يحتار المرء فعلاً، عندما يُطلق عليه لقب، ويشعر بالإحراج في كثير من الأحيان، بسبب ارتباط الألقاب تاريخيّاً بفترة من الحكم العثماني، شاعت فيها ألقاب تطلق على المقربين أو المرضيّ عليهم من السلطنة. وتلك الحقبة بما تركته من إرث مدمّر على بلادنا العربية، ما تزال تداعياتها تتردد حتى الآن، وما تزال بعض الألقاب التي درجت في العصر العثماني شائعة في بلادنا. لكنني أرى ان الأدب يختلف عن السياسة، والألقاب التي تُعطى في الأدب لا تفسد للود قضيّة، فهي بمثابة هدايا تقدير يتكرم بها معجبون أو نقاد أو أكاديميون، ومن الصعب أن يرفض المرء هدية، ويقول لصاحبها: لا أريدها.
يمكن أن يقبل الأديب عربون محبّة، ويتركه في بيته، ويمكن له أن يعرضه في عين الشمس ليراه الناس، وفي الحالين ليس هناك من عيب، كما ليس من عيب، في تقديم الدروع والجوائز، وهي رموز محبّة، ينبغي الإضاءة عليها، لا التشهير بها أو بأصحابها.
وفي رأيي المتواضع أن الجائزة أو الدرع مرآة لنبل المعطي، وانعكاس لروحه الشفافة، لا قنبلة نووية تهدد الحضارة.
وإذا عدنا إلى تاريخ الأدب، وجدنا مئات الأدباء، كانت لهم كنية أو لقب، لا يخفونهما عن العيون والأسماع، بل يتباهون بهما، وهذا دلالة أكيدة على أن الألقاب محبّبة، وليست نقيصة أو إهانة. لكن حذار من ألقاب مضخمة تعطى لأناس لا يستحقونها، فيتساوى العبقري مع المبتدئ، والأديب المبرّز مع من يكتب قلّة الأدب.
في عصر ما قبل الإسلام، كان امرؤ القيس، جدّ الشعراء وقائدهم إلى النار، يلقّب بالملك الضلّيل وذي القروح. وكان النابغة الذبياني لقباً للشاعر زياد بن معاوية ابن ضباب الذبياني الغطفاني المضري، ولا يزال الرجل يعرف بلقبه أكثر من اسمه حتى يومنا هذا، واتخذ لقب النابغة أيضاً شعراء آخرون مثل النابغة الجعدي، والنابغة الشيباني… واتخذ الأعشى، وهو ميمون بن قيس بن جندل، لقبين: الأعشى لأنه كان ضعيف النظر، وصناجة العرب لأنه كان يغني شعره مع الصنوج. ولقب بالأعشى أيضاً شعراء آخرون، أشهرهم أعشى باهلة (عامر ابن الحارث بن رباح)، وأعشى بكر بن وائل، وأعشى بني ثعلبة، وأعشى بني ربيعة، وأعشى همذان، وأعشى بني سليم وهو من فحول الشعراء في الجاهلية. ولقبت الخنساء بهذا اللقب لقصر أنفها. كما لقب تأبط شراً، وهو من الشعراء الصعاليك، بهذا اللقب، لأنه تأبط رأس الغول (من الرواية).
ونخرج من عصر ما قبل الإسلام إلى العصر الأموي، فنصادف الأخطل غياث بن غوث التغلبي، الذي لقب بالأخطل لطول أذنيه، ونرى أيضاً عبدالله بن قيس الرقيات الذي أحب عدة نساء كان اسمهنّ رقيّة، فعرف بهنّ، ونمرّ بالفرزدق ذي الوجه الضخم، وبمجنون ليلى قيس بن الملوح، وقصة لقبه معروفة، ويطلّ علينا ذو الرمّة، والرمّة هي قطعة حبل كان يضعها على كتفه، فعرف بها…
ونعبر إلى العصر العباسي، فنذهب لنزور البحتري، أي قصير القامة في لغة العرب، وابن الرومي الذي كان والده من الروم وأسلمَ، وديك الجن الحمصي الذي سمي كذلك لاخضرار في عينيه، وأبي نواس، والنواسة هي الذؤابة المتدلية من الرأس، والمتنبي الذي ادعى النبوءة، وأبي تمام الذي يتمتم في كلامه، وأبي العلاء رهين المحبسين…
وفي عصر النهضة، يطالعنا أحمد شوقي أمير الشعراء، وخليل مطران شاعر القطرين، وسعيد عقل، الشاعر الصغير، وهو لقب أطلق على الشاعر في سن مبكرة، ثم زال عنه بحكم تقدّم السن، وبولس سلامة أيوب القرن العشرين، وأمين الريحاني فيلسوف الفريكة، وإيليا أبي ماضي شاعر المهجر، وجبران خليل جبران النبي، وميخائيل نعيمة ناسك الشخروب، وطه حسين عميد الأدب العربي، وفؤاد سليمان الذي لقب نفسه بتمّوز، والأخطل الصغير بشارة الخوري، والشاعر القروي رشيد سليم الخوري، وحافظ ابراهيم شاعر النيل، وشبلي الملاط شاعر الأرز، ومحمد مهدي الجواهري أبي الفرات، ومحمود سامي البارودي شاعر السيف والقلم، وفدوى طوقان خنساء القرن العشرين، وبنت الشاطئ عائشة عبد الرحمن، وباحثة البادية ملك حفني ناصف، وبدوي الجبل محمد سليمان الأحمد، وأبي القاسم الشابي شاعر الخضراء…
وفي الشعر العامي شاعت أيضاً الألقاب: زغلول الدامور، شحرور الوادي، وليم صعب أمير الزجل، موسى زغيب الملك…
خاتمة
بعد كل هذه الجردة التي أسقطنا العديد من الأسماء منها، تفادياً للسأم والملل، هل يمكن اعتبار اللقب عورة من عورات الدهر؟ ولماذا تشيع في الفن ألقاب مثل موسيقار الأجيال، كوكب الشرق، الشحرورة، العندليب الأسمر، الكروان فايزة أحمد، وقيثارة الشرق نجاة الصغيرة… وعميد المسرح يوسف وهبي، ووحش الشاشة فريد شوقي، والزعيم عادل إمام، وسلطان الكوميديا سعيد صالح، والسندريلا سعاد حسني، وسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة إلخ… ويخاطب الإعلام هؤلاء الفنانين بألقابهم ولا يحرجهم ذلك، ليكون الإحراج فقط في الأدب؟
ومهما بلغت الألقاب من السموّ، ومهما كانت دالة على الكبرياء، فستكون أقلّ حتماً من لقبَي المتنبي والنبي، إذ ليس أعلى منهما سوى لقب الألوهة. وصاحباهما ينامان بسلام، وتلهج الدهور بأدبهما.
***
*جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي سيدني 2022.