معالم مجتمع العولمة في رواية “الحب في زمن العولمة” لصبحي فحماوي

 

عفيف قاووق

 

لا يكتمل الحديث عن رواية (الحب في زمن العولمة)، لصبحي فحماوي، إذا لم نتطرق الى بعض الظواهر التي أنتجتها العولمة وأثرها على البنية الاجتماعية للمجتمع ومنها:

 حالة التفكك الأسري:

حيث شهدنا فقدانا لدور الأب المُنهمك في أعماله وتكديس امواله، وتشظي العلاقة بين سائد الشواوي وابنته ثريا التي تبوح في سرها قائلة: ” كنت أتمنى أن أعيش معك يا أبي، فأحدثك عن أحلامي وآمالي وآلامي.. أن استمع إلى ضحكاتك ونصائحك، وحكاياتك عن أيام  زمان. كنت أتمنى أن تُعلمني السلوك الصحيح، وأن تُبعدني عن الخطأ.. تُعطيني تجاربك، كنت أريد أباً  يُنير لي طريق المستقبل، ولكنك مشغول مشغول مشغول يا أبتِ.”(ص153). وهى أيضا رغم امتلاكها كل شيء، وتدللها، ترى أن ثروة أبيها تقف عائقا أمام سعادتها، فهى تحب أستاذا فقيرا، لا يجرؤ فى التعبير عن حبه لها .. اما شقيقها سفيان، فهو شاب مستهتر يسعى لتحقيق نزواته وممارسة هواياته، لا يشارك أهله همومهم. فمنذ أن جاء من لندن، لم يجلس مع والده، وكأن أمر مرضه الخطير لا يهمه.. إنه يلعب مع رفاقه ورفيقاته، ونراه  منهمكا بموعد سباق الرالي، ويحتجّ لدى أمه لكونه لم يشتر بعد سيارة السباق، ولم يُركِّب لها عوادم خاصة بالسباق لزيادة سرعتها، وعندما ذكّرته أمه بضرورة الالتفات إلى صحة والده التي هي أهم من السباق، يقول لها دون أي حرج:“يا أمي مرض أبي تعودنا عليه، ولكن الرالي يأتي مرة واحدة في كل عدة سنوات، ولا أستطيع الانتظار، ولا تأخير متطلباته” (ص143).

ظاهرة تفشي الفساد:

غنيٌ عن القول أنه عندما تجتمع السلطة مع رأس المال والأعمال، لا بد وان تكون ظاهرة الفساد وليدة هذا التناغم والتلاقي، فنشهد تواطؤ المسؤولين مع رجال الأعمال في تمرير صفقات مشبوهة، ولو على حساب صحة المواطن، المهم عندهم كان ولا يزال كمية الدولارات التي ستدخل جيوبهم. وقد وثّقت الرواية إحدى حالات هذه الظاهرةعندما استوردت شركة اللحوم المعولمة التابعة للشواوي باخرة  لحوم  مجمدة  على أمل بيعها في السوق على أنها لحوم طازجة، ورفضت سلطة الجمارك الإفراج عن هذه الشحنة لأن الذبائح المجمدة يجب  أن تستورد مقطٌعة، وليست قطعة واحدة… الكتف وحده، والفخذ وحده، … وذلك كي لا تعرض اللحوم ـفي السوق بعد ذوبان الثلج عنها، على أنها لحوم  بلدية طازجة. يقول الشواوي لوزير الضرائب: “لا أريد أن أسمع القانون. أريد حلاً للمشكلة.. وأنت تعرف يا معالي الوزير، نحن لم  ولن نقّْصر معك. وبعد  تفكير عميق ومصطنع تفتقت عبقرية الوزير بالحل إذ قال للشواوي: ” أقترح عليك أن تُنزل سفينتك في المنطقة الحرة، وإذا سألك أحد، تقول إنك تريد تصدرها إلى سوريا، أو الجزائر أو الاردن أو الصومال، وفي نفس الوقت أرسل لعملائك الاجانب ليغيروا رقم الإرسالية وأوراق التصدير من لحوم مجمدة قطعة واحدة إلى لحوم مجمدة مقطٌعة، وفي الوقت نفسه ، تحضر من معارفك عددا من النجارين للإسراع بتقطيع اللحوم، وتغليفها بالورق الشفاف وإعادتها إلى الحاويات المبردة وكأنها شحنة جديدة. وهكذا حصل إذ أُدخلت هذه الشحنة تحت مظلة القانون…ولكن عن أي قانون نتحدث غير قانون تشريع الفساد؟  وبعد إذابة الثلج عنها سخنت في الميناء، ثم تم تبريدها، فصارت تالفة، ولكنها وُزِّعت على محلات بيع اللحوم ممهورة بعبارة” (لحوم ذبح حلال زلال حسب الشريعة الإسلامية)..وبعد تمرير هذه الصفقة اجتمع الشواوي في سهرة ودية في منزل الوزير وقدم له المبلغ المرقوم، متمنيا عليه قبوله، مُدّعياً أن  “النبي قَبِلَ الهدية”.(ص138).

التلوث البيئي:

نتيجة لكثرة المصانع دون مراعاة الشروط الصحية والبيئية، وانتشارها في اماكن وأحياء سكنية، فقد تحولت مياه الوديان إلى مجاري، تصبغ العشب الأخضر وأزهار النرجس والبنفسج بألوان سموم الرصاص والزرنيخ الرمادي،  وصارت الاسماك تطفو ميتة على شواطىء السدود الآسنة، فيلتقطها الاولاد ويجمعونها ليبيعونها في الحارات الفقيرة، بأسعار رخيصة، رغم كونها ملوثة بكيماويات المنظفات التي يدفع أصحاب المصانع رُشى ليُسمح لهم بتركها تخرج من دون أن تمر على محطات التنقية.101

تفشي ظاهرة التهريب وتعاطي المخدرات

الحاج توفيق الرفاوي مدير شركة اللحوم والدواجن العولمية  يقول لصديقه شومر: “يا رجل ذبحنا العمال ونحن نشُّد عليهم، ونقتطع منهم.. الناس لم تعد تطيق، ونحن لم نعد قادرين على عصرهم  أكثر مما فعلنا، ولشدة البطالة صار الناس يشتغلون بالتهريب، إما قاتل أو مقتول، فصار التهريب تجارة رابحة… تصور أن نسبة تهريب السجائر والاجهزة الكهربائية قد تضاعفت خلال عامين، رغم اتخاذ كافة الاحتياطات الأمنية المشددة،  وهذه البيئة الجديدة دفعت لازدياد تداول المخدرات، وحتى طلاب وطالبات المدارس والجامعات، صار كثير منهم مدمنون على المخدرات، والممارسات البطّالة (ص106)..

 الرعاية الصحية وتردي الوضع الاستشفائي:

بعد أن أصبح معظم سكان مدينة العولمة مصابا بأمراض الربو، والالتهاب الرئوي والحساسية، والسرطان، فصاروا يقفون صفوفا طويلة أمام المستشفيات الحكومية ،التي لا تُدخل مريضا، حتى لو كان مجلوطا إلى الطوارىء، إلا اذا دفع أهله خمسمائة دولار نقدا مقدماً، وكانت المستشفيات  تطلب المبلغ  قبل أن تفتح البوابة  للسيارة التي تقله.

 التفلت الأخلاقي عند الأغنياء  وانعدام نظرية العيّب:

من نفاياتهم تعرف قذارتهم، فأثناء عمله بتنظيف حاويات القمامة في أحياء حارة البلوط الثريَة، يتساءل الزبّال سرحان عن مصدر هذه الاوساخ التي تخرج مع أوراق الحمّام، لقد وجد مطاطاً واقياً لمنع الحمل مملوء ب(…)، في حاوية النفايات الخاصة بمنزل أبو أسعد المسافر، إلى البرازيل منذ أشهر، وأم أسعد وحدها في البيت، ولا يعيش معها سوى طفلها أسعد ، وابنتها الصغيرة، فمن أين أتى هذا المطاط الواقي من الحمل؟  من أين جاءت زجاجة البيرة، وزجاجة الويسكي المفرغتين هاتين،  وماذا تفعل أم أسعد بالبيرة والويسكي، ومن يشرب معها الويسكي، وهل صدق المثل القائل: (غاب القط العب يا فار)؟ 192. وكما يقول المثل عندنا (الغِنى يستر الزِنا)، يروي السارد ما لاحظه سائد الشواوي عندما زار مطعم الخيال في فرنسا برفقة مستشاره،  حيث كانت إحدى النساء النفطيات تنظر إلى الشاب الوسيم ثـم تنزل لتتجه نحو سيارته البيجو، دون مصافحته باليد لأن ذلك تعتبره حرام، وكما أوضحت شيرون ورفيقتها روزا  للشواوي أن هذا الصنف من النساء يبحثن عن مثل هؤلاء الرجال، لأن أزواجهن يتركونهن في الفنادق، ويذهبون هم أيضا لممارسة الجنس في الخفاء، اما في الظاهر فيعتبرونها علاقات راقية، إنها علاقات بزنس، هذا هو عالم  العولمة كما قالت المرافقة الجميلة شيرون لسائد الشواوي.

التمايز الطبقي والنظرة الدونية للفقراء

لاتزال نظرة الأغنياء إلى من هم دونهم لناحية المستوى الاجتماعي أو المادي نظرة توجس  وحذر، يصل في كثير من الأحيان إلى حدود الحقد وحتى القرف من الطبقات الاجتماعية الدنيا، حيث يسيطر عليهم هاجس من الخوف والظن بأن هؤلاء الفقراء يريدون الإنقضاض عليهم.. هذا الشعور عبّرت عنه سميرة لصديقتها أسمهان بالقول: “الحياة يا صديقتي صارت معقدة، والأغنياء بصراحة صاروا يواجهون حقد المجتمع عليهم، فهذا الرجل القاعد في بيته بلا وظيفة، والذي يشاهد بالتلفزيون حياة رجال الأعمال المتربعين على الأشغال والأموال، والحاصلين على كل متع الحياة،لا يمكن أن يسكت ما دام قاعدا بلا عمل.” فقالت لها أسمهان :” والله كلامك صحيح يا سميرة الحسد والحقد صارا يتراكمان في قلوب المحتاجين، ونحن بصراحة لا نستطيع أن نُطعـم  كل فقراء البلد، ولذلك صرت أخاف على أولادي، إذا ما أردت أن أرسلهـم  إلى المدرسة، أو إلى أي مكان.. صرت أخاف عليهم من اعتداءات الإخرين  (ص89).

الجانب الخلفي لمدينة العولمة:

لقد غيرت العولمة معالم المدينة فصارت عالـماً آخر، فيها حركة تجارية متشابكة، وصارت فيها عمارات يسمونها أبراج متشابكة، ونوع من الحضارة التي لا ترحم، هذا كله من المشهد الخارجي، وأما من الداخل فالمخفي أعظم.وكما هي الحال في معظم بلادنا الإفريقية والشرق أوسطية نلاحظ ان كل منطقة مزدانة بعماراتها الشاهقة وأسواقها التجارية بطوابقها المتعددة ومراكز خدماتها التي هي حكر على طبقة الأغنياء، نجد ان هذه المناطق محاطة بأحزمة من البؤس والفقر ، وهذا ما نبّه إليه القارىء وائل أبو جلهوم والذي يبدو انه اطلع على مسودة الرواية كما افترض المؤلف تحت فصل “على هامش الصفحة” برسالة يقول فيها:“كنت أتمنى أن أدخل في دماغ المؤلف، تماما مثل سعد الدين، فأوجهه ليصور لنا بقلمه بعض معالم مدينة العولمة، وحواريها وأزقتها، فيذكر لنا أن الخدمات العامة معدومة، وأن الشوارع تكاد تخلو من حاويات النفايات الصغيرة، فتنتشر القاذورات في الشوارع. وإذا أردت أن تُعرِّف أحداً على عنوان بيتكم، تقول له: ( إنه يقع في “شارع المتآكل بن المتهالك”. بعد المطبين الكبيرين، تجد بركة لمياه المجاري، تنبع من شارع مهترىء في وسط الشارع،  ثم تدخل في شارع  فرعي على بابه أو في منتصفه  تقبع حاوية نفايات كبيرة مندلقة، ومقابل الحاوية تجد بيتنا.(162).”

مثل هذا التوصيف الذي  ورد في رسالة القارىء المفترض وائل أبو غليوم، لم يكن من بنات أفكاره، بل هي حقائق ملموسة شاهدها بأم العين الطفل عبد السميع ابن الزبال سرحان عندما خرج في ما اعتبره رحلة، ليرافق أباه خلال تأديته لعمله في جمع القمامة والنفايات من أحياء وشوارع حارة البلوط، والتي تضم قصور وفلل ومنازل الطبقة الغنية، يقول الطفل عبد السميع لوالده:

“انظر انظر، لديهم ممرات خاصة للدراجات، لماذا لا يوجد في حارتنا شارع كهذا؟ ولماذا لا توجد عندنا أرصفة؟ وهذه المسطحات الخضراء الممتدة على جانبي الرصيف، في كل مكان،إنها حدائق مفتوحة على الجانبين” 191.

ولاستغلال هذه الفرصة التي قد لا تتكرر، طلب سرحان من ابنه عبد السميع، التفتيش في حاويات النفايات، لعله يجد فيها ما يُستفاد منه فقد يلتقط لعبة، أو أي شيء.. فأحيانا يرمون جرابات، أو قمصان قديمة، ولكن بحالة جيدة، وأحيانا حذاءً محترما، وإذا كان الحظ حليفك هذا اليوم فسوف تحصل على اشياء من هذه الحاويات.. ادعِ الله يا ولدي أن يرزقك في يوم رحلتك هذا، فرفع الطفل يديه إلى الله داعيا: “يا رب ارزقني من هذه الحاويات شيئا أرفع رأسي به أمام أصحابي”. 193. ليعود في المساء مُحملاً بالهدايا التي التقطها من حاويات النفايات، وضمت لائحة الهدايا التي التقطها، حذاء قديـم ولكن بحالة جيدة، وسيارة بلاستيكية، سقط منها عجل خلفي، وكرة قدم منفسة وعدد من الجرابات مختلفة الاشكال والالوان، وغطاء خارجي لإطار سيارة، وبنطال ليس بحجمه ولكنه قال إن أمه ستكيّفه ليصير بمقاسه، وثلاثة قمصان وطاقية وحقيبة مدرسية مبقعة.. هكذا هي حياة الفقراء في أحزمة البؤس وأطفالهم المشردين الذين لا يحلمون بغنائم من الحاويات بأكثر مما ضمّته تلك اللائحة.(ص196).

وبعد تلك الرحلة التي قام بها عبد السميع برفقة والده في حملة تنظيف الشوارع، راودته نفسه على ترك المدرسة لمساعدة أبيه في هذا العمل، لأن هذه الحاويات من وجهة نظره مليئة بالخيرات، وسيجمع  أموالاً كثيرة لشراء كل ما يحتاجه. لكن حدث ما هو غير متوقع بأن مات عبد السميع تحت عجلات شاحنة النفايات وهو يلتقط الخيرات التي وعد نفسه بها. فأُدرج موته تحت خانة القضاء والقدر.ونظرا لعدم قدرة والده على نشر إعلان نعيه في صفحة الإعلانات المدفوعة الثمن، وتعاطفا مع مأساة الطفل عبد السميع، فقد تكرم مؤلف هذه الرواية وتفضل مشكورا بنشر هذا النعي مجانا على صفحات هذه الرواية، ونحن بدورنا وتعاطفا مع مأساة عبد السميع، نعيد نشر هذا الإعلان مجاناً في هذا البحث، وقد جاء على النحو التالي :

( إعلان نعيّ)

بقلوب يعتصرها الأسى،ننعي إليكم وفاة الطفل عبد السميع سرحان،ابن الزبّال، والذي وافته المنية تحت عجلات شاحنة نفايات لم ينتبه له سائقها، بينما كان يبحث عن لعبة بين نفايات حارة البلوط. إنا لله وإن إليه راجعون.

 

اترك رد