جاءني قوم برجل كافر وأرادوا أن يقتلوه أمام المعبد، فنهرتهم ومنعتهم أن يؤذوه، ثمَّ سألته: لماذا أنت كافر يا بنيَّ؟
فقال: لست بكافر، ولكنَّني أصلِّي لإله لا يشبه إلههم. فسألته: ومَن هو الإله الذي تعبده؟
فقال: إنَّني أعبد إلهاً وجدته بقناعة نفسي، وأتضرَّع إليه بملء قلبي وجوارحي، وأعمل الخير بين الناس، فأطمئنُّ إلى حياتي وآخرتي.
ثمَّ سألت القوم: لماذا تحكمون على هذا الرجل بالموت؟ فأجابوا غاضبين: لقد خالف شريعتنا وخان أمانتنا، فهل نُبقي عليه حيّاً؟!
صرخت بهم قائلاً: سامحكم الله أيُّها الأحبَّة الجاهلون. أفلا تعلمون أنَّ هذا الرجل الذي تضطهدونه قد خالف شريعتي أيضاً، ولعلَّ دينه لا يشبه ديني؟ غير أنَّني لا أعاقبه، بل أستقبله في معبدي، وأقدِّم له الطعام والشراب، وأدعوه لكي يحضر العيد فيفرح قلبه ويتهلَّل.
-وعلى ماذا أنت أمين إذن أيُّها الكاهن؟ إنَّك أيضاً تخالف الشريعة، وتتنكَّر للديانة.
-كلاَّ أيُّها الأبناء، فإنَّ الغضب الذي يتملَّك في أفئدتكم هو الذي يدفعكم إلى القتل والعقاب، وإنَّني لأسالكم واحداً واحداً: مَن منكم كان قاضياً أو حاكماً بالعدل في أيِّ زمن؟ ومَن منكم حصل على توكيل من الله لكي يدافع عنه ويعاقب مَن يخالفونه؟ ومن أيِّ محكمة حصلتم على حقِّ المرافعة والإدانة؟ انظروا إلى الطيور كيف تسبِّح الخالق وليس لها كتاب، وانظروا إلى الشجرة كيف ترفع ذراعيها وتتضرَّع للإله الحبيب، وانظروا إلى الأمواج كيف تتلو صلاتها الأبديَّة، وهي لم تدخل يوماً إلى معبد، ولا تعرف الركوع… إنَّ الله يحبُّ عبادتكم ويقدِّس وجودكم، وعليكم أن تحبُّوه من غير أن تطلبوا منه شيئاً في المقابل، فالمعابد ليست أمكنة للبيع والشراء. وإذا رأيتم أنَّ الناس يحبُّون الله، ويَصِلون إليه من الطريق التي لا تسيرون عليها، فلا تلعنوهم… لأنَّهم إخوة لكم في الدين وأنتم لا تعلمون. وقد يكون الله راضياً عنهم أكثر ممَّا هو راض منكم ومن عبادتكم. إنَّ الله لا يريد منكم دينكم بل يريد إيمانكم.
امتعض القوم منِّي، وشهروا سيوفهم يريدون أن يجهزوا على الرجل،
وهو ساكن وكئيب، فأسرعتُ ووقفت بينه وبينهم، وقلت لهم بصوت عالٍ: أعيدوا سيوفكم إلى أغمادها، وإلاَّ فعليكم أن تقتلوني قبل أن تقتلوا رجلاً بريئاً. وإنَّكم لن تذهبوا لتعاقبوا آلاف البشر الذين يعيشون في الغابات ويعبدون الشمس والقمر والأشجار. وقد جعَلنا الله مختلفين لحكمة منه، فإذا جاهدنا لكي يكون جميع الناس أمَّة واحدة خالفنا تلك الحكمة وعارضنا إرادة الله. وصدقاً أقول لكم أيُّها الأبناء المتعصِّبون لدينكم إنَّه لو جاءني أحد إلى هذا المعبد وأنكر وجود الله أمامي، لما غضبت منه، ولما أسأت إليه، بل لأخذته باللين، وحاولت أن أقنعه بخطإ رأيه، فإذا اقتنع يكون اقتناعه ولادة ثانية له، وإذا لم يقتنع لا ينبغي أن يكون عناده موتاً. أمَّا الحكم على الإنسان فلا يصدر عن أناس يصيبون ويخطئون، بل يصدر عن الإله العادل الذي يصيب ولا يخطئ.
لقد أرسل الله إلينا أنبياء كثيرين لحكمة منه، وكان يمكنه أن يرسل إلينا نبيّاً واحداً، ويقول: اتبعوه، فنكون على دين واحد ولا نختلف. أمَّا اختلافنا على الأنبياء ومَن منهم هو الأفضل، فقد جعلَنا ضحايا لمجازر مرعبة وحروب دامية. ونحن في هذه الناحية دفعنا ثـمناً باهظاً لحرب عبثيَّة ما زال دخانها يتصاعد في الفضاء.
نظر القوم بعضهم إلى الآخر، وأعادوا سيوفهم إلى مواضعها، ثمَّ تفرَّقوا وهم يتهامسون. أمَّا الرجل، فخرَّ ساجداً على أدراج المعبد، وقال لي: قل لي يا سيِّدي مَن هو الإله الذي تعبده، فإنِّي أحبُّ أن أعبده مدى الحياة.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي – سيدني