تحقيق سلمى أبو عساف
“اليوم تحقق الحلم الذي كان يراودني منذ العام 1975، يوم كنت راهبا في دير سيدة اللويزة”. بتأثر واضح، اطلق البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي عبارته هذه، في حفل تدشين دير الزيارة في عينطورة-كسروان بعد ترميمه واعادة احياء إشعاعه الروحي واطلاق رسالته المتجددة.
انه “دير عذراء الزيارة” الذي يبعد عن البحر نحو 4 كيلومترات وعن العاصمة بيروت نحو 18 كلم. تاسس في القرن الثامن عشر وتحديدا سنة 1744 ميلاديا ليكون اول دير لرهبنة نسائية في الكنيسة المارونية في لبنان، والدير الوحيد لرهبنة الزيارة خارج اوروبا، والوحيد الذي لم يخضع لقوانين الرهبنة القاضية بارسال امّا رئيسة وراهبات من اديار الزيارة في اوروبا ليضعن موضع التنفيذ القوانين الخاصة بها، على الرغم من الدعم المادي والروحي الذي كان يلقاه منها.
فبعد سنوات من انعقاد المجمع اللبناني سنة 1736، وبناء على مبادرة من المرسلين اليسوعيين الفرنسيين المقيمين في حلب، ارتفعت اسوار بعلو 10 امتار وسط حرج من اشجار التوت في بلدة عينطورة الكسروانية، واحتضنت ديرا تكرست فيه بنات آل الخازن وغيرهن للحياة الرهبانية على عهد البطريرك الماروني سمعان عواد.
انشأ هذا الدير الذي حمل الرقم 160 لراهبات الزيارة حول العالم آل الخازن على ارضهم الممتدة على مساحة 20 الف م2. ووهبوه للبطريركية المارونية ليديره البطريرك بذاته ومن دون وساطة، على ان تطبق فيه قوانين المؤسس فرانسوا دو لاسال. واول راهبة مكرسة عرفها الدير كانت من آل الخازن وتدعى “انجيليكا الخازن”.
شهد العام 1975 قرار البطريرك بولس المعوشي باقفال الدير الذي تملكه الإهمال والهجر والنسيان على مدى عقود، الى ان تسللت اليه الحياة من جديد في العام 2021، بعد اطلاق مشروع ترميمه في العام 2018 بناء على ارادة وامر من البطريرك الراعي الذي سبق وان قدمت له الدولة الهنغارية في العام 2012 وعدا بتقديم هبة مالية لتحقيق حلمه بترميم هذا الدير، وذلك خلال الزيارة الرسمية التي قام بها الى هنغاريا، على ان يتحول هذا الدير العريق الى مركز انمائي اجتماعي يمكّن ابناء المنطقة من تعلم مهنة يعيشون منها.
تروي المحطات والأحداث التي عاشها “دير عذراء الزيارة” بين عامي 1744 و2021 قصة ملفتة في حياة الكنيسة عن إرث تاريخي وكنسي عريق في لبنان، عرف النمو والتطور في حقبة معينة والإندثار والإنكسار في حقبة اخرى، لتعود اليه اليوم الحياة من جديد، فيكتب معها قصة جديدة ايضا.
محطات مثيرة في حياة الدير
في بداياته كان دير “عذراء الزيارة” الملاذ الآمن للشابات الراغبات بالحياة المكرسة من ابناء العائلات الراقية من حلب وجبل لبنان. فكن يأتين مع ما تقدم لهن عائلاتهن من اموال واغراض ثمينة يضعهن بتصرف الدير الذي كان على تواصل دائم مع الدير الام في Annecy في فرنسا. وعلى الرغم من انه كان ديرا للمحصنات الا انه كان ايضا مركزا للمعرفة والعلم والتثقيف لجيرانه ولأبناء المنطقة. من مدرسته تخرجت الأديبة مي زيادة في العام 1941، واستقبلت حجره النبلاء ورجال الدين والفقراء والمرضى، واحتفل في كنيسته بمناسبات دينية عديدة اهمها مواكبة تقديس مؤسسة الرهبنة الأم Jeanne de Chantal بالصلاة، وعملت مكرساته في نسج الحرير والأعمال اليدوية وفي حقول الزيتون ليستمر الدير في تأدية رسالته وسط ظروف كانت جيدة احيانا وقاهرة واليمة احيانا اخرى بسبب الحروب التي عرفها جبل لبنان على مر العقود.
البداية عرفها العام 1744. فبعد موته بأربع سنوات، تحققت امنية الابPierre Fromage اليسوعي المقيم في حلب، بإنشاء دير في الشرق يستقبل الشابات والارامل اللواتي اردن عيش الحياة المكرسة. وبسبب صعوبة اقامة الدير في حلب، اختارت 12 فتاة حلبية من العائلات النبيلة منطقة جبل لبنان ” حيث ينعم المسيحيون بالأمان” لإنشاء الدير والإقامة فيه. فساهمن بما خصهن اهلهن من اموال ببناء الدير في منطقة عينطورة على بعد 300 متر من مكان اقامة الرهبان اليسوعيين. وحمل هذا الدير اسم راهبات عذراء الزيارة اللواتي تم تأسيس رهبنتهن على يد القديس فرانسوا دو لا سال والقديسة جان دو شانتال في العام 1610 في Annecy في فرنسا.
في 21 نيسان 1744 وقع البطريرك الماروني طوبيا الخازن مع عدد من الأساقفة عقد وصاية على الدير مع الرهبان اليسوعيين ووجهاء آل الخازن في دير مار يوسف في عينطورة. وتضمن العقد بندا يؤكد ان بناء الدير سيتم من اجل فتيات آل الخازن وغيرهن وانه يخضع لوصاية البطريرك الماروني وفق الطقس الماروني وتكون لليسوعيين سلطتهم الروحية فيه ويكون قانون فرانسوا دو لا سال هو القانون المعتمد.
تعززت الحياة الروحية والإنسانية في الدير على مر السنوات فكان منارة في محيطه. ولكن تفاقم وتفاعل مشاكل مكرساته فيما بينهن عصف بأرجائه. فكانت الإتهامات والإتهامات المضادة، والشجارات ورفض اوامر الطاعة وعدم الإمتثال لقوانين الرهبنة والدير، والتنافس على السلطة. ووجهت رسائل الشكوى الى البطريرك الماروني والى الدير الأم وتم ارسال زائرين كنسيين مرات عديدة الى الدير لوضع حد لهذه الخلافات التي لم تتوقف ابدا، بل على العكس كانت كفيلة بجعل البطريرك بولس بطرس المعوشي يصدر امرا بإقفال الدير نهائيا في 1 تشرين الثاني 1974.
ارث تاريخي كنسي تحت الانقاض
اقفل دير المحصنات، الذي كان في احد المراحل مركزا رئيسيا لتثقيف الناس، وتسلل اليه الخراب والإهمال والتصدع. حتى حجره لم يسلم. انهار السور الذي كان يفصل مكرساته عن ابناء الجوار ويحميه من الغزوات، وتهدم الجزء الأكبر من سقف وجدران المدرسة العريقة داخله، وساهمت يد الإنسان بتشويه ما تبقى منه. فالبئر في باحته الخارجية جفت من المياه وغطاها العشب. والجرن الصخري الفريد من حيث هندسته وتقنيته الأوروبية فهو مزود بخزان لتصريف المياه التي يغسل الكاهن بها يديه باعتبارها مقدسة اما الى المدافن واما الى دعائم الدير، هو ايضا تخلى عن مهامه، ولكنه ابى ان يتزحزح من مكانه.
اما الكنيسة التي يتزاوج فيها الطابعان الأوروبي واللبناني من خلال قناطرها وقبتها والزخرفات التي تزين سقفها ومن خلال الثقوب الصغيرة الظاهرة في حنايا الجسور العلوية ودورها في امتصاص صدى الأصوات، فلقد تم نهب معظم مقتنياتها باستثناء تمثال للسيد المسيح الذي يعلو مذبحها وقد حفر عند قدميه عبارة “يسوع الحي” باللاتينية، اضافة الى عدد زهيد من اللوحات الكنسية التي كانت قد استقدمت من فرنسا في تلك الحقبة، ومن بينها لوحات مراحل درب الصليب، ولوحة للأم المؤسسة بعلو خمسة اقدام ونصف القدم وضعت فوق المذبح يوم تقديسها في 16 تموز 1769 الذي تولى مراسمه البطريرك الماروني يوسف اسطفان، اضافة الى لوحتين اضافيتين، الأولى لعذراء الزيارة والثانية لقلب يسوع، والتي من خلال شكل الوجوه والأزياء يمكن التأكد انها اوروبية التنفيذ.
انها الكنيسة الثانية في الدير ولقد ارادتها الراهبات ان تكون في الباحة الخارجية لكي تحظى بنور الشمس والهواء بعد ان عانين من امراض تنفسية لكون الكنيسة الأولى كانت قبوا لا تدخله اشعة الشمس.” ومن قلب هذه الكنيسة، نفضت الشعرية القديمة التي فصلت يوما بين المحصنات والكاهن بشباكها الصغير المعد للمناولة الغبار عنها، وكرد جميل للمفتاح الحديدي الذي بقي ملتصقا بها طيلة السنوات لبست حلته وتركت مكانها منتقلة الى خارج الكنيسة لتبقى رمزا للدور الاساسي الذي لعبته منذ تأسيس الدير. هذا ولا تزال اللوحة الصخرية التي تخلد ذكرى تكريس البطريرك يوسف بطرس حبيش لكنيسة عذراء سيدة الزيارة، متمسكة بأحد جدران الكنيسة وقد حفر عليها يدويا وبخط عربي مزخرف تاريخ تكريس الكنيسة الواقع يوم الأحد في ال26 من شهر شباط من العام 1837 وتاريخ تكريس المذبح الرئيسي وباقي المذابح اضافة الى جرن المعمودية. ويظهر الجزء العلوي من الكنيسة حيث القناطر، ان بناءها قد تم على مراحل فالحجر يختلف لونه بحسب كل مرحلة من اتمام البناء، ذلك ان الراهبات كن ينتظرن جمع المال لإتمام المشروع. وجرس الكنيسة اللبناني الصنع قد وضع على سطحها وهو يعمل وفق تقنية عرفها الغرب تتيح دقه من داخل الكنيسة بواسطة حبل ويصدح صوته في الجوار.
وتبقى اللوحتان التذكاريتان لمدفنين ملتصقين بحائط الكنيسة الخارجي خير دليل على استقبال هذا الدير التاريخي لزوار نبلاء اجانب فارقوا الحياة ودفنوا فيه.
اما الممر السري الذي استخدمته الراهبات مرارا للهروب من بطش الغزاة والمحتلين، والممتد من غرفة المؤونة اسفل الدير حيث كانت الراهبات يطمرن الأواني الكنسية خوفا من سرقتها عند هروبهن من الدير، وصولا الى خارج السور، فلقد كان هو ايضا مطمورا الى ان بدات اعمال الترميم واكتشفت داخله خوابي عتيقة من الفخار.
وحيدة وفي باحة الدير الداخلية، بقيت شجرة السرو التي اصبحت عملاقة ترتفع صوب العلى حاضنة حكايات الدير المثيرة. وخارج الدير انكسرت وانهزمت اشجار التوت التي كانت تلفه تاركة المكان للأعشاب البرية التي حجبت عن الأنظار معلما تاريخيا امتد على مساحة 3500 م2 على مدى عقود.
احياء أمل بإحياء تاريخ
حلم البطريرك الراعي تحول واقعا. فتاريخ الدير الذي يؤكد على الهدف التثقيفي والتعليمي الذي تميز به، تحول حاضرا. وبعد اعمال الترميم التي استغرقت نحو عامين ونصف العام منح البطريرك بركته لجمعية “فيلوكاليا” الموسيقية بقيادة المكرسة مارانا سعد لكي تتخذ من المكان مقرا لها فتقدم خدمات انمائية اجتماعية من ضمنها تعليم الموسيقى وفن الأعمال الحرفية والطهي.
واعتبر المشرف على ادارة هذه المؤسسة المطران حنا علوان ان “الكنيسة من خلال هذه المبادرة تعلم الناس صيد السمك وليس اكله فقط،” مشيرا الى انه “وسط الإحباط الذي يعيشه اللبنانيون اليوم وفي هذه الظروف القاهرة التي يشهدها لبنان ومع ارتفاع نسبة الإحباط وفقدان الأمل عند معظم اللبنانيين كانت هذه الخطوة الإيجابية للدلالة على ايماننا ورجائنا. وان اعادة احياء هذا المكان سيقدم فرص عمل للشباب والشابات.”
بدوره اشار المهندس رامي رزق الذي تابع اعمال ترميم الدير الى ان “الامر تحقق بناء على ارادة البطريرك الراعي وبفضل الدعم المالي من برنامج hungary helps فانطلقت الاعمال التي كانت غاية في الدقة،” لافتا الى ان” الصعوبة كانت في الحفاظ على اصالة وعراقة المكان على الرغم من اندثار الكثير من معالمه”.
ولفت رزق الى ان “ارتفاع المجسم الحديدي العملاق على شكل الشعرية امام الكنيسة ما هو الا للتذكير بان هذا الدير كانت تشغله المحصنات، مشيرا الى انه ” تم التعامل مع خشب الأسقف العتيق بدراية وعناية لتبقى في مكانها وان عددا من الجسور الحديدية التي تدعمها كانت قد استقدمت من اوروبا في تلك الحقبة من بناء الدير فهي ايضا ارث مميز وفريد”.
وختم رزق :”لا شك ان الوضع الإقتصادي الصعب الذي يشهده لبنان كان له اثره السلبي على اتمام مشروع الترميم، الا ان التشجيع المتواصل للبطريرك الراعي ودعمه للفكرة والعزيمة والإرادة والإيمان بثقافة الحياة بددوا الصعاب. فتم الحفاظ قدر المستطاع على هوية الدير القديمة مع استحداث تقنيات واقسام جديدة تتناسب مع الزمن الحاضر كالتمديدات الصحية والكهربائية والممرات الخاصة بذوي الإحتياجات الخاصة وغيرها.”
من جهته وخلال حفل التدشين الذي شارك فيه مسؤولون من الحكومة الهنغارية، اعرب المسؤول عن برنامج المساعدات للمسيحيين وللشعب الهنغاري Tristan Azbej ان هنغاريا مستعدة دائما لدعم الكنيسة في لبنان لتثبيت المسيحيين في ارضهم وتقديم فرص عمل جديدة للأجيال الجديدة التي تهاجر”، مثنيا على “مبادرة البطريرك الراعي في اضاءة شمعة في ظلمة، نسأل الله الا تطول”.
***
(*) الوكالة الوطنية للاعلام