لو حذفنا نرجسيّة امرئ القيس والمتنبّي وجبران والسيّاب ونزار وسعيد عقل… ماذا يبقى؟
ليس دفاعاً عن النرجسية بمعناها المجرّد، بل تصحيحاً لمفهوم ركِب في رؤوس البعض بطريقة خاطئة، وربما مقصودة، لكي يشوّهوا إبداعات الكبار ويصوروهم على أنّهم من المدّعين أو المتشاوفين. وقد ألِفنا في الواقع العربي هذه الجوقة من قاطعي الخشخاش الطويل، الذين لا ينامون الليالي، وهم يفكرون كيف يحبطون المبدع، ويصوّرونه مارقاً، ومخالفاً للأعراف الاجتماعية. وبلغ من تحقير النرجسية حداً لا يطاق، إلى درجة ظلم “نرسيوس” نفسه، وهو المظلوم، فشاع أنه أغرم بصورته في الماء. وهذا حديث غير صحيح، بل الهدف منه إظهار أن نرسيوس كان جانياً، وهو المجني عليه والمضطهَد والضحية على يد الآلهة. وفي رأيي أنّ نرسيوس هو رمز لكل مبدع وجميل وراق وعبقري، ينظُر إليه البشعون فيخافون من جماله ويقذعون في حقه. والقصة الحقيقية أن نرسيوس (في الأسطورة اليونانية) كان فاتن الجمال، وأغرِمت به العذارى، ومنهنّ العذراء “إيكو” التي لم يبادلها الحبّ. فحكمت عليه ربّة العقاب والحساب، نمسيس، بأن يتعذّب كما تعذبت عشيقاته، وذلك بأن يفتتن بجمال صورته في الماء، فذاب جسده تدريجيًا لهفة وشوقًا إلى صورته.
والنرجسيّة في الأدب هي محور مهم وأساسيّ، إيجابيّ، إبداعيّ، خَلقيّ من الطراز الرفيع. ولو أحصينا الشعراء والأدباء النرجسيين منذ فجر التاريخ، لوقعنا على المئات… واختصاراً، سنأخذ أمثلة من العصور الأدبية، لنثبت حقيقة أن النرجسية عنصر مُطيّب وطيّب، ولولاها لفقدنا كثيراً من جمال الأدب. ولأنّ الأدب في بلاد العرب بدأ شعراً، فقد ظهرت النرجسية في نوعين من الشعر القديم على الأقل، هما الفخر وشعر الحب والغزل. وقد كتبت إيمان محمد العبيدي، دراسة نقدية بعنوان “نرجسية الشعراء الجاهليين”، في مجلة Journal of College of Education الصادرة في العراق ( مجلد 1- العدد 19 ، 2015)
وكان جد الشعراء و”قائدهم إلى النار”، امرؤ القيس، رائد النرجسية في عصر ما قبل الإسلام، فهو المحبوب الذي تعشقه النساء. وقد ذكَر في معلقته الشهيرة عدّة نساء أحببنَه، منهنّ ابنة عمه فاطمة (عنيزة). يقول د. صادق السامرائي: “إنه (امرأ القيس) يرغب بوصف نفسه بما ليس فيها ويطرب للمديح ويعشقه عشقاً مريضاً حد الموت… فيتحول إلى فرد فاقد الشعور بالقيمة، ويريد من الآخرين أن يسقوه كؤوس الإطراء والمديح، لكي تتأكد فرديته وتتحقّق نرجسيته وقوته”.
ومن أشهر أبيات أمرئ القيس النرجسية، من قصيدة “تعلّق قلبي طفلة عربية”:
فقالت لأتراب لها: قـد رمـــيـــتــُـه
فـكـيــف له إن عاش أم كــيـف يـخـتـبـَـل؟
أيــخــفــي لـــنـــا إن كـان بـالــلــيــل دفـــنـه؟
فـقــلــتُ: وهـل يــخــفـى الـــهـــلال اذا أفل؟
هل هناك نرجسية أكثر من أن يقول الشاعر عن نفسه إنه الهلال إذا أفل؟
وكان الشاعر عنترة العبسيّ نرجسياً أيضاً، فكان يصور شجاعة الفرسان الأعداء، لكي يؤكد على شجاعته هو من خلال انتصاره عليهم (الطريقة العنترية). وهذه النظرة الاستعلائية إلى الخصم، والشعور الدائم بالانتصار، يعكسان من غير شك ذاته التي تعلو على الآخرين، وتفوّقه في القتال.
وإذا انتقلنا إلى العصر الأموي، نجد عمر بن أبي ربيعة، شيخ النرجسيّين، فهو يصف نفسه على لسان المرأة بأنه القمر: “وهل يخفى القمر؟”، وهي العبارة التي ضرب بها المثل حتى يومنا هذا. ومبتكرها ليس عمر، بل هو امرؤ القيس في قصيدته “تعلق قلبي طفلة عربية” التي يقول فيها عن نفسه: وهل يخفى الهلال إذا أفل؟ ويُعرف عن عمر بن أبي ربيعة أنه استوحى كثيراً من امرئ القيس، وأخذ من معانيه، خصوصاً من المعلقة.
وفي العصر العباسي، نقع على اثنين من عظماء النرجسيين: أبي الطيب المتنبي، وأبي نواس. وقد يكون في ذلك العصر الأكثر غنى في العصور الشعرية القديمة كثير من الشعراء النرجسيين الآخرين، لا يمكن الحديث عنهم جميعاً لضيق المجال… ولكن مَن يشكّ في نرجسية المتنبي، وهو الذي تعرفه الخيل والليل، والذي نظر الأعمى إلى أدبه، والقائل عنه نفسه: أنا الثريا. أَنا تِربُ النَدى وَرَبُّ القَوافي وَسِمامُ العِدا وَغَيظُ الحَسودِ؟…
وقد كتب حازم حسين الأعرج كتاباً بعنوان “نرجسية المتنبي – ترب الندى وربّ القوافي”، صدر عام 2020.
أما عن أبي نواس، فقد قارن عباس محمود العقاد بينه وبين أوسكار وايلد، الذي قال عنه إنه كبير الشبه بأبى نواس في لوازم النرجسية، وهما مختلفان بعدَها في كل شىء: في الزمن والموطن واللغة والدين والطبقة الاجتماعية، ولكنّهما على هذا يتماثلان في كل لازمة من لوازم النرجسية، وقد يختلفان فيكون اختلافهما أدلّ على وحدة المزاج.
وفي عصر النهضة والعصر الحديث، لا يمكن لجبران خليل جبران الإفلات من نِعمة “النرجسية”. وقد استخدمتُ عبارة “نعمة” لأعارض بجرأة، بعض الذين يحيّدون الأنظار عن الواقع، ليشنّوا حملة على كل شاعر مجيد، فيخلطون بين النرجسية الإيجابية، ونرجسية السياسي الأناني الذي يعتبر نفسه أهم من البشر، فيحقرهم ويذلهم ويجوعهم. لا. الشاعر ليس كذلك. ولا تجوز المقارنة. وجبران لم يأكل خبز أحد، ولم يغتن على ظهور الناس، بل عاش فقيراً، له وحْدته، وعزلته، وآراؤه، وديانته، وعبادته، وله اعتقاده بأنه عاش عدة مرات. وفي النصّ الأوَّل من كتاب “المجنون” وعنوانه: “كيف أصبحت مجنوناً؟” يخبر جبران أنَّه أفاق من نوم طويل فوجد أنَّ أقنعته السبعة التي تقنَّع بها في حيواته السابقة قد سُرقت، فأخذ يركض في الشوارع ويصيح: اللصوص الملاعين سرقوا أقنعتي، فأخذ الناس يهربون منه. وكان هناك شابٌّ واقفاً على سطح منزله فأصبح يقول: أنظروا أيّها الناس، إنَّ هذا الرجل (جبران) مجنون، فنظر جبران إلى الشابّ فرأى الشمس، ولم يعد في حاجة إلى أقنعته.
إنَّ شرح هذا النصّ الرمزيّ القصير يؤكِّد رؤية جبران للحياة سبع مرَّات وصولاً إلى الشمس أي الله. وقد أخبر جبران ماري هاسكل عام 1911 أنَّه وُلد عدّة مرّات في سورية، وفي إيطاليا، واليونان، ومصر، والعراق والهند وإيران. كما أخبرها أنَّه أنجز واحدة من لوحاته وكتب قصيدة مشهورة وهو طفل صغير، بمعنى أنَّه كان يتقن الرسم والشعر من حيوات سابقة.
وكان جبران يصوّر نفسه في بعض نصوصه مصلوباً كالمسيح. وفي “حديقة النبي” يقول عدة مرات : “الحق أقول لكم”، وهي العبارة التي عُرفت على لسان السيد المسيح.
وكان بدر شاكر السياب، يتشبه بالمسيح، ففي “مرثية الإلهة” يقول:
دمي هذه الخمر
التي تشربونها
ولحمي هو الخبز الذي نال جائع.
وفي قصيدة “جيكور والمدينة”:
وفي كلّ مقهى وسجن ومبغى ودار
دمي ذلك الماء، هل تشربونه؟
ولحمي هو الخبز، لو تأكلونه…
وكتبت الباحثة علياء سعدي عبد الرسول مقالة بعنوان “نرجسيّة السيّاب” في مجلّة كلية التربية بجامعة المستنصرية (2020).
ولقد أخذ الشعراء التموزيون: أدونيس، يوسف الخال، بدر شاكر السيّاب، خليل حاوي وجبرا ابراهيم جبرا، صفة تموز، أي أدونيس، وهو إله عند الفينيقيين. وكان فؤاد سليمان يوقع مقالاته في جريدة النهار، باسم مستعار “تموز”، كما أن جميع الناس يعرفون الشاعر أدونيس، واسمه الحقيقي أحمد علي سعيد. ويتَّهم الدكتور أحمد محمد كنعان أدونيس بأنه “اتخذ لنفسه اسماً رمزياً هو “أدونيس” وهو اسم أحد الآلهة عند الإغريق الوثنيين، وكأنه باتخاذ هذا الاسم يعتقد في نفسه الوصول إلى مصاف الآلهة! وفي هذا ما فيه من نرجسية فاقعة لا أعتقد أن أحداً قد سبقه إليها في القديم ولا في الحديث”.
وعندما ظهرت المدرسة الرومنطيقية في لبنان ومصر والعراق وتونس… في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اتخذ الرومنطيقيون العرب “الأنا” أساساً مهمّاً من أسس القصيدة، فقد شكلت النفس البشرية وما يضج فيها من عواطف ومشاعر محوراً مهماً للأدب الرومنطقي. ولا يمكن فصل الرومنطيقية عن النرجسية بأي حال من الأحوال.
ونصل إلى نزار قباني، شيخ النرجسيين الذي كان يجاهر بأنه نرجسي. فلنزار قصيدة” اعترافات رجل نرجسي”، وقصيدة أخرى بعنوان “نرجسية” يقول فيها:
هل ممكنٌ
أيتها الساذجة، السطحية، الحمقاءْ
هل ممكنٌ أن تجهلي…
أنّي الذي أسس جمهورية النساء؟
ووضع الدكتور خريستو نجم كتاباً بعنوان “نرجسية نزار قباني” (1983)، صدر عن دار الرائد.
أما سعيد عقل، فقد بلغ في نرجسيته حداً قد يفوق ما بلغه نزار. تقول أستاذتنا الدكتورة هند أديب: “سعيد عقل على غرار معظم الشعراء كان شديد النرجسية، أعطى لحضوره الذاتي موقعًا مركزيًا في مجمل أعماله. تساميًا، نقطة التقاء أطراف الكون، نقطة انطلاق الأشياء وولادتها”.
نلاحظ أن الدكتورة أديب سحبت صفة النرجسية على “أغلب الشعراء”، وهذا الحكم صحيح، وواقعي، وثوريّ… فكلّما اقترب الأدب من النرجسية أصبح أكثر نبضاً بالعاطفة والذاتيّة، بل أكثر قبولاً من الناس.
يقول سعيد عقل : “كتبت أشعاراً، عندما اسمعها أطرب لها ويقف شعر رأسي إعجاباً وفرحاً بها، إلى حدّ أن أتساءل: هل صحيح أنني كتبت شعراً بهذا الجمال؟!” ويضيف أنّ شعره أعمق من شعر المتنبي: “لا تتصور أنّ المتنبي لديه شعر مقدس ومكرّم ومعظّم مثل شعر سعيد عقل”.
ويفتخر بأنه كتب شعراً “غير مكتوب في ثلاث لغات تمتلك أجمل شعر في العالم وأعظمه (أثينا وروما وفرنسا)، وأنتجتْ شعراً هو الأجمل في العالم. لكنهم لا يعادلون شيئاً قياساً بشعري”.
إنّها نرجسية المبدع الكبير سعيد عقل. ما أجملها وأجمله قامة!
بعد هذه الجردة الموثّقة بالأدلّة والبراهين، يتأكّد لنا أن كبار الشعراء العرب كانوا نرجسيين، وهذه النرجسية هي الخمرة المعتقة التي ارتفعت بشعرهم وأدبهم، فمن التجني والوقاحة أن تكون النرجسية تُهمة، وهي فضيلة واستثناء يسموان بالشاعر إلى فوق. كما من العيب استخدام صفة نرجسيّة كأنّها صفة إهانة. وإذا كان هناك من يريدون من المبدع أن يصمت لكي يخلو الزمان للثرثرة، فنتركهم مع كلام مختصر ومفيد قاله العلاّمة هاني فحص (النرجسية المقلوبة، جريدة الحياة، ٢٥ – ٧ – ٢٠٠٧):
“اذا لم يكن الفنان نرجسياً فمن أين يأتي الفن؟ مشكلتنا مع نرجسية الكسالى والأغبياء والفارغين… الذين لا يرون في ماء النهر شيئاً ولا ماء… فينظرون ولا يرون… مشكلتنا مع النرجسيّة، التي ليس فيها رائحة النرجس ولا لونه، لا مع نرجسيّة الفنانين”.
يميز العلامة فحص هنا بين الفنّان النرجسي المبدع، ومَن ينتقدون العظماء، وليس فيهم ولا في نقدهم رائحة النرجس، ولا رائحة الحقيقة…
يرفض هؤلاء فكرة النرجسيّة ويحاولون تهشيم أصحابها، لمنعهم من إظهار تجلّياتهم، لكنّ دراسة حديثة أجرتها الباحثة يي زو في جامعة ولاية فلوريدا أظهرت ان النرجسية فضيلة في الفن، وركزت على الرسّامين بالتحديد من أمثال بيكاسو الذي نُقل عنه قوله في أحد الأيام: “الإله فنان مثلي، وأنا الإله، أنا الإله، أنا الإله” كما نُقل عنه قوله لاحدى حبيباته التي ارادت التخلي عنه “لا أحد يتخلي عن رجل مثلي”.
***
(*) مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي – سيدني 2021