تمثال “جئت لأخلص العالم” في دير الشيروبيم- صيدنايا  الأكبر في الشرق

 

  كلود أبو شقرا

 

على بعد 7 كلم من مدينة صيدنايا و35 كيلومترًا من دمشق، على قمة جبل الشيروبيم أو جبل الملائكة وعلى ارتفاع 2000 كم عن سطح البحر، يقع دير الشيروبيم (كلمة آرامية الأصل معناها الملائكة، وهي مركبة من الـ “شيرو” أي الملاك والـ “بيم” علامة الجمع) الذي يعود تاريخه إلى القرن الثالث ميلادي وكان مخصصًا للنساك والرهبان.

هذا الدير الشاهد على مسيرة الزمن بحلوها ومرها وعلى أحداث لم تنل من حضوره المشع وسط منطقة تحفل على مرّ تاريخها  بالاضطرابات والمحن، يحتضن تمثال “جئت لأخلص العالم” للسيد المسيح، وهو الأكبر في منطقتي الشرق الأوسط والعالم العربي (نصب في 14 تشرين الأول 2013).  يرمز إلى التآخي والسلام والمحبة في الشرق الأوسط ويقف حاميًا للمناطق التي يطل عليها في سوريا ولبنان.

حامي الشرق

 يبلغ ارتفاع  تمثال السيد المسيح (تنفيذ النحات الروسي الكسندر روكافيشنيكوف) 29 مترًا: 16مترًا ارتفاع القاعدة، و13  مترًا طول التمثال. يضمّ نصبين  لآدم وحواء لحظة طلب الغفران عن الخطيئة البشرية. بحسب صحيفة “آرافوت” الأرمنية تم تجميع أجزاء من التمثال ونحتها في أرمينيا. يعدّ ثاني أكبر تمثال في العالم، بعد تمثال المسيح الملك في ريو دي جانيرو (يبلغ ارتفاعه 38 مترًا).

يمكن مشاهدة التمثال من سهول القلمون السوري الممتدة حتى دمشق وغوطتها الشرقية جنوبًا، مدينة النبك على الطريق الدولي بين  دمشق ومدينة حمص ، كذلك يمكن رؤيته من جبل صنين ومنطقة بعلبك وصولا إلى جبل الشيخ عند المثلث السوري اللبناني مع الجولان المحتل أقصى جنوب غرب سوريا.

تعود فكرة تمثال السيد المسيح  إلى العام 2008،  بمبادرة من “صندوق التراث الروحي للحواري بولس”، وأشرفت “أكاديمية موسكو اللاهوتية في الثالوث- سرجيوس لافرا” على التنفيذ، بمباركة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، آنذاك، اغناطيوس الرابع  هزيم، وبطريرك موسكو وعموم روسيا السابق أليكسي الثاني،   من ثم يوحنا العاشر بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذكس، وأنجز التمثال في 2013.

لمناسبة إطلاق العمل في تنفيذ التمثال عام 2008، أكد البطريرك هزيم أن “العمل الذي يجري بمباركة البطريرك أليكسي الثاني سيكون لبنة أخرى في صرح العلاقات الروحية الموغلة في أعماق القرون بين كنيستينا”، وعبر عن الأمل في أن يصبح الدير قبلة للحجاج المسيحيين والمسلمين من أنحاء العالم.

وكان علماء الدين المسلمون في سورية رحبوا بفكرة نصب تمثال السيد المسيح على الأرض السورية، فيما أكد سمير شكيب الغضبان،  رئيس “صندوق التراث الروحي للحواري بولس”، بعد ارتفاع النصب، أن هذا الصرح هو  خطوة تصب في مساعي السلام في منطقة تعاني حالة حرب بشعة يعيش رحاها الشعب السوري.

دير الشاروبيم – صيدنايا البطريركيّ

 “دير مار شاروبين”، كما يسمّيه الأهالي المحلّيّون، مكرّس للملائكة الشاروبيم والسيرافيم، أعلى طبقات الملائكة الذين يتربّعون على عرش الطغمات السماويّة.

يعرّف الراهب نقولا (من دير مارجريوس والشيروبيم في صيدنايا البطريركي)، بالدير على النحو التالي:  “يضم الدير كنيسة وساحات كبيرة. قبل الحرب على سورية كان مؤلفا من قسمين أحدهما عبارة عن  23 مغارة محفورة كان الرهبان يتعبّدون فيها  بشكل مشترك أو إفرادي، إلى جانبها مدرج يعود إلى القرن الثالث الميلادي كان الرهبان يجتمعون فيه مع الأب الروحي لتلقي التعاليم الدينية، والقسم الآخر أبنية ضخمة بعضها للأطفال الأيتام والآخر  مخصص للمخيمات الصيفية السياحية والدينية”.

بحسب “موسوعة قنشرين للكنائس والأديرة”  فقد بُني هذا الدير في القرن الثالث الميلادي نتيجة اضطهاد المسيحيين من قبل الوثنيين وأصبح أنقاضاً في القرن السادس عشر، وأعيد بناؤه سنة 1982 في عهد البطريرك أغناطيوس الرابع، على يد الأم كاترين أبي حيدر رئيسة دير سيدة صيدنايا البطريركي التي وصفت الدير عندما زارته للمرة الأولى: “شاهدت جدران الدير قائمة من الحجر الكفري الكبير، والسقف من حجر بلاط. كما شاهدت صفًا من العواميد موشحة برسم الكرمة وعناقيد العنب، كما يوجد حجر كبير مرسوم عليه أربعة ملائكة وحجارة كبيرة عليها كتابة باللغة اليونانية. دلت التحريات التي تمت في حرم الدير على وجود معاصر للخمر محفورة في الصخر”.

في كتابه “مسالك الأبصار في جملة بلاد الشام” ذكر شهاب الدين العمري الدير ومما قال: ” هو دير مار شاربين ويُقصد للتنزه، من بناء الروم بالحجر الجليل الأبيض، وهو دير كبير، وفي ظاهره عين سارحة، وفيه كوة وطاقات تشرف على غوطة دمشق وما يليها من قبليها وشرقيها، وفيها ما يطل على بواطن ما وراء ثنية العقاب، ويمتد النظر من طاقاته الشمالية إلى ما أخذ شمالاً عن بعلبك”.

تشير الموسوعة إلى أن  البطريرك أغناطيوس الرابع ، رغبة منه ببعث الرهبنة في هذا الدير، وإعادتها إلى الذرى التي كانت تحتلها في القرون السابقة، وتوفير المقومات التي تؤهله لاحتضان رهبنة متكاملة تلبي توجهاته وتوجيهاته… أصدر قراراً يقضي بتسليم إدارة دير الشيروبيم إلى رهبنة دير القديس جاورجيوس البطريركي في صيدنايا، برئاسة الأرشمندريت  يوحنا التلي.

 

مركز ديني مهم

 بحسب كتاب “أديار الكرسي الأنطاكي” (منشورات جامعة البلمند، 2007)،  لم تكن ثمّة حياة رهبانيّة في دير الشاروبيم قبل العام 2003. ففي العام المذكور، وتحت وصاية دير القدّيس جاورجيوس صيدنايا ورعاية رئيسه الأب يوحنّا التلّي، قدِم أربعة مبتدئين إلى الدير برئاسة الأخ نكتاريوس دحدل. وفي فترة لا تتجاوز عقدًا من الزمن، تحوّل دير الشاروبيم إلى مركز دينيّ مهمّ، يستقطب الشباب الوافدين إليه من أنحاء سورية، ويستقبل مخيّماتهم الصيفيّة.

يروي التقليد المحلّيّ أنّ الدير تأسّس في القرن الخامس. على التلّة المجاورة، عدد من الكهوف يدخل إليها بواسطة الأدراج. ويُظنّ أنّها تعود إلى حقبة ما قبل التاريخ، ولكنّها على الأرجح استُعملت كمخبأ ومكان خلوة للمسيحيّين الأوائل. وكما في حالة دير القدّيس جاورجيوس الحميراء في سورية، وديرَي حمَطورة وكفتون في لبنان، فإنّ وجود الرهبان في هذه الكهوف أدّى إلى تأسيس الدير.

أما كنيسة الدير فتشبه كنائس جبل لبنان المبنيّة في العصر الوسيط. يتكوّن المدخل المسقوف من ثلاثة أعمدة يستند إليها سطح من الإسمنت، وسقف تبرز عليه عناصر زخرفيّة قديمة. أمّا باقي البناء فيتألّف من حجارة قديمة أصليّة رُصفت بانتظام.

القسم الداخليّ بسيط ومتماسك. أمّا الإيقونسطاس الحجريّ ذو الطراز الحديث، فرفعت عليه إيقونات معاصرة؛ والجدران مزيّنة جزئيًّا بمراحل من حياة يسوع.

خلف الكنيسة، شيّدت قبّة جرس على شكل برج مرتفع تتألّف من كتل مكعّبة الشكل، تتقلّص حجمًا كلّما صعِدَت لتكوّن هرمًا ممتدًّا نحو العُلى.  الجزء الأعلى تحفّ به القناطر من الجهات كافة. يقع هذا البرج في أعلى نقطة من الأراضي التابعة للدير ويمكن رؤيته من بعيد. وينتصب على مقربة منه صليبان حجريّان بحجمين مختلفين. وثمّة سلالم نُحتت في الصخر تؤدّي إلى هذه المعالم، تخوّل الزائر التمتّع بمشهد التلال والسهول.

في شمال الكنيسة، يقع  بناء مخصّص للزوار والحجّاج. الطابق الأرضيّ مبنيّ من الحجارة القديمة، والطوابق الثلاثة العليا تقابلها أروقة مزدانة بالقناطر. وكما في قبّة الجرس، فإنّ هذه الطوابق تتقلّص حجمًا كلّما ارتفع مستواها لتكوّن شكلاً هرميًّا. على مستوى الطابق الأرضي أقيمت قاعتان كبيرتان. أمّا الطوابق العليا، فتحتوي 22 غرفة نوم تغصّ بالضيوف، في فصل الصيف.

على الجانبين يقوم مبنيان شيّدا تبعًا للشكل الهرميّ ذاته. أحدهما يحتوي مكتبة وغرفًا مخصّصة للرهبان، والآخر يحتوي صوامع للرهبان. خلفهما بناء مؤلّف من طوابق عدّة يضم صوامع للرهبان وغرف استقبال ومنامة للضيوف.

 

قاهر الإرهاب

كان لدير الشيروبيم حصته من الحرب على سوريا، فقد استهدف بعشرات قذائف الهاون سقط بعضها داخل الدير وأدت إلى إلحاق أضرار مادية بأحد جدرانه، وحاولت مجموعات مسلحة تطلق على نفسها اسماء ألوية الفجر والقلمون وأحرار الشام وجبهة النصرة، دخول بلدة صيدنايا، للوصول الى قلب الدير والسيطرة عليه.

لتحقيق غايتها، تسللت المجموعات المسلحة بمحاذاة الدير في محاولة لمفاجأة حامية الدير، لكن الكمائن المنتشرة جعلتها تقع في حلقة دائرية من النيران، فأمطرت المجموعات المسلحة بلدة صيدنايا بقذائف الهاون في محاولة منها لمنع وصول الامدادت لحامية الدير.  إلا أن الهجوم ما لبث أن فشل بعدما تصدى له الجيش السوري وأهالي المنطقة، وبقي الدير صامدًا بإباء يكلله تمثال السيد المسيح وهو على استعداد لقهر كل معتدٍ… 

اترك رد