من كتاب “أفكار خارج العزلة” – يصدر عام 2022
كان حاكم المدينة يختار كلّ شهر رجلاً من أهل العلم، ويرسله إلى صحراء التيه… وهكذا يتخلّص من مناوئيه، أصحاب الرأي والحرّيّة. وكلّهم لا يعودن، فصحراء التيه لا انتهاء لها، ولا يمكن لأحد أن يعبرها ويبقى حيّاً.
حملَ الرجل المنفيّ زاده وماءه، وودّع أهله، ومضى إلى الصحراء.
ثلاثين سنة أمضى هناك، وهو يدور في حلقة مفرغة، تحيط به الرمال من كلّ صوب. وتلاحقه الكواسر، فينجو منها بجرأته وثبات عزيمته… حتّى نفد زاده، وعطش. وكانت الشمس حارقة، فتقرّح جلده، ولم يعد يقوى على السير.
جلس في ظلّ كثيب، وراح يفكّر في طريقة للنجاة، فتذكّر ما قاله والده ذات يوم: إنّ الصبر يا ولدي مقلع الرجال. والماء يخرج من جذور الشجر الذي يعلو، ولا يخفض قامة.
أعطته تلك العبرة قوّة، فرفع رأسه إلى فوق، ورأى شجرة نخيل تشمخ في الفضاء الأزرق، فجَرّ نفسه جرّاً إليها، وانبطح على بطنه عند جذعها، وأخذ يحفر بأظافره في الرمال… وما هي إلاّ دقائق، حتّى انبلج ماء نقيّ من الرمال العارية… ماء كثير كان يتدفّق من تحت الشجرة، فشرب المنفيّ المعذّب حتّى ارتوت روحه، وسبح في الماء، فشفيت جروحه وآلامه. وأصبح الماء بحيرة في ساعة من الزمان، وجاءت الأطيار تستحمّ وترفرف بأجنحتها… ثمانون طيراً من أجمل الطيور، كانت تغنّي للحياة، وهو يغنّي معها بلغة لم يتعلّمها، فكأنّه ولد من جديد من رحم المعاناة.
وشهراً بعد شهر، كان يمرّ في المكان رجال عالِمون، منفيّون من مملكة الباطل، فيجدون ملاذاً في صحراء التيه القاحلة، ويمكثون فيه. وتكاثر الناس هناك، وبنوا منازل للخير والعدالة، وجاؤوا بنسائهم وأطفالهم إلى جنّة خرجت من الأديم القاحل.
ولا تزال مدينة الحياة منتصبة في وجه الرياح، تناطح السحاب، وتجاور الكواكب… وكلّ ساكن فيها لا يخفض قامة إلاّ لخالقه العظيم.
***
(*) مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني.