لوحات رامبرانت حول المسيح بحث عن شكل حقيقي لـ “مسيح إنساني” عانى الوحدة والخوف من الألم

بقلم: كلود أبو شقرا

  لم يكن إبن الطحان الفقير في هولندا يعلم عندما بدأ يرسم المسيح برؤيته الخاصة الاقرب إلى الواقعية أكثر من الألوهة أن لوحاته ستجول البلدان inzal-al-massih-an-salib-1-1والمتاحف  وستخلد اسمه كأحد اهم الرسامين التشكيليين في العالم.   رامبرانت الإبن الثامن في عائلة مؤلفة من تسعة أطفال، فهم المسيح على طريقته الخاصة ورسمه صورة عن ذاته بكل تناقضاتها بخوفها وقلقها ووحدتها، وأضفى عليه هالة نورانية  منبثقة من تقنية النور والظل التي كان أول من ابتكرها وأصبحت القاعدة الأبرز في الرسم التشكيلي يعتمد عليها الرسامون كلغة تعبير عن عالمهم الخاص القائم على الخط واللون.

  لوحات رامبرانت حول المسيح معروضة في متحف اللوفر في باريس، متحف فيلادلفيا للفنون،  معهد ديترويت للفنون، وغيرها من ئأهم متاحف العالم،  وهي بمثابة رحلة في عالم هذا الفنان في مراحل حياته المختلفة التي جسدها في لوحاته سواء من خلال فن البورتريه الذي برع فيه أو من خلال رسم شخصيات مستوحاة من الكتاب المقدس في مقدمها بالطبع المسيح الذي حمّله آماله وهو شاب وآلامه وهو كهل.

 باختصار لوحات رامبرانت تختصر بدايته كشاب ذكي قلق غير واثق بنفسه مروراً بالفنان الناجح والغني وصولاً إلى الكهل المضطرب والفقير.

 سبع لوحات زيتية على الخشب تمثل وجه المسيح معروضة للمرة الأولى منذ رسمها  رامبرانت في متحف اللوفر،  تكمن أهميتها في السؤال الذي طرحه رامبرانت حول إمكانية تقديم المسيح من خلال موديل حي، وتكشف الطريقة التي اختارها رامبرانت للتميّز عن معاصريه في رسم المسيح بطريقة أصلية.  massih-a-la-salib-2-2

  منذ شبابه أبرزت أعماله  رفضه الانضمام إلى المفهوم المعتاد لرسم صورة المسيح، مع لوحة “تلميذي عماوس” التي تمثل المسيح في وضع معاكس للضوء و يتلاشى شكله أمام حائط من النور، يعبّر فيها رامبرانت عن المجهول وعدم تأكيد ملامح المسيح.

 رؤية خاصة للمسيح

  المسار الكروتولوجي الذي  يعتمده زوار المتحف يسمح بجمع  تأثيرات الرسامين الآخرين مثل ليونار دي فينشي وروبينز على رامبرانت، وأيضاً التطوّر المتصاعد لرسم وجه المسيح، بالإضافة إلى إعادة إنتاج النموذج الأصلي التقليدي لمسيح بهيّ يدلّ جبينه العالي على الاستبصار كما في لوحة” يسوع وتلاميذه”.

 في لوحات أخرى يبدو رامبرانت أنه غيّر سريعاً طريقته في تقديم وجه المسيح وابتعد  عن الصورة الرائعة حيث  نعمة الجسد تستمرّ حتى في الموت، وفي لوحته “المسيح على الصليب”،  يقطع رامبرانت مع النموذج التقليدي ويقدم جسمأً متألماً ووجهاً  لا يبرز صفاء هادئاً إنما ألماً لا يحتمل.

   إلى جانب اللوحات نقوش مطبوعة على  الخشب لدورر ومانتينيا ولوكاس… الذين تأثر بهم رامبرانت في  رسمه المسيح. بفضل مجموعته من أعمال هؤلاء الرسامين الكبار ومن الرسوم  والسكتشات، يدرك الزائر  أن البحث عن شكل حقيقي للمسيح  كان، بالنسبة إليه اهتماماً فنياً وروحياً على السواء. هذا القسم يبيّن بالفعل مجموعة  من الدراسات تظهر الاحتمالات التي اكتشفها.

 في بحثه عن تمثيل صحيح  للمسيح، اكتشف رامبرانت المشاعر وردات الفعل التي  أثارها حضور المسيح  في محبيه مثل  الشكّ والعداء والإعجاب، أيضاً  لوجته الأشهر” المسيح مبشراً” تذكّر بتقنية وموهبة هذا الفنان في عكس تعقيدات المشاعر الإنسانية.

  أما  في لوحات  “وجه المسيح” السبعة، يذهب رامبرانت بعيداً في دراسة ملامح وجه المسيح من خلال التركيز على التعابير المترنحة بين التراخي والتأمل والهدوء والإرهاق، إنه مسيح إنساني   تبدو على وجهه علامات ثقل كبير عليه أن يتحمله.massih-wa-talamizih-3-3

   وسط مجموعة الوجوه، تبدو لوحة “تلميذي عماوس”، التي تعتبر خلاصة الأعمال والدراسات التي أنجزها رامبرانت. تبرز هذه اللوحة مواهب الفنان، في التركيز على النور، تفصيل التعابير، وضوح التأليف، التوهج النابع من المسيح، انفعال التلميذين عندما اكتشفا شخصية  المسيح.

  في لوحة  “إنزال المسيح عن الصليب”، تبرز سيطرة الفنان على الرسم والنقش إلى جانب كثافة التأليف وانعكاسات الضوء والظل  والدينامية الخارجة من الأجسام.

   زخرت لوحات بنماذج من الشخصيات في الكتاب المقدس من بينها : المسيح والمرأة الزانية، اللقاء مع مريم المجدلية، قيامة لعازر، المسيح المبشر والواعظ، المسيح على الصليب…  وفيها رسم رامبرانت المسيح يعاني الوحدة على الصليب  كأن النعمة هجرته. اختار الرسام أن يكتشف بنفسه معنى التخلي من خلال المواجهة الفردية، وهو ما كان يسمى في عصر رامبرانت عدم القدرة على الألم.

 غنى فاحش وفقر مدقع

رامبرانت فان راين، رسام هولندي  (1606- أمستردام 1669)، استقر في مدينة أمستردام منذ عام 1631. تميزت أعماله ولوحاته  بالقوة التعبيرية، بالإضافة إلى معرفته العلمية بنظريات الضوء والظلال، القيم الإنسانية النبيلة، وتأملاته الشخصية حول مصير الإنسان… كل هذه العوامل جعلته ضمن كبار أساتذة فن الرسم الغربي.

 كان له شأن كبير في مراجل معينة في حياته، واشتهر بطريقة الرشم بماء الذهب أيضاً. تأثر بالفنانين كارفاجيو وروبنز، لكنه استخدم تأثيرات الصوء ووضع الألوان بحرية ليبرر الحالة العاطفيه والنفسيه .tilmizay-emmaous4-4

 عالج مواضيعه  بأسلوب مسرحي انفعالي كما في لوحة “دورية الليل”، كذلك  ركزت لوحاته على الجمال الروحاني من خلال اختياره لأبطاله من الشخصيات الشعبية بدلا من النبلاء، ورسم  نفسه في لوحات تعبر عن شخصيته في مراحل حياته والتغيرات التي مرّ بها، وركز فيها على اللون الاصفر القاتم.  لم يقبل الهولنديون على اقتناء لوحاته الدينية لأنهم كانوا يفضلون المواضيع المستمدة من واقع حياتهم كالمناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة والحياة اليومية الأسرية.

 من بين أعماله الفنية المشهورة والمحفوظة في متحف ريكسموزيوم في أمستردام: “والدة رامبرانت” (1660)؛ “جولة في الليل” (1662)؛ “القديس بطرس” (1660)؛ “الخطيبة اليهودية”،  “عودة الإبن الضال”…

   تبلغ مجمل أعماله: 300 لوحة (غرافور)، 200 رسم، و650 لوحة، تتخذ من المتاحف مسكناً لها وتحمل في طياتها أسراراً حول الإنسان والألوهة التي حاول رامبرانت طوال حياته كشفها، وإيجاد أجوبة حول أسئلة راودته عن العلاقة بين المسيح والإنسان تحديداً، عن الجمال والقبح ومفهومهما، معتبراً أن الصدق قمة الجمال، والصورة التي تمثل القبح هي حقاً جميلة.

  أبى أن يضفي أشكالاً مثالية على الشخصيات  في لوحاته الدينية، وأرتاب في أن يكون العبرانيون الوارد ذكرهم في التوراة على مستوى جمال اليهود في أمستردام، فصورهم على هذا النسق، ومن ثم انبعثوا من عالم الأساطير أو التاريخ إلى الحياة.

 مع تقدمه في السن، ازداد  حب رامبرانت  للبسطاء من حوله، وابتعد عن الأشخاص الذين جردهم السعي وراء الكسب من الروح الإنسانية. وإذا كان ثمة فنانون، مثل روبنز، استوحوا مواضيعهم من أرباب الجمال أو السعداء أو الأقوياء وأصحاب السلطان، فإن رمبرانت كان يسخو بفنه الحنون على المنبوذين والمرضى والبؤساء، حتى المشوهين ذوي العاهات…wagh-al-massih5.-5jpg

   في البورتريه الذي رسم فيه وجهه وهو شيخ، بدت على ملامحه إمارات الخيبة والهزيمة، كأنه يواجه الحياة بمزيج من الشجاعة والاستسلام، وكان الوجه القصير السمين غير الحليق ساخراً وثمة نظرة قلقة حائرة تعتّم الوجه وتكسوه بالتجاعيد حول الأنف الضارب إلى الحمرة.  وقبيل وفاته رسم وجهه كأنما وجد الطمأنينة وهدوء البال في قبول قيود الحياة وحدودها ومرحها الساخر.

 كاد معاصرو رامبرانت  ألا يلحظوا وفاته. ولم يحلم أحد منهم قط بوضعه في مرتبة روبنز، أو حتى فانديك. كتب عنه النقاد في تلك الفترة أن ما كان يعوزه أساساً هو التعرّف إلى إيطاليا وغيرها من الأماكن التي تهيئ الفرص لدراسة نظريات الفن. كتب مؤرخ ألماني: “الفظاظة والتبلد والتجرد من التقوى تعبر دائماً عن نفسها في الألوان السمراء والرمادية، كما هي الحال مع رمبرانت”…

 إذا كان هدف الرسامين رسم ما تقع عليه أعينهم في وضح النهار أو في ضوء الشمس، فإن رمبرانت سعى إلى رسم أقذر الأشياء التي يراها وأبشعها، ولكن يوجين دو لاكروا الذي رافق التطورات الديمقراطية في فرنسا قال: “ربما يأتي يوم نجد فيه رمبرانت رساماً أعظم من رافاييل”.

رامبرانت في مكتبة الإسكندرية

 خمسة وثلاثون لوحة نادرة من أعمال رامبرانت زينت مكتبة الإسكندرية في معرض نظمته  السفارة الهولندية في القاهرة في 2012،  من بينها: “آلام المسيح”، “شمشون ودليلة”، “دورية  الليل” (1642)، تصوّر مجموعة من حرس المدينة في انتظار أمر التجمع، وقد اهتم رامبرانت بكل شخص في لوحته وكأنه بورتريه شخصي،  وتبرز فيها الألوان والحركة والإضاءة بتنوعات وتدرجات درامية شجية كأنها البطل الأساسي في اللوحة، “التاجر نيقولاس روتس”، “الشاعر جان كرول”، “امرأة شابة”، “رجل جالس على مقعد”،…

 يذكر أن رامبرانت، بعدما دخل عالم الشهرة، عاش في بذخ مادي بفضل بيع لوحاته بأسعار باهظة، وأصبح من أغنى أغنياء عصره واشترى أهم منزل في مدينته، وكان عبارة عن تحفة معمارية، لكن  بعد وفاة زوجته لم تسعفه هذه الأموال للاستمرار في الشهرة، ولا حتى موهبته التي بدأت تخبو، فقد قلّ إنتاجه بعد عام 1642، وانقطع عن الرسم وعاش في الظل وتراكمت عليه الديون وأمضى بقية حياته فقيرا كما ولد…

.

كلام الصور

1- إنزال المسيح عن الصليب

 2- المسيح على الصليب

 3- المسيح والتلاميذ

 4- تلميذا عماوس

 5- بورتريه للمسيح

اترك رد