جميل الدويهي: جبران النبيّ وأنا الجاهل الأمّيّ

لم يسبق لي في حياتي أن تمثّلت بجبران خليل جبران، ولا يذكر في أيّ نصّ كتبته أنّني أدعي التشبّه به، فمن العيب أن أكون غير أنا. مكتوب على هويّتي: جميل الدويهي… فلماذا أكون غيري؟

قرأت لكثيرين من المفكّرين والأدباء، واحتفظت بشخصيّتي الأدبيّة الخاصّة. ولست مثل مَن بدأوا بالكتابة في سنّ متأخّرة، فجاءت كتاباتهم هزيلة، كما لست ممّن هربوا من صفّ العروض إلى الشعر. فقد بدأت الكتابة في سنّ مبكرة، ووقفت خطيباً على المسرح في التاسعة من عمري، وتعلّمت، وتدرّجت من الشعر، إلى القصّة والرواية، والتأريخ، والفكر، ودرست الإنكليزيّة على نفسي وكتبت بها، وبين هذا وذاك الدراسة الأكاديميّة والنقد. وقد هجرت هذا الأخير تقريباً لأنّني صادق، والأدباء لا يحبّون أن يكون الناقد صادقاً.

كلّ الذين يتابعون أعمالي، يعرفون مقدار التنوّع الذي يطبع كتاباتي. وهذه أهمّ نقطة محوريّة أرتكز عليها في رسالتي الإبداعيّة، وفي مدرستي أفكار اغترابيّة. ويؤسفني أنّ هناك مَن يعرجون ويريدون غزو الكواكب. ويحاولون أن يقلّدوا طريقتي، وفي الوقت ذاته ينتقدونني لأنّني أبتعد عن مكامن الضعف، وأرفض الإملاءات التي تأتيني من كلّ صوب وأوب بأن أخفي شمعتي تحت مكيال، أو أن أضعها في مقام الفحمة المنطفئة… وأرفض أن أسيء إلى أحد، لكن لا أعترف إلاّ بما هو صحيح، وما ينسجم مع رؤيتي النقديّة، فالأدب ليس صفّ كلام، ولا هو شغف تلاميذ الصفّ الخامس الإبتدائيّ. هو مشروع حياة، وبناء مدينة تتكامل في رفعتها وفي قامتها الإنسانيّة. وليس عاراً عليّ أن أكون كثير التنوّع، ولا عيباً أن أعلن عن أعمالي. فكلّ إنسان ينشر كتاباً، يحتفل به، ويعلن عنه… وإذا كنت أنشر كثيراً وأعلن عن منجزاتي، فتلك ليست مشكلتي، بل مشكلة مَن لا ينشر.

وإذا كنت في أستراليا، أحاول أن أبني مدينة حضاريّة، فهذا من حقّي، وليس لأي نظام قمعي، همجيّ، أن يحرمني من أحلامي التي قطعت آلاف الكيلومترات لأحقّقها، ولو حبراً على ورق. والذين يشاركون في الثورة من أجل الحرّيّة والتغيير، ثمّ ينقلبون عليها بأمر من المرجع الطائفيّ، هم آخر من أفكّر بهم وبإبداعهم التعيس… فمرجعي الإنسانيّة التي تتخطّى الصراعات والمذاهب والأديان.

وعندي مشروع وصفتْه الأديبة مريم رعيدي الدويهي بمدينة القيَم السامية، والشعر الذي يتحدّث عن اللقاءات والعري والجنس والتفاهة آخر ما أهتمّ به. كما الشعر كلّه من أقصاه إلى أقصاه لا أعتبره إلا جزءاً من أعمالي.

حاولت أن أنشئ مدينة فيها الله النور الأوّل، وأنوار أخرى هي شيء من خيالي، كما خيال طفل يريد أن يعيش في سلام، حيث يركض من غير هدى ولا حدود، ويلعب في الشمس والعواصف، ويترك طيّارته لتعبر السموات السبع ولا يوقفها أحد.

هو طفل عيناه إلى فوق، يوازن بين الدِّين والعِلم، وهو يتلعثم في كليهما، فلا هو رجل دِين ولا هو عالِم أو  فيلسوف… بل هو إنسان صغير في كون كبير، يريد أن يعيش من دون خوف ورهبة.

دعوت إلى السلام والمحبّة، واعتبرت أنّ الحروب هي نتيجة الميل إلى الوحشيّة، وروحيّة القبائل التي عاشت قبلنا بآلاف السنين، فنحن في تركيبتنا العضويّة، وفي حمضنا النووي، ما نزال نحتفظ بآثار لا تُمحى من همجيّة الإنسان القديم الذي كان يسعى إلى العنف حفاظاً على حياته، ويجد في قتل الآخر، من أبناء القبيلة الأخرى، مصدراً لطمأنينته وسعادته، فالآخر، وإن يكن بريئاً، يمثّل خطراً ينبغي التخلّص منه بأيّ طريقة.

إنّ الله الحقيقيّ يدعو إلى العدل، والرحمة، والسلام، والمحبّة، والحكمة، والتسامح، والتواضع، والعطاء، والإبداع… وهو يحوي مجموع القيَم السامية التي يجب أن نعتنقها، وإلاّ فقدنا صلتنا بالخالق، وأصبحنا شعوباً متناحرة، تفتقر إلى الأخلاق، وتسود فيها شريعة الغاب.

وفي مدينتي توازن دقيق بين الروح والجسد، والخير والشرّ، والدِّين والعِلم. كم لا يُدان المرء فيها على انتمائه، ولا يُكفَّر، ولا يُضطَهد… فإنسانيّته أهمّ من دِينه، وقد وُلد إنساناً قبل أن يتّخِذ له أهله دِيناً، وقيمتُه الأولى تغلب على أيّ قيمة أخرى، مهما كانت عظيمة.

هذه مدينة جميل الدويهي وليست مدينة أحد آخر، بنيتُها من معرفتي وثقافتي وإيماني وانفتاحي على الحضارات، وخروجي من دائرة الشعر إلى فضاء أوسع… وهي ليست أورفليس، وأفكار جبران أنتقدُ كثيراً منها، كالخير والشرّ، والتقمّص، والحلوليّة، وجمال الموت، وتعاون الشيطان مع الخوري… وكلّ هذا ثابت في أعمالي… وإذا كان أحدهم قد لقّبني بجبران الجديد، أو جبران الثاني، فهذا شأنه، وليس شأني… أمّا أنا فجميل الدويهي القديم الذي يطوّر نفسه إلى كلّ جديد…

لست أعرف مبرّر السخرية لدى طبقة من البشر من إبداعي، وهم لا يعرفون كتابة القصّة القصيرة… فكيفما اتّجهت لا أعجبهم. وكأنّ الله خلقني مجرّداً من أيّ نجاح، وقد أعطى غيري مفتاح الرؤية، ولو بكتاب واحد قد لا يقرأه أحد. أما كتبي التي قاربت على الخمسين كتاباً من كلّ شكل ولون، فهي من سوق الأحد.

جبران كان النبيّ، وأنا الأمّيّ. لا أشبهه ولا يشبهني. ومِن الكذب والنميمة والخبث أن يقول أحد إنّني تمنّيت مرّة أن أكون مثله… أو أنّ جملة واحدة مرّت في أعمالي تدلّ على أنّه مثلي الأعلى… والمدينة التي أطمحُ إليها كانت طُموحاً لدى كثيرين قبل جبران وبعدَه أيضاً.

***

(*) جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي – سيدني 2021

اترك رد