مقدّمة لكتاب “وقائع المؤتمر الأوّل لمشروع أفكار اغترابية ومنتدى لقاء وبستان الإبداع: النهضة الاغترابية الثانية – لإبداع من أجل الحضارة والإنسان” 2022.
-ملاحظة: نبدأ في 10 كانون الثاني 2022 نشر الأوراق البحثية التي وردت إلى المؤتمر، بحسب وصولها إلينا.
***
عندما يتناول الناقد حالة معينة ويكتب عنها، لا يجب أن ينظر إلى كلامه على أنّه نقد فقط، أو استهداف محدّد، بل محاولة عامّة لإصلاح وتقويم وهداية. فالناقد معلّم في مهنته، تماماً كالمهندس والطبيب والإعلاميّ. والناقد الجيّد لا يقصر اهتمامه بنصّ أدبيّ أو فكريّ، بل يتعدّى ذلك إلى رصد الحالة والإضاءة عليها، فكيف إذا كانت “حالة” أدب اغترابيّ”؟ والسؤال الذي يطرحة أيّ ناقد في موضوع خطير كهذا: إلى أيّ مدى استطعنا أن نحطّم جدار الصمت الذي أحاط بالأدب الاغترابي منذ وفاة جبران خليل جبران في عام 1931؟
مئة سنة تقريباً تكاد تمر، ولا يُحكى شيء عن أدب اغترابي أو نهضة بعد الرابطة القلمية. لماذا؟ لأن أغلب الحالات الأدبية بعد تلك الفترة كانت إما شخصية، أي حمل لواءها أدباء أفراد، أو في مؤسسات لم ترق إلى المستوى المطلوب، فظهرت ثمّ انكفأت، أو احتضنت الشعر وحده، باعتباره عند العرب، وللأسف الشديد، أيقونة الأدب، والنثر يأتي بعده في المرتبة والقيمة.
لو كان الشعر وحده هو الأساس، لكان الشاعر أيليا أبي ماضي هو زعيم الحركة الادبية في أميركا الشمالية بدون منازع، فقد كان شاعر الرابطة الأقوى، والأكثر نتاجاً، أما جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، فيكتنف شعرهما كثير من النظم. ويبدو أنهما لم يكونا مؤمنين بأهمية الشعر وحده، فذهبا إلى النثر بالتوازي، ليكون لنا “النبي”، و”حديقة النبي” و”يسوع ابن الإنسان” و”المجنون” و”السابق” و”التائه”، و”مرداد” … وكلّها كتب نثرية، ليست فلسفيّة، لكنّها تتضمن مفاهيم فلسفية…. فجبران ونعيمة، لم يكونا فيلسوفين، بل كانا أديبين مفكّرين يقوم أدبهما على قيم الفلسفة.
لو عاد جبران حياً، وسألناه أن يميّز بين “المواكب” وهو كتابه الشعريّ، و”النبيّ” وهو كتابه النثريّ؟ لأجاب من غير أن يفكّر أنّه يفضل “النبي”، كما نفضّله نحن، كنقاد ودارسين، فما حمله “النبي” من أفكار وأبعاد وفيم روحية وإنسانية، يعجز الشعر كله عن حمله.
ويبقى السؤال الآخر: هل يستطيع النثر وحده تأسيس نهضة أيضاً؟ بالطبع لا. فالشعر والنثر يتوازنان، يسيران معاً. يتكاملان. وإذا قلنا إنّ النثر أهمّ من الشعر، فنحن نعرف أن الشعر قد يكون أقوى جمالياً وغنائياً وفنيّاً، ولكن النثر قاطرة ثقيلة وثابتة تحمل اسس الحضارة. ولا يلغي صفة أديب أن يكون المرء ناثراً كطه حسين (كتب قليلاً من الشعر)، لكن صفة أديب تتلاشى وتحل محلها صفة شاعر فقط لكل من يكتب شعراً جيداً.
بناء على كل ما سبق، نحاول في غربتنا البعيدة أن نصيب عصافير بحجر واحد، لاعتقادنا بأنّ جميع الانواع يجب أن تكون مترافقة، ويعلم الله كم نعاني ونجاهد لإثبات فكرة، ما تزال بعيدة، نسبياً، عن أنظار الشرق ووسائل إعلامه، وبعيدة أيضاً عن قناعات بعض الناس هنا، فمن الصعب إقناع أحد بصدق لا يُصدّق. وهذا الصدق قد يكون موضوعاً لتصغير ولامبالاة وسخرية وتغييب، في أحيان. والعذاب الذي نحمله بصبر وأناة، ونترفع عن ذكره، يتعب الروح… ويبقى أملنا في مَن يباركون العطاء، ويفرحون لفرحنا في أيّام الحصاد… هم أكاديميون وأدباء ومثقفون وإعلاميون لا مجال لذكرهم جميعاً، وقد أغنوا هذا الكتاب وأضاؤوا صفحاته بكواكب أسمائهم وكلماتهم… هؤلاء صَلاتنا والصلة بيننا وبين قمم المعرفة… ومعهم نتشارك الكأس الطيبة… ومعهم أيضاً نقرأ في كتاب ثورتنا على نمطية النوع، طامحين إلى تأسيس إبداع جديد، منتوّع، فاعل، مترفّع عن الشعارات، يكون مرآة نقيّة للحضارة والإنسان.
***
*جميل الدويهي: “مشروع أفكار اغترابية” للأدب المهجري الراقي – سيدني 2022.