مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان”/  الورقة 6: الأديبة أوجيني عبود الحايك – أميركا تكشف عن كتاب جديد لها بعناية أفكار اغترابية: أفكار اغترابيّة حاضنة اللغة الأم، نهضة راقية غير مسبوقة تتميّز بالتنوع…

 

 

انطلق  مؤتمر “النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” الذي ينظمه  مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي-سيدني ، منتدى لقاء – لبنان، بستان الإبداع – سيدني. يصدر عن المؤتمر كتاب من جزءين او ثلاثة، يضم جميع الأوراق المشاركة، وترسل نسخ منه إلى المشاركين والمكتبات والكبرى. يعقد المؤتمر حضوريا في جلسة واحدة، فور انتهاء الأزمة الصحية، وتقرأ مختصرات الأوراق بالنيابة عن المشاركين المقيمين خارج أستراليا.

في ما يلي  الورقة  السادسة: الأديبة أوجيني عبود الحايك – أميركا تكشف عن كتاب جديد لها بعناية أفكار اغترابية: أفكار اغترابيّة حاضنة اللغة الأم، نهضة راقية غير مسبوقة تتميّز بالتنوع…

 

عندما يضيق بنا أفق الوطن، نفتّش عن أفق جديد يشبه أحلامنا وتطلّعاتنا… يحرّرنا من براثن الأسر، نوضّب حقائبنا، ننظر نظرة أخيرة شاملة، كأننا نصورّ اللحظة لتكون جرعة دواء كلّما ضاقت بنا سبل الحياة أو غلبنا الشوق، كلّما اشتدّت العاصفة وعمّ الظلام… لكن مهما ابتعدنا يبقى وطن الجذور يرافقنا، نحلم بزواياه، بأرزه، بسنديانه، بدفء شاطئه، نحلم بالجلوس على مصطبة منزل قديم يعانق السكون، ونعانق في هدوئه الذكريات التي ترقد في حنايانا، تتوق إلى غمرة اللقاء بعد طول غياب… سفينة الأحلام عندما ترسو على برّ الأمان تجعلنا نصطدم مع الواقع، تشعرنا بالمسؤوليّة، نكبر فجأة، نفكّر بموضوعيّة، نعيش خلالها فصول العمر الحلوة والمُرّة…

لم أكن أغفو بدون كتاب تحت وسادتي أتصفّحه قبل النوم، حتّى كتب أولادي المدرسيّة كنت أطالع فيها، وكم كان يسعدني الجلوس بجانبهم ومشاطرتهم قراءة الصفحات كيّ أحفّزهم على القراءة… لطالما كان اليراع رفيقي الدائم… كنت أخط الرسائل لأهلي في غربتي، لكنّها كانت تسيل دموعهم، فأخذت القرار بأن أتوقّف عن المراسلة، وبدأت أهاتفهم علّني أفرحهم بسماع صوتي، بدل حبر الشوق الحزين الذي تفيض به محبرتي… ابتعدت عن الكتابة، كرّست وقتي لعائلتي، لكنّها كانت تسكنني إلى درجة تزورني في الحلم…وكنت أتلهّف لزيارتها، كنت أركض مع الأوراق، أجلس في زاوية هادئة أتصفّحها حتى يبدأ الفجر يتسلّل كالسارق وتختفي أوراقي فجأة وتعود إلى الصندوق المقفول… كَمّ وكَمّ تساءلت عن هويّة الروح، ومَن نحن في هذه الحياة؟ كيف ولماذا تستهوينا الفنون؟ لماذا نعشق رسم الحروف؟ لماذا يخطفنا المغيب؟ لماذا نختلف؟ لماذا نتقارب؟ ولماذا نعيش هذا الصراع؟ والإجابات تبقى مبهمة، تتركنا نتكهّن، نتوهّم معرفتها للحظات خاطفة…

مرّ العمر سريعًا كان نفس الحلم يراودني، كنت في لاوعي أتوق إلى العودة إلى عالمي الخرافي الذي كنت أدخله مع أبجدية لطالما افتخرت بها، وأضأت عليها في غربتي. كنت كلّما تواجدت في مجتمع أجنبّي، أخبرهم بأنّ الفينيقيين هم من ابتكرها على شاطئ مدينة جبيل الأثريّة العريقة، التي تجاور بلدتي… أرددها بفخر، وتحفر الوطنيّة حروفها على جبيني. قلة من الأصدقاء في غربتي كانوا يشاركونني شغفي الأدبيّ، كنت أغرّد خارج سربي، حتى شاء القدر أن يفتح لي بابه الرحب. بدأت حركة التواصل الاجتماعي تنشط بطريقة غير مسبوقة، قرّبت المسافات وشرّعت الأبواب… بدأت أمسك بيراعي من جديد، وكان الحبر قد تعتّق عبر السنين، وأخطّ على دفتر أهدتني إيّاه ابنتي، وأصبح الليل زورقي… وطفقت كلماتي تلقى حفنة من الصدى… وكان قلبي يخفق بقوة مع كل تعليق من أبناء بلدتي الذين غمروني باهتمامهم، ومتابعتهم وتقديرهم، فوقّعت كتابي الأوّل “أرجوحة الذكريات” في ذاكرة بلدتي الحبيبة عمشيت في الأول من أيلول عام ٢٠١٧ محاطة بأبنائها الكرام وبأهلي وروح أبي… شعرت ذلك اليوم وكأنّني نورسة عائده إلى شاطئ الحنين الدافئ. من أروع الصدف التي حظيت بها عبر شبكة التواصل الاجتماعي دخولي ”أفكار اغترابيّة”، هذا الصرح الأدبيّ الكريم والمشاركة مع نخبة من الأساتذة الكبار، من الأكاديميين والأدباء والشعراء المتميّزين الشغوفين بالكلمة وأبعادها وبحورها… حيث الاغتراب أصبح قلب الحدث، وأصبح الوطن رسالتنا، نكتبه، نتغنّى به، نبكيه، نرفعه باتجاه الضوء، ندافع عنه، نضيء على الظلم والفساد والوجع، أصبحنا رسل كلمة، رسالتنا الحفاظ على لغتنا والتعمّق بها والإضاءة عليها وعلى كل الذين يبذلون جهدًا كببرًا من أجل كلمة حرّة، رائدة، مغمّسة بحبر التميّز، وبتبر الحنين… حظيت بجائزة الأديب د. جميل الدويهي “أفكار إغترابيّة” في حفل اقامه نادي الشرق لحوار الحضارات في صرح بلدية سن الفيل، تكريماً لوفد أفكار اغترابية القادم من وراء البحار، في الثاني والعشرين من آب عام ٢٠١٩ في لبنان، وشاركني الوفد في توقيع كتابي الثاني ”ذاكرة الحنين” في الحادي والثلاثين من شهر آب عام ٢٠١٩ في حفل ترك أعمق الأثر لدى الوفد، وإن دلّ فعلى رقيّ بلدتي وكرمها، وتفانيها وذوقها الرفيع، وشغف أهلها بالثقافة والعلم.

“أفكار إغترابيّة” حاضنة اللغة الأم، مؤسّسها الدكتور جميل الدويهي في سيدني أستراليا، نهضة راقية غير مسبوقة تتميّز بالتنوع، لا تهمّها المنافسة بقدر ما تهمّهما النهضة الكبيرة، التي تكنز المكتبات وتستغل الوقت المهدور لتترك بصمة خالدة تحمل اسم وطننا… نستمر ّ مع أفكار إغترابيّة، نتعاون معها، وقريبًا بإذن الله يبصر كتابي الثالث النور معها، وسأوقّعه تحت سماء بلدتي الغالية حيث يفوح الياسمين من عبق طفولتي، وحين يتوارى الضباب القاتم وتنقشع غيوم الهمّ والوجع التي تعبر في سماء الوطن، فتُقرع أجراس الفرح، وتعود المهرجانات إلى الساحات ويعزف في الذاكرة نشيد بلدتي البهي. أفكار إغترابيّة كريمة، حوّلت فصول الغربة الجرداء إلى واحات خصبة، نتنفّس معها هواء شواطئنا، تنهل من فلسفتها، تحفّزك، فتتعمّق بقراءة أدب رفيع متنوّع، يشبه حديقة غنّاء تدخلها، تدهشك روعتها وعبير أزهارها… ألوانها متعدّدة، دمغة، بصمة ستبقى على رفوف العمر، لا يفرّقها اللون أو العرق والدين. هذه النهضة الأدبيّة تتميّز بالانفتاح ورقي التعامل، تشع في سماء الغربة، تتواصل مع أدباء وشعراء الوطن الأم والعالم العربيّ، تنشر الثقافة، وتجتهد إلى حدّ الثمالة… يا لروعة هذا الشغف الأدبّي الذي يلوّن سطور الحياة حتى في أيام القحط والعتمة!… فنحلّق مع اليراع في أثير خاشع، نختبر الروحانيّة، نتجرّد عن الماديّات، نرتدي عباءة بيضاء نورانيّة تدهش العتمة، فتتوارى… الكلمة هي النور، هي مرآة الروح ومفتاح الخيال، هي الأرض المعطاء، أرض الخير التي تثمر وتعطي بدون منّّة، لأنها أرض الأصالة… مهما أقفلنا الصفحات فهناك دومًا صفحة بيضاء لا تُففَل، لا تعرف الحقد والضغينة، شغوفة بالحبر… تنتظر خرطشاتنا، كما تنتظر الأرض تناثر الثلوج البيضاء لتحيك من نتفها ثوب عرسها الأسطوريّ … عرس الأبجديّة التي وإن ارتحلنا، باقية، تزهر مع الأجيال.

***

*غداً 16-1-2022 ورقة الأديبة كلود ناصيف حرب.

 

 

 

 

اترك رد