صدر عن سلسلة “أطروحات الدكتوراه” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب سمير ساسي مشروعية السلطة في الفكر السياسي الإسلامي، ساعيًا إلى مقاربة المسألة من خلال إشكالية “مشروعية السلطة في الفكر السياسي الإسلامي”، وكيف أسس لها فقهاء السياسة الشرعية في العصر الإسلامي الوسيط؟ وما حدودها وتأثيراتها في الفكر الإسلامي عمومًا، التاريخي منه والمعاصر؟ وما أثر ذلك في تجربة الاجتماع السياسي الإسلامي ونظامه؟
لقد كان موضوع نظام الحكم في الإسلام أهم الموضوعات التي أُشبِعت بحثًا في ما عُرِف بـ “فقه السياسة الشرعية”؛ إذ برزت الرؤى المختلفة عن تنظيم السلطة في دولة الإسلام، وعن السلطة بين النص المؤسِّس والتاريخ الواقعي. لكن حالت زوايا التناول والاختلاف المذهبي والسياسي وإشكالية العلاقة بين النص والتاريخ كلها دون غلق باب البحث مجددًا في هذه القضايا؛ ذلك أن الموضوع بقي – وسيبقى – مثيرًا للجدال رغم المساهمات الكثيرة التي تكاد لا تُحصى. ورغم أن أبوابًا مستقلة أُفردت في كتب علم الكلام للحديث عن السلطة وشروط قيامها وآدابها، ومن أن عددًا مهمًّا من الفقهاء والمفكرين ألّفوا كتبًا مستقلة في هذا الغرض، فإن الموضوع لا يزال يفرض نفسه في ساحة البحث لاعتبارات مختلفة.
يقع الكتاب (380 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) في ستة فصول، موزعة في ثلاثة أقسام.
المفاهيم السنية المؤسسة للمشروعية
القسم الأول، “المفاهيم المؤسسة للمشروعية”، ثلاثة فصول. في الفصل الأول، “المفاهيم السُّنية المؤسسة للمشروعية”، يرى ساسي أن مشروعية السلطة لدى فقهاء أهل السُّنة والجماعة في العصر الوسيط قامت على جملة من المفاهيم، ارتبطت برؤية أهل السُّنة لمسألة الحكم وعلاقتها بالعقيدة، “وهذه المفاهيم هي مفاهيم الطاعة والمصلحة والاختيار والشورى وولاية العهد وأهل الحل والعقد والغلبة بالشوكة وأهل الوقت”.
وفي هذا السياق، يقول المؤلف: “كشف لنا تحليل خطاب فقهاء العصر الإسلامي الوسيط من أهل السُّنة عن وجود رؤية مشتركة بين الفقهاء في بناء نظام الاجتماع السياسي، ولا يمكن الاستناد إلى بعض الاختلافات الفرعية بين فقيه وآخر لبناء استنتاجات لا تسندها حجج قوية من خطاب الفقهاء ولا تدعمها وقائع التاريخ الناجز. وبناء على هذه النتيجة لا نرى مبررًا لما لجأ إليه بعض الباحثين من مقارنات بين هؤلاء الفقهاء؛ إذ تفترض المقارنة وجود اختلاف جوهري في النظر إلى أسس النظام السياسي أو مرجعيته، وهذا ما لا تدعمه مضامين النصوص التي بين أيدينا”.
المفاهيم الشيعية المؤسسة للمشروعية
في الفصل الثاني، “المفاهيم الشيعية المؤسسة للمشروعية”، يجد ساسي أن المفاهيم الشيعية المؤسسة للمشروعية تترابط سببيًا؛ “فالقول بالنص والعصمة والوصية يفضي إلى رفض القول بإمامة المفضول مع وجود الأفضل. ويمكننا أن نقف على تقسيم ثنائي للمفاهيم الشيعية المؤسسة للمشروعية. في القسم الأول، تجسد مفاهيم النص والوصية والعصمة وعدم جواز إمامة المفضول على الفاضل التعبيرات الدينية والسياسية للرؤية الشيعية التي تقول بالأساس الديني للسلطة، في مقابل ثنائية النص والاختيار الذي تقول به السُّنة، في حين برز مفهوم الغيبة والتفويض أو ولاية الفقيه ونيابته عن الإمام المعصوم، محاولة للخروج من حالة الفراغ التي عاشها الفقه السياسي الشيعي بعد غيبة الإمام، ومحاولة للإجابة عن إشكالية من يمنح مشروعية ممارسة السلطة في غياب الإمام، أهوَ الفقيه أم الأمة أم كلاهما؛ فالغيبة أخرجت الشيعة من المأزق النظري الذي يفرضه القول إن لا مشروعية للسلطة خارج مرجعية الإمام وأمام عجز الشيعة الواقعي عن تغيير موازين القوة مع السلطة القائمة. وبصرف النظر عن أسباب الغيبة الدينية التي يقول بها الشيعة، فإن الغيبة مثّلت مخرجًا عمليًا ونظريًّا سمح للشيعة بالاحتفاظ نظريًّا بعدم إقرار مشروعية السلطة الغصبية التي تُجسّدها سلطة أهل السُّنة. وفي الوقت نفسه فتح الباب عمليًا للتعامل معها بما يحفظ حقوق الطائفة، وجاء مفهوم التفويض دعمًا لمحاولات الشيوخ المؤسسين من فقهاء الشيعة في اتجاه تجاوز حالة الفراغ”.
المفاهيم المشتركة بين الشيعة والسُّنة
في الفصل الثالث، “المفاهيم المشتركة بين الشيعة والسُّنة”، يبين ساسي أن أهل السُّنة والشيعة الإمامية يتفقون في اعتبار العدل من مفاهيم التأسيس لمشروعية السلطة، بل هو جوهر هذه المشروعية؛ “فالعدل عند الشيعة لا ينفصل عن الطبيعة المقدسة للإمام، في حين هو شرط صحة عند السُّنة، لا تستمر السلطة إلا به. وهذا الخلاف يُبرز، على الرغم من اختلاف منطلقاته، قيمة هذا المفهوم في التأسيس لمشروعية السلطة. وبسّطنا القول آنفًا في علاقة العدل، حضورًا وغيابًا، بمشروعية السلطة، ووقفنا على أن العدل يُمثل جوهر نظام الحكم والمحدد لعقد الإمامة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم مثلما صاغه الفقهاء من أهل السُّنة أو من الشيعة، لكن الصياغة كانت صياغة نظرية لم تمنع من وجود تعامل واقعي مع السلطة القائمة المنحرفة عن مبادئ العدالة، وذلك من منطلق مراعاة المصلحة، مصلحة الأمة عند أهل السُّنة ومصلحة الطائفة لدى الشيعة الاثني عشرية”، كما يقول.
المرجعية السنية للمشروعية
في القسم الثاني، “مرجعية المشروعية”، فصلان. بحسب الفصل الرابع، “المرجعية السُّنية للمشروعية”، إن قيام المرجعية على مبدأ الحاكمية يجعلها مُتعدّدة؛ نظرًا إلى اختلاف المتعاملين مع النص الأصلي ومصادر التشريع، قراءةً وفهمًا وتنزيلًا، ومتجدّدةً ومرنة بحسب الزمان والمكان، وهذا ما عبّر عنه الفقهاء بمفهوم “أهل الوقت”، وهي مرجعية تابعة، لا تخرج عن إطار النصوص الأصول.
يقول ساسي: “يؤدي هذا الربط بين المفهومين، المشروعية والحاكمية، إلى تعدّد مؤسسات المراقبة في المجتمع؛ فإضافة إلى مؤسسة الفقهاء والمجتهدين الذين يتولّون مهمة استصدار الحكم بحسب النوازل، يعمل القضاء، الذي لا يخضع لسلطة من يُعيّنه من الأئمة، إلى جانب مؤسسة المظالم، على مراقبة حُسن التصرف وحماية حقوق الرعية من انحراف السلطة وفقًا لمبادئ الشريعة التي تعود في النهاية إلى مفهوم الحاكمية”.
المرجعية الشيعية للمشروعية
في الفصل الخامس، “المرجعية الشيعية للمشروعية”، يجد ساسي أن من دلالة تأكيد مرجعية الإمام عند الشيعة، باعتباره مصدر المشروعية الوحيد للسلطة وفقًا لمنهج الأنثروبولوجيا السياسية، تجاوز الشيعة مفهوم الاجتماع السياسي؛ نظرًا إلى وضع المظلومية التي كانوا يحيون فيها في علاقتهم بسلطة أهل السُّنة، وترسيخ الفهم عند عموم الشيعة بأن الاجتماع السياسي الشيعي لا يتماسك بالسياسة ومراتبها وتفاضلها وقضائها، بل من طريق نصبه غياب الإمام بما يحمله من أبعاد رمزية وطقوسية ذات منحى ميثولوجي للفعل السياسي. فمن صفات هذا الإمام أنه صاحب الزمان، أي أن سلطته لا تقتصر على أهل الوقت الحاضر الذي تقول به السُّنة، بل تتعدّاه إلى مطلق العصور. نظر الشيعة إلى هذه العلاقة الأبدية في مستوى الزمن من خلال مفهوم الغيبة؛ أي الخروج الموقت من التاريخ من دون الانقطاع عنه إلى حين العودة المنتظرة.
ويضيف المؤلف: “شكّل تمسّك الشيعة بالأساس الديني للسلطة عبر أطروحة الإمامة على امتداد سبعة قرون، بين القرنين الرابع والعاشر للهجرة، دليلًا على غلبة التلازم بين مشروعية السلطة ومرجعيتها من خلال حضور الإمام. ولم تبرز في هذه القرون نظرية سياسية تُتيح للفقيه تمثيلًا كاملًا للإمام المعصوم. ومنع الخلاف في مفهوم الحاكم ومعنى السلطة مع أهل السُّنة كل إمكان لتوحيد الرؤية السياسية بين الفريقين في مرحلة ما قبل الغيبة عند الشيعة، أي حضور الإمام”.
توظيف السلطة للمشروعية
في القسم الثالث، “أشكال توظيف المشروعية”، فصلان. في الفصل السادس، “توظيف السلطة للمشروعية – تجلّياته ومبرّراته”، يذهب ساسي إلى أن جدلية القرب من النص والبعد عنه جعلت وصف السلطة والمعارضة يتغير بحسب موقع الموصوف من النص حتى وإن كان على رأس السلطة؛ “ذلك أننا إزاء نمط من الاجتماع السياسي لا يستمدّ مفهومه من التنظيم السياسي القائم، مثلما هو شأن الاجتماع السياسي الحديث، حيث الدولة تُحدّد مفهومي السلطة والمعارضة، بل إن الاجتماع الإسلامي يحتكم إلى جملة من المفاهيم، مثل مفهوم الأمة والجماعة والوحدة، وخوف الفتنة التي تعلو على التنظيم السياسي القائم على الرغم من هيمنته، فنحن نجد مثلًا نوعين من النظام السياسي: نظام الخلافة الذي تحوّل إلى تيمة رمزية مقدسة اقترنت بالدين على الرغم من ضعف حضورها الواقعي ونظام السلطنة الذي تحوّل إلى أداة الفعل في الواقع، وفرض على الاجتماع السياسي الإسلامي في العصر الوسيط نمطًا من الحكم والفقه والعلاقات، يصل أحيانًا إلى حد التناقض مع المفاهيم المؤسسة للمشروعية والضوابط الشرعية المرجعية العليا للسلطة في ذلك الاجتماع من دون أن يقطع الصلة بنظام الخلافة على ضعفه بحثًا عن مشروعية دينية تضمن له الطاعة المجتمعية”.
توظيف المعارضة للمشروعية
يبحث ساسي في الفصل السابع، “توظيف المعارضة للمشروعية – مظاهره ومقاصده”، واحدة من أهم إشكاليات الاجتماع السياسي الإسلامي، وهي إشكالية علاقة المعارضة بالسلطة في أبعادها المختلفة؛ “ذلك إننا إزاء اجتماع سياسي مخصوص يتفق فيه الفاعلون على اختلاف مواقعهم بشأن المرجعية العليا لهذا الاجتماع، ويبدي الجميع تمسكه بمبدأ وحدة الجماعة التي تؤطر اجتماعها وتعلو على كل تنظيم سياسي، لكن تنزيل هذه المبادئ في واقع العمل باعد الشُقة بين المتفقين، فبدت قضايا الاتفاق والإجماع محل توظيف من الجانبين بما يخدم رؤية كل فريق”.
ويضيف المؤلف: “من المقاصد التي وقفنا عندها في مبحث توظيف المعارضة للمشروعية، مقصد تحقيق العدل، ورأينا جوهرية هذا المفهوم في الفقه السياسي للعصر المذكور، وتحوّل هذا المفهوم إلى قيمة موجهة للاجتماع السياسي فيه، بلغت درجة اعتباره قيمة مستقلة في ذاتها تعلو حتى على الاعتبار العقدي المؤسس لهذا الاجتماع من خلال التمييز بين العدالة الإلهية والعدالة العرفية التي تشمل جميع الناس، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، بتبرير مفاده أن العدل مقصد الدين كله، وصاغ هذا الفهم خطاب المعارضة تجاه السلطة صياغة ربطت معها المشروعية بتوافر العدل صفة للحاكم وفعلًا ناجزًا في ممارسة السلطة وشرطًا لإجازة البيعة ومنح المشروعية”.