بقلم: الأديب مازن ح. عبّود
راح يحلم بعالم أجمل وببشر من طينة أخرى. راح يحلم بمدينة سكانها ملائكة وشوارعها أنغام وقصصها من منّ وسلوى. يتدفق من ينابيعها العسل. مدينة ملؤها الحياة.لا يدخل إلى أسوارها الحسد والطمع والكبرياء بل الأنغام. ففيها يتساوى الجميع ويعيشون بفرح. راح يحلم بالحقيقة واليقين، وقد ضجر الجلوس في المغارة على أمل أن يعاين النور.
سمع سيارة الفلايموس قادمة. تمخر في فضاء كفرنسيان المحروسة من الله وقد أرخت زمورها. أحضر العم ميلاد معه من طرابلس هذه المرة تابوتاً لدفن جاره المحبوب “جبور”. ذاك الذي حمله رضيعاً ولقنه دروساً في الحياة ولداً. لم يكن الشيخ على معرفة بالكثير من أمور الدين. ولم تربطه الكثير من العلاقات بالكهنة ورؤساء الكهنة. فقد كان خوري كفرنسيان “يوحنا” أعلى مرجع روحي عرفه في حياته، وذلك بالرغم من أنه عاين المطران مرات عدة، إلا أنه ما كان يجرؤ على الاقتراب منه، لأنه ما كان استاذاً وما كان يرتدي ثياب أهل المدن اللائقة، أو يتقن لغتهم في التخاطب ولا طرائقهم في المأكل والمشرب والسلوك.
انبهر بعكاز السيد وتاجه وثيابه المذهبة. وفي كل مرة كان يشاهده كانت تنتابه مشاعر متناقضة. وكان يسأل: “هل المطران فعلا رجل عادي أم أنه منزل من فوق؟؟ هل هو إنسان أم نصف إله؟؟”
وكان المطران يوافي إلى المحلة مرة أو أكثر في السنة. وهو كان يتأمله عن بعد. ويرصد كل حركة من حركاته، التي كانت غنية على قدر غنى الليتورجيا في كنيسته القديمة الضاربة في تلك الأرض، كشجرة زيتون من زيتون “العويني” القديم التي قيل إنّ “نوح” زرعها.
كان “جبور” يصوم بخفر، ويعمل بصمت، ويفعل بتواري. يقتات من أرضه التي كان يحرثها محبة وعرقاً وأماناً. كانت عجينته تخرج من معجنه. وطحينه من قمحه. وقربانه من موقده. ما كذب يوماً ولا أكل حق أحد. كانت الأرض كل عالمه. سلم نفسه إلى ربه حتى قيل فيه إنه قد أجّر رأسه. وكان، حين يسمع عن خلافات الكهنة ورؤساء الكهنة وطموحاتهم، يضحك ويقول: “ما بالهم يتسابقون على جهنم”.
تأمل “برهوم” في تلك العلبة التي قيل إنها أعدت كي تحمل جسد “جبور” إلى الرقاد، وفي يقينه أنّ الناس مثل “جبور” لا تموت البتة.
وحصل عرس في كفرنسيان في غروب ذلك اليوم. رأى “برهوم” “جبور” يتمدد في الصندوق. وقد ألبس ثيابه اللائقة التي لم يره فيها إلا نادراً جداً. زيّن الصندوق الخشبي، فالنور كان ينضح من وجهه. وترتسم على وجهه علامات الرضى. فقد أنجز ومضى.
ما حضر جنازة “جبّور” الكثير من الكهنة. ولا قدم إليها المتنفذون. بل شارك فيها كل من عرفه. وقد حزن على فراقه غالبية أهل كفرنسيان الذين ما توافقوا على رأي أو شخص يوماً. رشّت “نجيبي” الفقيرة على الصندوق ومحفل المشاركين مقدار حشوة “غمة”، أي ما يقدر بكيلوغرامين من الرز المصري الممتاز، حتى قيل لها “كفى”. وألقت له “أماندا” أفضل ما عندها من “قويلات”. افتقدت الأجران للحمة الكبة في تلك الأيام. وطلقت السكاكين البقدونس. أما الخورية فقد كانت تصرخ: “كان وجهه في الصندوق يشرق نوراً!”. أما “نسيم” جار المدافن، فقد أبلغ الخوري “يوحنا” أنه رأى في ليلة وداعه شهباً من النور يمتد من قبره إلى السماء. فعلى ما يبدو صعدت نفس “جبّور” إلى السماوات. فأنارت كل أرض “كفرنسيان” البائدة، وما فوقها.
على ما يبدو فقد تسلل “جبور” إلى السماوات. بينما كانت غالبية الكهنة ورؤساء الكهنة والمثقفين تتلهى بالنزاعات والمهاترات والقصص والروايات. اقتحم السماء من دون علم أو فلسفة. اقتحمها ببساطة والكل صفّق. واكتشف “برهوم” أنّ ديار “جبور” كانت المدينة التي حلم بها. أما “كفرنسيان” فقد كانت محطة أو صليباً ليس إلا!!!