالديانات القديمة، وحرق كل كتبها ومدوناتها وكتباتها، وتحويل معابدها إلى كنائس، وإعدام رجال دياناتها، واعتبار كل التاريخ المشرقي القديم تاريخ وثني مدنس، وكل ثقافته ثقافة مدنسة.
وتم إعادة كتابة التاريخ وفق مرجعية الكتاب المقدس، ليصبح التاريخ التوراتي هو تاريخ البشرية، كما صار الفكر التوراتي يتحكم في ثقافة المسيحية، التي استبدلت ثنائية الإنسي والوحشي بثنائية المؤمن والكافر، ولا يكفي الإنسان أن يكون متحضرا لأن يحوز على حقوقه الإنسانية كاملة، بل لا بد أن يكون مؤمنا مسيحيا على المذهب الملكاني حتى يتم الاعتراف بحقوقه الإنسانية.
في هذا الوقت عاش المشرق أزمة مركبة، ففي شرقه الآسيوي دولة ساسانية تتوارث الثقافة البربرية، وتعتبر الرعية جزء من ممتلكات الحاكم، وفي الغرب دولة بيزنطية تفرض عقيدة على سكانها بالقسر والإجبار، وفي كلا الجانبين يفقد المرء حريته، ولم يعد هناك بقعة في المشرق التاريخي يستمتع المرء فيه بحريته سوى وسط الجزيرة العربية، ولعل هذا السبب الذي جعل هذه البقعة التي تنطلق منها الدعوة الإسلامية.

لم تكن المنطقة العربية مرتعا للجهل والأمية والبداوة والهمجية والتخلف، هذا تزوير للتاريخ كان وراءه ثلاثة فئات، أولها) الشعوبيون من الأعاجم، ثانيها) الملوك القرشيون في مواجهة المجد اليمني القحطاني ثالثها) الفقهاء المتأثرون بالفكرة التوراتية للتاريخ المقدس والتاريخ المدنس، لقد اشترك هؤلاء في تشويه عصر ما قبل الإسلام، بدعوى إظهار عظمة الإسلام الذي حول الهمج دعاة حضارة، ولما كان كتابة التاريخ شأن أهل الحديث، وكان معظمهم أعاجم، لذا ظهر العرب في كتب التاريخ بأسوأ صورة.
– يحاول الكتاب إعادة صياغة صورة العرب قبل الإسلام، وفق ما ورد في المصادر الآشورية واليونانية والرومانية واليهودية والمسيحية، ليكشف الرفاه والثراء الذي كان يعيشه سكان المنطقة، والنشاط الاقتصادي المتنوع، والصناعات الكثيرة، والأسواق الإقليمية المعروفة، والنشاط الثقافي، ويستل من الأجواء القرآنية أصالة ثقافة الكتابة والتدوين والحساب عند العرب.
-جاء الإسلام بمهمتين، الأولى: ليصحح التصورات والمعتقدات حول الله والإنسان والكون والحياة، ويعيد بناء الثقافة المشرقية من جديد، ويقول القرآن أنه يعيد الثقافة إلى أصلها كما جاء بها آدم، وهو نفس التصحيح الذي قام به كافة الأنبياء، بل هو نفس التصحيح الذي قام به موسى وعيسى، ولهذا استغرق نزول القرآن المكي 13 عاما ليقوم بهذه المهمة، أما المهمة الثانية فهي تحرير نطاق الثقافة المشرقية من القهر والاستعباد، وتوفير حرية المعتقد لكافة الناس، وإتاحة الفرصة للناس جميعا ليستمعوا إلى الدعوة التصحيحية الجديدة (الإسلام).

  • يؤكد الكتاب أن الديانات الإبراهيمية جاءت بثقافة واحدة، لكن أتباعها هم من يقومون بتغييرها، ويبدأ التغيير عندما يبدأ بالتفريق بين الإنسان وأخيه الإنسان، إذ يعتبر أن الحقوق الإنسانية لا تحق إلا لأتباع ديانته، ومن ليسوا في دائرته فلا حقوق لهم، أو لهم حقوق منقوصة، وهو التفكير الملي الذي حصر أتباع الديانة في دائرة مغلقة، وفرض عليهم نسقا معيشيا ودينيا حتى يحق لهم الانتماء للدائرة، وبهذا يتحول العالم الإنساني إلى دوائر مغلقة تتراجع فيه صفة الإنسان.
  • لقد قدمت بالكتاب صورة الإسلام الناصعة التي قدمها القرآن والسنة النبوية، ثم أخذت أتقصى عملية حرف الإسلام عن مساره القرآني، وقد كان ذلك بتأثير المسلمين الجدد القادمين من الملل المختلفة في الأقطار المفتوحة، وأظهرت تأثير مسلمي اليهود والمسيحية، وتأثير الصراع القبلي بعد عصر الصحابة، وتأثير السياسية في إعادة صياغة الإسلام خلال العهدين الأموي والعباسي، وخلال هذا العرض تتبعت قضايا تفصيلية، تكم أهميتها في أثرها في حرف الإسلام عن مساره.

وختاما، كانت مناقشة شارك فيه الحضور.

اترك رد