في أصول “ألف ليلة وليلة”

 

 

(…) ما عرفت العربية كتاباً شغلَ النقاد والدارسين مثل “ألف ليلة وليلة”، ولا ينقضي عام من دون أن نعرف جديداً عنه، دراسة أو ترجمة. هذا يصحّ في فرنسا خصوصاً، إذ عرفت في السنوات الأخيرة ترجمات عديدة لهذا الكتاب (اندريه خوام، اندريه ميكيل وجمال الدين ينشيخ…)، ودراسات لافتة عنه، بالإضافة إلى حلقة دراسية نظمتها مجموعة البحث “أمام” (AMAM)، في جامعة تولوز-لاميراي، وجمعت دراساتها في كتاب صدر قبل سنوات قليلة. أما ما يصح في القاهرة فمختلف، وحمل جديداً عن طبيعة هذا الكتاب التكوينية: أعادت “الهيئة العامة لقصور الثقافة”، في سلسلة “الذخائر”، نشر الطبعة المعروفة بطبعة كلكوتا، وفق طبعتها القديمة في العام 1838، كما نشرت “دار الخيال” كتاباً حمل الجديد عن تكوين النص، وهو كتاب “ألف ليلة وليلة بالعامية المصرية”. فماذا عن هذين الإصدارين؟

إن إعادة نشر طبعة كلكوتا مفيدة طبعاً، لأن هذه الطبعة ما عادت متوافرة في الأسواق، إلا أن تقديمها إلى القارئ لم يسلم من التباسات طاولت مدى صحة هذه الطبعة، ومدى قربها من أصول النص القديمة. فهذه الطبعة هي “الأتم” و”الأكمل” من طبعات “ألف ليلة وليلة” إلا أنها ليست الأكثر قرباً من أصول النص القديمة. فقد أبانت دراسات عديدة، ومنها خصوصاً الدراسة اللافتة التي قام بها محسن مهدي في تقديم كتابه “ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولى”، أن هذه الطبعة “ملفقة” في عدد من موادها، وهو ما يشير إليه القول في عنوانها، وهو أن النص هذا ليس “كاملاً” وحسب وإنما “مكملاً” أيضاً. كما يفيد عنوان الكتاب الفرعي أن لغة المخطوط، بل المخطوطات، التي أخذت منها. ولهذا فقد بدا مفيداً، قبل عرض جديد “ألف ليلة وليلة” بالعامية المصرية، أن أتوقف عند طبعات الكتاب المختلفة.

لا يساور محسن مهدي الشك في أن كتاباً مثل “ألف ليلة وليلة” قابلٌ للتحقيق، ويجد أن المشكلة تكمن في أن متن الكتاب “لم يضبط”، وأصوله “لم تحقق”، وأن النساخ والمصححين عاثوا فساداً فيه، فأخرجوا الطبعات المختلفة عن أصول غير معروفة وأخرى ملفقة أو موضوعة. أي أن مهدي لم يساوره شك بأن مشكلة الكتاب هي عدم عمل المحققين الرصينين عليه، وأن له (أي للكتاب) بالتالي، مثل غيره من الكتب العربية القديمة، “أصلاً” و”ثابتاُ” بالضرورة: “فحكم (أي العاملون على الكتاب قبله) أن الكتاب لا أصل له إلا ما حكته القصاص وما نقلته شفاهاً الرواة، وأنه أبداً كالماء الجاري يتلون بألوان مجاريه، فظنّ أنه ليس هناك متن ولا كتاب”.

وهو ما سعى إليه مهدي في نقده، بعد غيره من المستشرقين، للطبعات الصادرة قبل تحقيقه في العام 1984. ويميّز مهدي، عن حق، بين نسخ الكتاب الخطية، التي جرى تناقلها بين أوروبا والشام ومصر طوال عدة قرون، وبين طبعة الكتاب الأولى، التي صدرت في كلكوتا في الهند، في جزئين (الجزء الأول في العام 1814، بعنوان: “حكايات مائة ليلة وليلة يشتمل على حكايات مائة ليلة وأخبار السندباد مع الهندباد”).

فمنذ صدور الطبعة الأولى، هذه، بدأ التحريف يطاول “ألف ليلة وليلة”: الشيخ أحمد بن محمود شيرواني اليماني، المدرس في قسم اللغة العربية في “كلية فورت وليم”، لم يحافظ على الأصل الذي نقل منه، بل صححه في عدد من المواضع وفق طبعه اللغوي، كما أقحم في المخطوط، الذي استقى منها الحكايات، حكايات مستقاة من أصول أخرى. بل أكثر من ذلك، وهو أن النسخة التي عمل عليها شيرواني، و”نقحها”، منقحة هي الأخرى عن نسخة خطية أخرى، ومنقولة في حلب بين العام 1750 والعام 1771، للطبيب الإنكليزي باترك رسل، نزيل حلب آنذاك. ويخلص مهدي إلى القول بأن طبعة “ألف ليلة” الأقدم “نص ملفق ابتُدع تركيبه والكثير من لغته”.

 

كما أصابت الطبعة الثانية، طبعة برسلاو، مشاكل جديدة زادت من وصول “ألف ليلة وليلة” المختلف طبعة تلو طبعة: الطبعة الأولى، السابقة، لم تكن كاملة، وهو ما تلافاه العاملون على طبعة برسلاو، التي صدرت في أوقات مختلفة، بين 1824 و1843، وأتى عنوانها: “هذا كتاب ألف ليلة وليلة من المبتدأ/ المبتدا إلى المنتهاء/ المنتهى”. وقام المستشرق دانكان ماكدونالد بنقد هذه الطبعة، وأظهر أنها بخلاف ما تدعيه، غير مأخوذة عن نسخة خطية تونسية، بل عن غيرها مما جرى نقله في باريس، ومن نسخ خطية عديدة، بعضها شديد التأخر، عدا أنها نسخ جرى التلاعب في مادتها، مثل تقسيم “الليالي” وغيرها.

أما الطبعة الكاملة والمستندة إلى نسخة (أو أصل) خطية واحدة فهي طبعة بولاق، الصادرة في العام 1835، ويرجع تاريخ هذه النسخة (وغيرها المشابه لها) إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، وجرى جمعها في القاهرة من أصول متفرقة لم يكن أكثرها جزءاً من الكتاب كما حفظته النسخ القديمة. محسن مهدي نقد هذه الطبعة نقداً مبنياً على حجج وأدلة،غير أنه لم يتورع – وإن في مرة واحدة ويتيمة في دراسته النقدية – عن اجتراح رواية لتفسير ما أصاب هذه الطبعة من تلاعبات: “يظهر أن السواح الأوروبيين ممن زار القاهرة خلال القرن الثاني عشر من الهجرة (القرن الثامن عشر من الميلاد) – وكانوا قد عرفوا الكتاب مترجماً إلى لغاتهم من نسخ خطية اعتقدوا هو أيضاً أنها ناقصة – جاؤوا يبحثون عن نسخة “كاملة”، فقام شيخ من نساخ القاهرة “بجمع” نسخة جديدة من الكتاب لهم. جمع فيه إلى ما وجده آنذاك في النسخ “الناقصة” (وكان بينها نسخ “أكملت” النسخ القديمة بعض الشيء دون أن تأتي بألف ليلة وليلة) ما قدر على استحصاله من كتب القصص والحكايات والسير من دور الكتب وباعتها، فألف متناً جديداً قسمه إلى ألف ليلة وليلة ووضع في آخره الخاتمة المعروفة”. هي “رواية” مهدي، إلا أنها تستند إلى بعض الأدلة، بعد أن قارن بين نسخ مختلفة سابقة على نسخة الطبعة هذه وبين نسخة الطبعة، فظهرت له الزيادات فيها. لهذا يخلص مهدي إلى القول إن نسخة بولاق “الكاملة” ملفقة، عدا أن ناشرها أعمل يد التصحيح فيها، وهي لا تعدو كونها رواية جديدة للكتاب تنقصها خصائص عصر وفنّ الرواية القديمة.

أما طبعة كلكتا الثانية (1839 – 1842)، والتي أعيد نشرها في القاهرة مؤخراً، فمأخوذة عن أصل مصري جلبه إلى الهند طرنر مكان، إلا أن يد التصحيح أصابت النسخة هذه في عدد من المواضع، وزيدت عليها زيادات من طبعة كلكتا الأولى، فأتى الكتاب الجديد مثل ما يفيد عنوانه “كاملاً مكملاً”.

ويخلص مهدي من مراجعاته هذه إلى القول: “شاءت الأقدار أن يبقى كتاب هذا شأنه في ثلاث طبعات مزيفة وطبعة بولاق التي تزخر بالتحريف والنقص، يقرأها الناس دون علم بما تقدم من نسخ الكتاب الخطية وما تأخر أو معرفة بصلة هذه الطبعات بالأصول التي اعتمدتها أو إدراك لطبيعة أصول الكتاب ما هي ومتى نشأت وما جرى للغتها وتركيبها عبر القرون التي نسخت فيها”.

اجتهد مهدي كثيراً، وعمل طويلاً على طبعات ومخطوطات “ألف ليلة وليلة” المختلفة، واتسم عمله بمسعى “تثبيتي”، إذا جاز القول، لهذا الكتاب الثمين، ما يدعوه إلى القول: “النسخ الخطية المعروفة، اليوم، ليست نسخاً لكتاب بالمعنى المتعارف عليه لهذا الاسم، بل يجب فحصها وتصنيفها إلى روايات، وتحقيق كل منها على حدة”؛ و”إعادة تركيب أصل، من نسخ متعددة لكتاب مثل هذا الكتاب، هو أمر مشكل أيضاً”.

 

هذا ما بدأ به مهدي، فجمعَ النسخ الخطبة المتوافرة (لا الطبعات)، وقارنََ موادها، وتحققََ من وجود “عائلتين” من النسخ، هي: العائلة المصرية والعائلة الشامية، جازماً: “لا نكاد نعرف اليوم شيئاً عن متن الأمهات القديمة التي سبقت النسخة الأم، وهي نسخة لا يعود تاريخها إلى ما قبل القرن السابع من الهجرة (القرن الثالث عشر من الميلاد)”.

يفيد مهدي عن وجود ورقة من نسخة سابقة على هذه النسخة، تعود إلى بدايات القرن الهجري الثالث، غير أنها تشير إلي عنوان الكتاب وحسب (“كتاب فيه حديث ألف ليلة”)، لا إلى متنه، بالإضافة إلى ذكر ابن النديم والمسعودي للكتاب. هناك أصل، إذن، إلا أننا لا نملك شيئاً من متنه، وأول ما يبلغنا منه هو النسخة الأم التي لا نملكها، بل هي أصل أول للكتاب الذي ننظر في نسخه الخطية. لهذا فإن تحقيق مهدي يتناول النسخة الدستور، أي ما بلغ من النسخة الأم، وهي أصل النسخة الخطية المتفرعة، كما قلت، في عائلتين. ولو عدت إلى النسخ المتوافرة لوجدت أن أقدمها، في الفرع الشامي، يرقى إلى القرن الرابع عشر من الميلاد، وأن نسخ الفرع المصري لم تمتزج أبداً بنسخ الفرع الشامي، وليس ما يعود إلى ما قبل القرن السابع عشر الميلادي.

ونحن إن وجدنا في تحقيق مهدي أموراً نافعة في التحقيق – وفيه الكثير منها، من دون شك -، فإن هذا النفع لا يغيب كونه يبحث عن “أقدم” الأصول، ولكن المتوافرة. ولكن هل يصح في الكتاب ما يصح في غيره، وهو وجود أصل أول فعلاً تفرعت منه الأصول، بل النسخ اللاحقة؟ هل سيغير وجود أصول سابقة من الأصول المغيبة شيئاً من حقيقة هذا الكتاب؟

بدا لي مفيداً، قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، أن أعرض ما يقدمه كتاب “ألف ليلة وليلة بالعامية المصرية”، ذلك أن العرض يفيد أننا قد نجانب الصواب إذا جعلنا من الجهد “التثبيتي” لألف ليلة وليلة في نص “ثابت” غرضاً لعملية نقد هذه المخطوطات والطبعات. فهذا الكتاب الجديد يشتمل على خمس حكايات فقط، ومنها حكاية واحدة موجودة في النص المتداول لألف ليلة وليلة، عدا أنه مكتوب بالعامية المصرية. كما أتحقق في هذه الحكايات من كونها تنقسم إلى حكايات وحسب، أي لا تنزل في قسمة “الليالي” أبداً، مثلما ألقى ذلك في طبعات الكتاب المتوافرة. ماذا أقول عن الخصائص التكوينية للحكايات هذه؟ أهي نسخ محرفة عن غيرها؟ أعلينا أن ننسب اختلافها عن غيرها إلى أخطاء في النقل (وهو ما يجيب عنه عمل المحققين، مثل مهدي وأقرانه)، أم إلى عمليات “تملك” طاولت النسخ، فجعلت ناقلي الحكايات يعيدون إنتاجها من جديد (وهو ما يتطلب نظرة نقدية مختلفة، غير النظرة “التثبيتية”)؟

أثير هذه الأسئلة، ذلك أنني أعتقد، مع تسلسل صدور طبعات مختلفة من “ألف ليلة وليلة”، ومع تقدم المجهودات النقدية في فحص مخطوطاتها (ومنها ما يظهر من مخطوطات جديدة، مثل الحكايات الخمسة المصرية، وغيرها ربما في السنوات القادمة)، أن علينا أن نحاول مقاربة أخرى ترى إلى هذا الكتاب المخطوط، لا الطباعي، بوصفه مدونة، لا نسخة عن أصول ضائعة أو محرفة.

لا يعني هذا أن مجهودات مهدي – الأثمن في هذا النطاق – عديمة النفع، بل ساهمت أكثر من غيرها في إجراء مقارنات نافعة بين المخطوطات المختلفة، عدا أنها أظهرت معالم الاختلاق والتزوير والإقحام والتنقيح والزيادات التي طاولت طبعات الكتاب المختلفة، كما عرّفتنا كذلك على بعض الأحوال التي أصابت هذا الأثر، في تاريخه المعروف على الأقل.

إلا أن مسعى مهدي في وضع صيغة جديدة لألف ليلة وليلة، بوصفها الأقرب من الأصول العربية الأولى، غير مقنع في حاصله: طبعاً، نحن أمام نصّ متصل، مثل النصوص التراثية المتصلة التي يعمل عليها المحققون عادة، غير أن الحالة مختلفة مع مخطوطات “ألف ليلة وليلة”، ذلك أن اتصال هذا النص يبقى دون الاتصال المتحقق بين مخطوطات مختلفة عن كتاب واحد: الفروقات بين المخطوطات هذه تبقى طفيفة لا تتعدى تحريفاً في كتابة لفظ أو عبارة، فيما الفروقات في مخطوطات “ألف ليلة وليلة” تتعدى ذلك، وتصل إلى عدم إيراد حكايات أو مقاطع وغيرها. ملاحظة أخرى: طبعاً، توصل مهدي إلى الكشف عن فروقات بين المخطوطات، ما أتاح له القول والفصل في أسبقية وأقدمية هذا المخطوط أو ذاك، إلا أن الفروقات هذه لا تعني أن ما وضعها في صيغة كتابية، هي المطبوعة، توافق، في صورتها الإجمالية، مخطوطة وجدت في زمن ما، لكنها ضاعت مع توالي الأيام.

مخطوطات “ألف ليلة وليلة” مدونات مختلفة، وليست فروعاً أو نسخاً محرفة عن أصول يمكن الوصول إليها أو إلى بعض أحوالها. وهي مدونات لها ما يؤلفها، في متنها الحكائي، وفي ما دعت إليه حاجةُ جمعها (وروايتها في عهد ما) في مخطوط، وإن صدرت عن حكايات سابقة ومعروفة (لنا ربما، اليوم، لا لغيرنا في عهد جمعها)، أو عن أصل ضاع في الزمن، أو وصلت منه نسخ ومخطوطات أو مدونات أو نقولات شفوية. فالحكايات الخمس، التي نشرها المحققان المصريان، على سبيل المثال، ليست مقطوعات من نص مفقود، بل هي مدونات مكتملة في ذاتها، في سردها، وفي البواعث التي أدت إلى حصولها واجتماعها حكاية حكاية في عهد ما. وعلينا بالتالي أن ننظر إلى المدونات المختلفة، بوصفها تنتسب إلى الثقافة المتناقلة، لا إلى الثقافة الثابتة والمثبتة.

“أصول” ألف ليلة وليلة

تعود الطبعة الجديدة من “ألف ليلة وليلة”، المنشورة في سلسلة “الذخائر”، إلى مخطوطة ما سبق أن عملَ عليها المحققون، أو استندوا إليها في الإصدارات السابقة، أي طبعة بولاق، التي أعادت “دار صادر” في بيروت إصدارها. والمخطوطة هي طبعة في أربعة مجلدات ترقى إلى سنة 1839، تفيد في صفحتها الأولى ما يلي: “كتاب ألف ليلة يدعى عموم الأسمار سكرتير الدولة الإنجليزية في الممالك الهندية في أربعة مجلدات في لسانه الأصلي العربي منقولاً من نسخة كتبت بالديار المصرية وأوراها بالهند المرحوم برنار ترنر ماكان”. وتسبق هذه الطبعة القديمة بالتالي طبعة بولاق بست سنوات، وتمتلك عدداً من المميزات كذلك. من بينها أنها تتضمن حكايات “علاء الدين والمصباح السحري”، و”علي بابا والأربعين حرامي”، كما تقترب لغتها من العامية المصرية، فيما صدرت الطبعة السابقة (طبعة بولاق) بلغة “مفصحة”. ما يمكن القول عن الطبعة الجديدة؟ أهي النسخة الأتم والأكمل من “ألف ليلة وليلة” أم هي صيغة أخرى تضاف إلى غيرها، وتنيرنا عما هو عليه حال هذا الأدب المتناقل من بيئة إلى أخرى عبر عمليات “تملك” تصيبه، فتبدل شيئاً من مادته، من لغته، بين عملية وأخرى، فينتج عن ذلك صيغ ونسخ متعددة للأثر–الأساس؟

مثل هذه الأسئلة وغيرها تثيرها طبعات “ألف ليلة وليلة” المختلفة، لأنها متوافرة في عدد من موادها، فيما نفتقد إلى مواد تظهر أحوالاً أخرى في هذا الأدب. فنحن ما عتمنا منذ القرن الهجري الرابع نتبادل أخباراً وتصويبات واختلافات عن أثر جرى الخلاف حتى حول إسمه، بين قائل، كما في طبعة كلكوتا هذه، إنه كتاب “ألف ليلة”، وقائل إنه كتاب “ألف ليلة وليلة”، مثلما جرت تسميته. أهو أثر واحد فعلاً؟

يقول حسن أحمد الزيات، في محاضرتين منشورتين في العام 1932، أنه ليس من اليسير على الباحث الكشف عن حقيقة كتاب كألف ليلة وليلة “أصله مفقود”، ومؤلفه “مجهول”، وزمان وضعه “مبهم”، ومكان حوادثه “مشتبه”. بطبيعة الحال، إلا أننا نمتلك في المظان أخباراً عن هذا الأثر الواحد – المختلف – المتعدد في آن: المؤرخ المسعودي (-346 هـ.) هو أول من ذكره، في “مروج الذهب”؛ وهو ما عاد وقاله المؤرخ الآخر ابن النديم ( -385هـ.) في “الفهرست”؛ كما يفيد المقريزي في “الخطط”، والمقري في “نفح الطيب”، عن مؤرخ مصري ذكر في إحدى كتبه وجود كتاب “ألف ليلة وليلة” وقاس فيه بين قصص الكتاب هذا وبين ما يتداوله الناس في عصره من حكايات مشهورة.

يتأكد، من النقول هذه، أن التقارب، حتى لا أقول التطابق، متوافر بينها، ما يدعو إلى القول بأن “ألف ليلة وليلة” (مع زيادة ليلة أو من دونها) أثر معروف منذ القرن الرابع الهجري على الأقل. كما أتأكد أيضاً من أن المبنى الفني العام (وعدداً من الشخصيات) هو نفسه بين ما قالته النقول القديمة وبين ما هو متوافر حالياً في نسخ هذا الكتاب.

يتحدث الزيات، في المحاضرتين المذكورتين أعلاه، عن “طبقات” مختلفة في هذا الأثر، أي عن مصادر دخلت في متنه، وهي ثلاثة في حسابه: أصل الكتاب “نواة” من الأقاصيص الهندية والفارسية، تسمى “هزار أفسانه”، وجرت ترجمتها إلى العربية من الفهلوية في القرن الهجري الثالث، ثم تجمع حول النواة بين القرن الرابع والقرن العاشر من الهجرة طبقتان: بغدادية صغيرة وطبقة مصرية كبيرة.

وحديث الزيات مفيد، ويقترب مما يقع في مادة الكتاب كما بلغنا، ذلك أننا لا نعثر على أدلة تفيد عن كون الحكايات هي هي، في ما عرفه المسعودي وابن النديم، وفي ما عرفه المؤرخ المصري في العهد الفاطمي، أو في ما بلغنا من طبعتي كلكوتا اللتين تعودان إلى مطالع القرن التاسع عشر: لاحظت في الحديث المنقول عن المؤرخ المصري (الذي يرقى إلى العهد الفاطمي) أنه قايس بين حكايات الكتاب وبين ما هو متداول من حكايات في عصره، ما يشير إلى تقارب محتمل، بل أكيد، بين المادتين. كما ألاحظ في الطبعة الجديدة التي صدرت في مصر، على ما يقول الكاتب جمال الغيطاني، المشرف على سلسلة “الذخائر”، أنها تشتمل على حكايات غير موجودة في الطبعة السابقة، مثل حكاية “علاء الدين والمصباح السحري” و”علي بابا والأربعين حرامي”. ما يعني هذا؟ هل يمكن الجزم أن ما هو ماثل في الطبعة الجديدة هو من أصل السيرة – الأساس، أم هو من إقحاماتها وزياداتها؟ وأين الأصل من الزيادات أو التغييبات؟

يمكن أن نعود إلى أنماط السرد، وهي مختلفة بين حكاية وأخرى: فهناك نمط دمج حكاية في حكاية أخرى، أي نمط “التوليد”؛ ويرجع، على ما يقول بعض الدارسين، إلى طريقة هندية في سرد الحكايات، معروفة في الأدب القصصي الهندي، في “مهابهاراته” و”وبنجه تنتري”، وهو ما أراه متحققاً، على سبيل المثال، في حكايات البنات الثلاث والصعاليك الثلاثة، وحكاية الخياط والأحدب والطبيب، وحكاية شان شاه، وحكاية وردخان وغيرها. ويمكن أن تتخذ الحكايات المتوالدة شكلاً مختلفاً في التعالق، وهو أن تكون في أي باب مقدمة لحكاية الباب الذي يليه.

وهناك نمط ثان يمكن تسميته بالنمط الفارسي، ويقوم على الحكايات المفردة المجردة كحكايات العشاق أو ما يُلقى في مجلس وغيرها. وهناك نمط سردي ثالث يمكن تسميته بالعربي (من دون أن يكون مخصوصاً بهم وحدهم، أو قبل غيرهم من الشعوب)، حيث أنه عرف عنهم رواية أسمار وأحاديث قائمة بذاتها ولا تتعالق أبداً مع غيرها، وهو ما نراه بيناً في الأقاصيص الصغيرة المقتبسة من كتب الأدب كحكايات حاتم الطائي وحكاية معن بن زائدة وحكاية إبراهيم بن المهدي وغيرها.

هناك أنماط سردية ثلاثة في الأثر الواحد، وهناك أيضاً تقاربات حكائية لافتة بين عدد من حكايات “ألف ليلة وليلة” وبين حكايات مذكورة في مصادر أخرى: هناك قصص عربية معروفة في القرن الهجري الثاني تجاور ألفاظاً وعادات غير معروفة قبل القرن السابع عشر الميلادي. ما يعني هذا؟ كيف لنا أن نقر بأصلها القديم إذا وقعنا، كما في حكاية عمر النعمان، على أمور وأخبار وعادات غير معروفة إلا في سياق الحملات الصليبية، التي حصلت بين 1097 و1291م.؟

قام الكاتب عبد الغني الملاح بذكر توافقات لافتة بين عدد من حكايات “ألف ليلة وليلة” وحكايات واردة في كتب عربية قديمة، مثل التوافق بين حكاية على بن بكار مع شمس النهار، وما حكاه ابن الجوزي في “المنتظم” عن قصة حقيقية مشابهة جرت لجارية السيد شغب، أم المقتدر وعشقها لأحد أولاد التجار. كما يذكر غيرها في كتابه “رحلة في ألف ليلة وليلة”.

أنماط سردية مختلفة، وحكايات متفاوتة القدم، بينها القديم للغاية والمستجد في القرن السابع عشر أو قبله بقليل، بالإضافة إلى اختلافات في عدد من الحكايات، وفي ترتيبها، وفي ألفاظها وتراكيبها، ما يجعلنا نتساءل: أهو أثر واحد أم أثر متناقل، ومختلف بالتالي بين نسخة وأخرى؟ إن هذا السؤال وغيره دعانا إلى الامتناع، في صورة عمدية، عن تسمية هذا الكتاب بـ”النص”، وآثرنا الحديث عنه على أنه “أثر”، فما دعانا إلى ذلك؟

ما أذهب إليه هو أن هذا الكتاب قد يكون في حاصله، أي المتوافر من نسخة (وهي طبعتا كلكوتا، واقعاً، السابقة التي استندت إليها طبعة “بولاق”، والحالية التي تصدر في القاهرة)، صيغة وحسب من نص مفقود، على أن النسخة هذه جرى “تملكها”، أي إنزالها في بيئة ثقافية، هي البيئة المصرية في هذه الحالة، على أنها مختلفة عن نسخ أخرى غير متوافرة حتى يومنا هذا، أو قد لا تتوافر أبداً.

هذا الأمر لا يعين واقعاً “ألف ليلة وليلة” بل أي أثر متناقل، إذ نلاحظ أن المبنى الفني في مواد هذا الأدب المخصوص يقوم على بناء أو مكون سردي قابل لتلاعبات يطلبها التنقل بين البيئات ويتيحها كذلك. هذا ما تحققت منه، على سبيل المثال، في “الحكايات الساحرة” حيث أن الصياد في حكاية ساحرة مصرية، على سبيل المثال، يصبح راعياً في حكاية فلسطينية، أو مزارعاً في حكاية لبنانية، إلى غير ذلك من الحالات.

وهو ما انتبهت إليه في “تغريبة بني هلال” كذلك، التي تتيح في مبناها عمليات التنقل هذه: فنحن، أو أي حكواتي في واقع الأمر والحال، قادر على أن يزيد إلى متن النسخة فصلاً جديداً، أو انتقالاً جديداً لقبيلة بني هلال في ترحالها إلى “أفريقيا” (الإسم الإسلامي لتونس الحالية)، ويؤدي بدوره – أي الانتقال هذا – إلى رفض القبيلة دفع الضريبة، وإلى مواجهات تقوم بها مع طالب الضريبة، وتنتهي كما في خاتمة كل انتقالات القبيلة، إلى انتصار القبيلة اليمنية، وإلى تنصيبها حاكماً جديداً بدل الذي هزمته وخلعته.

يمكن تسمية جانب كبير من المبنى الفني لـ”ألف ليلة وليلة” بـ”لعبة الدمى الروسية” (دمية صغرى تحل في قالب دمية أكبر حجماً منها، وهكذا دواليك): ما يتيحه مبناها، في بعض الأبواب من دون غيرها، هو إمكان دخول حكاية مكان حكاية أخرى، أي استبدال واحدة بأخرى، تبعاً لانتقال هذا الأثر في البيئات التي تناقلته. أما المبنى الفني في “الحكاية الساحرة” فيشبه عمليات الاقتباس، إذ يقوم الحكواتي بـ”تبيئة” الحكاية التي سمعها من بيئة غير بيئته، ويحملها من “الحشو” السردي ما يتيح لسامعها من بيئة الحكواتي نفسه التعرف عليها والتماهي معها على أنها من خصوصياته. أما مبنى “تغريبة بني هلال” الفني (وغيرها كذلك من سير البطولة العربية) فيشبه آلة “الأكورديون”، حيث أن ناقل السيرة، أي الحكواتي، قادر على مطها أو شدها، على اختصارها أو الزيادة عليها، ما شاء، بشرط ألا تختلف مع مكون السرد (انتقال – مواجهات – انتصار)، ولا مع غرض السيرة، وهو التوجه غرباً، وإن تعددت السبل.

إن دراسة مواد هذا الأدب المتناقل تتيح، في واقع الأمر، تبين أحوال “التنصيص”، سواء في الأدب المتناقل أو المثبت في نسخة هي “النص” طالما أن أحداً يتبنى هذه الصيغة و”يوقعها” (إذ أن الاسم الذي يرد في الكتاب على أنه “المؤلف” قد لا يكون اسماً عائلياً أو “أصلياً”، بل اسماً فنياً وحسب)، ولا يبدلها. ومن فوائد “ألف ليلة وليلة” أنها تتيح لنا، بعد توافر مواد مختلفة ومتباينة عنها، ومنها طبعة القاهرة الجديدة، الوقوف على أحوال التنصيص هذه، وكشف أمور واقعة في الأدب المتناقل، وتتيح دراستها في صورة أفضل لو جرى إخضاع مواد هذا الأدب للقراءة اللسانية، لا القراءة “الفولكلورية” أو “الشعبية”، التي تقصرها على قراءة معانيها وحسب، من دون ألفاظها أو تراكيبها وأحوالها التنصيصية التي خضعت لها في عمليات التنقل والتملك.

***

(شربل داغر : “من “الأدب الشعبي” إلى الأدب المتناقل”، مجلة “حوليات كلية الآداب والعلوم الإنسانية”، جامعة البلمند، الكورة (لبنان)، العدد 9، 1999، صص 57-90).

اترك رد