مريم رعيدي الدويهي تكتب: الشاعر د. جميل الدويهي في قصيدته “كيف نستعيد الأرض؟”… لوحة ملحميّة مرسومة بحبر الغضب

 

إنّه الأديب الجميل، في نثره وشعره، وفكره. في طاقته المتجدّدة، يمشي إلى الأمام، ويتبع النهر الذي لا يذهب إلى مكان، راكضاً يكسر حاجز الصمت، إلى مدينة الخلود، مدينة يتحرّر الإنسان فيها من أصفاده الثقيلة.

جميل الإهدنيّ، من جبال النسور، يعيش همّ إنسانه، في غربته البعيدة، فكيف يقولون إنّ للسفر جوزاً، وتأشيرة، وموعداً للوصول؟

كيف يقولون إنّ ابن الأرض انفصل عن أرضه، عاش بعيداً مع أسراب الطيور المهاجرة، ونسي أرضه وسهله وقمحه، وتفّاح الجبال على سفوح القرنة السوداء؟

الشاعر الذي لا يغيّر في العالم يكتب حبراً على ورق. هذا ما يؤمن به الجميل – الظاهرة، التي حيّرت الناس، فمَن هو؟ وما هُويّته الأدبية؟ وبكم لغة يكتب؟ ترى أهو يسرق من هنا وهناك؟ أم تزوره جنيّة عبقر، فتنام في سريره، وتترك له عند الصباح وردة الشعر والنثر والفكر، ومعجزة التحدّي؟

هل تعرفون إنساناً غير جميل، يكتب بلغات متعدّدة؟ ففي كل قصيدة لغة تختلف عن الأخرى، بعضها بسيط ورقيق، وبعضها غاضب، وبعضها الآخر فيه غموض، وبعضها سلس كأوراق الحبق في شبّاك عتيق. وكثير منها فكر رمزيّ- واقعيّ يقول أشياء كثيرة، ويجهد المتلقّي في الوصول إلى أبعاده…

***

أسمعَني جميل هذه القصيدة، فطربت وانفعلت معه، وعندما ختمها بالقول: “فكيف يرجع الفرسان من غيابِهِم؟

وكيف نسْرُج الخيولْ؟

وكيف نلحقُ الضياءَ

والظلامُ في أرواحنا

ولا يزولْ؟

وكيف نستعيد الأرض من أعدائِنا

ونحن بعدُ لم نُحرّرِ العُقولْ؟”

صفّقت من غير أن أشعر. صفّقت من قلبي… لهذا الإحساس، وهذه الأصالة في التعبير عن الجرح، وعن الكارثة التي تحيط بنا من كل جانب.

وإذا كان نصف العرب شعراء الآن، ويعتقدون أنّ كلّ ما يُكتب هو قصائد، فقصيدة جميل هي المعيار للشعر الشعر، كيفما كتبها يصيب الهدف منها، وبكلمات قليلة يختصر عالماً… وينقل إلينا أفكار كثيرين لا يستطيعون الحديث عن أحوالهم… فمقيّدون نحن، وضائعون، وأفكارنا تبلبلت لكثرة الطوائف والأحزاب والانتماءات الضيّقة. نسينا الإنسان الذي فينا لنعبد الإنسان خارج ذواتنا، ونفضّله على أنفسنا. وسيف تيمورلنك هو سيف الغرب والشرق معاً، لا يأخذ إجازة، بل يمضي في تقتيلنا، والحقيقة أنّنا نقتل أنفسنا، في عملية انتحارية لا تستهدف الغير، بل تحوّلنا نحن إلى ضحايا مساكين.

نحن مدن منكوبة تساقطت عن جسر الأمجاد، لتصير أطلالاً دارسة، يبكي عليها امرؤ القيس والحطيئة والنابغة الذبياني… أفلا نرى كيف أن بعض الناس في المدينة ذاتها – سدوم وعمورة العصر الجديد- يعبد الاصنام، ويرفع بذيئي الكلام والساقطين إلى مرتبة تفوق الآلهة؟ وكيف أن الكثيرين يجوعون ويعطشون ويشتهون حبّة دواء، لكنهم يصفّقون ويرقصون كلما مرّ الزعيم في الطريق، وينزلون إليه بالمزامير والطبول؟  ألم نسمع مَن يلطمون وجوههم ويذرفون دموع التماسيح على النكبة والشعب المنكوب، لكنْ حذار من المسّ بالزعيم، أو الحزب أو العشيرة، وكأنّ مَن أذاقوا الشعب ألواناً من العذاب هم من كوكب آخر، أو كأنّ الذين يذرفون الدموع ممثّلون بارعون يستجدون العطف، ثمّ تنكشف وجوههم عند باب القائد الملهم، وفي ساحة نجدته.

نعم أيّها الدويهي: كيف يعود طارق بن زياد من غيابه وغيبوبته، في وطن لا خيول فيه نسرجها، ولا أبطال يجرّدون سيوفهم كالشمس، حقيقة في وجه الزيف، وعدلاً في وجه الباطل؟

أعتذر منك أيها الشاعر إذا كنت أكتب نثراً عن قصيدة يجب أن يُكتب عنها فقط بلغة الشعر، لكنّها في الوقت ذاته أسهل من النثر، وأقوى من العاصفة، ولا تحتاج إلى كثير من العناء لفهم أبعادها… إنّما هي لوحة ملحميّة مكتوبة بحبر الغضب، وأنت كاتبها الرسوليّ الذي يصرخ في البرّيّة، وقد تأخّرنا عن سماعك… تأخّرنا كثيراً، فنحن منشغلون بالعنعنات، والسخافات، والتطاحن الأعمى على أمجاد زائلة، والمطلوب واحد، أن نحرّر العقول أوّلاً، وبعدها يمكننا أن ننتصر في معركة الأرض… والكرامة.

اترك رد