بقلم: الباحثة ضحى عبدالرؤوف المل
تحتفظ الصورة بملامح الزمن والمكان، وتفاصيل الأحداث المؤرشفة بصرياً بحيث تستطيع توثيق أجمل اللحظات وأسوأها مع الاحتفاظ بجمالية من نوع آخر. لأننا كلما اجتاحتنا الذاكرة نعود إلى ما احتفظنا به من صور. لتحيا الذاكرة من جديد، وتسترجع التفاصيل اللحظية الملتقطة بتقنيات عفوية أو مدروسة.
إلا أن لروحية الصورة معاني مضمونية وأسلوبية تدركها الحواس، من خلال الرؤية التوثيقية التي تهدف لها الصورة، وتمنح الإحساس بدفء الأزمنة والأمكنة التي تطورت، واحتفظت ببعض معالمها التصويرية البسيطة تعبيرياً، والمعقدة استراتيجياً وسياسياً، فتفاصيل الماضي تحملها الصورة، إما بأمانة إعلامية صادقة، وإما بتركيب لحظي يمنح التفاصيل المبطنة رؤية مقروءة مرئياً. لتوضيح ما هو مخفي عن الرأي العام أو بالعكس لإخفاء ما هو واضح للرأي العام .
تؤكد الصورة الفوتوغرافية أو التشكيلية على الاختلافات البيئية أو الاجتماعية، وعلى جمالية اللقطة المشهدية المؤطرة بموضوعية فكرية تحمل وجهة نظر محدودة أو غير محدودة. تبعاً للموضوع المطروح في الصورة المؤرشفة، والتي تبقى في ذاكرة الماضي، كوثيقة تاريخية قيمة وغنية بالمضامين التي ربما نجهل مضامينها في الحاضر. لأنها تظهر ما هو مطموس الملامح كالابنية والاحياء، والتراثيات والوجوه بمختلف مراحلها العمرية، وحتى المناسبات الدينية والسياسية، والتأبينية والحروب والمجازر والافراح، وما إلى ذلك من مناسبات مختلفة نسترجعها من خلال ذاكرة الصورة الماضية والحاضرة التي نحاكي من خلالها المستقبل، والنتائج الراسخة في ذاكرة البشرية المرئية فوتوغرافياً. إلا أنها لحظة فوتوغرافية التقطتها يد فنان يبحث عن المشهد الموضوعي وأبعاده الفكرية والفنية.
لحظات تستحق الحفظ في ذاكرة مرئية نستعيد من خلالها تفاصيل تندرج تحت تصنيفات مختلفة. تتميز بتصويرات مؤثرة ومحتويات تنعش العقل والعاطفة، وتدفع المتلقي إلى تحليل ما هو مقروء ذهنياً. مما يجعلنا نرى حقيقة الصورة من خلال محتوياتها، والفكرة الأساسية المسلط عليها الضوء من حيث الأبعاد والجمال، والعادات مع التفاصيل المرافقة لخبر ما، أراد المصور له التخليد ، كالمرأة البقاعية التي تقطف الثمار من شجرة معطاءة، وهي تتكىء على السلم الخشبي. مما يثير الحنين عند الرائي، ويحفظ اللحظة وجمالها لامرأة تهتم بثمارها داخل المشهد الريفي المتماسك فوتوغرافياً والمقترن بالجمال التصويري .
تحمل الصورة المصطلحات الثقافية المختلفة. لأننا نحتاجها في مختلف نواحي الحياة، كتوثيق بصري يختزل ألف كلمة ايحائية تتجسد في صورة تنشأ مقوماتها من جديد في كل عين تراها، وفي كل فكر يفك شيفرة رموزها أو يكتشف من خلالها الخطأ التاريخي أو التصحيح الزمني، لرؤية كانت مغلوطة في الماضي، وأصبحت مفهومة بشكلها الصحيح في الحاضر، فهل تستطيع الصورة الفوتوغرافية تصحيح المستقبل؟ أم أنها سلاح ذو حدين؟ أم هي تعبير يحتفظ بمكنون جوهري مع الزمن حيث تبقى المعالم والملامح كما هي، بينما تندثر في المستقبل وتصاب بانزلاقات رقمية تمس الأسس الحياتية قبل موتها النهائي على يد التكنولوجيا التي تضيف إلى الصورة تقنيات رقمية ذات تغيرات وتحولات في المفاهيم المعرفية والتجميلية، وكأن الصورة الفوتوغرافية الصادقة في الماضي ستختلف عن الرقمية في المستقبل. إلا أنها في كلتا الحالتين تحمل موضوعاً، وفكرة ورؤية تستطيع العين الفنية تحليلها وفهمها بوضوح معرفي وفني.
يشير بيير فالان إلى أنه “بدون ذاكرة لا وجود لثقافة وبدون ثقافة لا وجود لحضارة وبدون حضارة لا وجود لتاريخ أو لهوية فردية كانت أم جماعية”. فللصورة أبعادها المختلفة من حيث أهميتها في أرشفة الأحداث، وتحديد الزمن من خلال هوية المكان أو الشكل العام الذي تتخذه الصورة، فالمشهد الترميزي يندمج مع الدلالات التي تتبلور في صورة تخاطب الحس الوظيفي وتجلياته المحدودة . لتظهر الصورة كأنها مقالة مرئية تستطيع بتفاصيلها قلب المقاييس المتعلقة بموقف ما ، كالمذابح وجرائم الحرب. مما يمكنها من محاسبة تاريخية لما تحمله من وضوح في الحدث المرئي بوصفها منظورة، ومحفوظة في ذاكرة لا يمكن محوها، فهي تتواصل مع كل زمن بوصفها وثيقة مؤرشفة لا يمكن التلاعب بها حتى بتقنيات الملتميديا او غيرها من الوسائل الحديثة الآن، كمجموعة بنك الصور اللبناني التابعة لمجموعة متحف فرحات، والتي تسعى إلى الاحتفاظ بكل حدث خاطبته عين العدسة في مكان ما وزمان ما . لأنها التاريخ والذاكرة باعتبارها شهادة حق للإنسان في كل عصر وزمان ومكان، وحتى اللامكان حيث اللغة الافتراضية في زمن العولمة أو لغة الأفلام الوثائقية التي يتم حفظها في مواقع مختلفة كيوتيوب، وكصور متسلسلة ترافقها موسيقى تصويرية مؤثرة ، والتي باتت لغة مواقع تحفظ في ذاكرتها الكثير من التفاصيل التي يراد تخزينها . بوصفها تقنية سريعة الانتشار وتتخطى حدود الوطن العربي، لتتجه نحو الغرب بشتى الوسائل وحتى بمعارض الصور الفوتوغرافية التي تقام في كل حين.
يتوقف الزمن في الصورة عند لحظة ما، لتصبح فيما بعد الشاهد اليقيني لما حدث في الزمن الماضي، وهذا يساعد في تحليلات تقودنا إلى تلافي الأخطاء المستقبلية مع إمكانية حدوثها دون الانتباه، كما يحدث مع الرؤوساء، وفي الحروب والمناسبات والأراضي الفلسطينية المحتلة أو بالأحرى تلك الأماكن والأحياء الأثرية التي وضعت يدها عليها اسرائيل، وبدأت فيها بعملية بناء محاولة تغير هوية الأحياء الفلسطينية الأصيلة، فالقدرة على الاحتفاظ بمعالم الماضي في المستقبل هي امانة الشعوب، فأرشفة الصورة هي فعل ثقافي يمنح الأجيال المعرفة بتاريخنا العربي. لأنها تخاطب كل زمان بحقيقة حضارية سعى إليها الإنسان منذ العصور البدائية حيث بدأ بتسجيل الأحداث اليومية بالرسم على جدران الكهوف، لتحاكي فيما بعد التاريخ بل ، ويمكن الحكم من خلالها على الأخطاء التي وقعت في كل زمن.
تشهد الصورة على ثقافة البلدان ومعالمها وتواريخها، فهي ترسم ملامح كل زمن بوسائلها الفنية محافظة بذلك على المعنى الحركي للحظة الملتقطة ، كما في الصور القديمة لبيروت الموجودة في الموقع الإلكتروني للبنك اللبناني للصورة التابع لمتحف فرحات، فالأبنية القديمة وطراز السيارات الموحي بالزمن مع صور صخرة الروشة، والتغيرات البيولوجية التي تجعل الرائي يقارن من خلالها على تغيرات الزمن وتحولاته مع المحافظة على رؤية اختزالات الكثيرة التي طرأت في الحاضر، فاللغة الفوتوغرافية تخضع لمفاهيم فنية مختلفة ذات ارتدادات انعكاسية. لأنها ربما تكون حجة مضادة إما سلبية أو إيجابية. كما في صور المخيمات الفلسطينية، والموجودة أيضاً في موقع بنك الصور اللبناني التابع لمجموعة متحف فرحات حيث نرى بيوت التنك المقصوفة مع العجوز، وحالتها التي يرثى لها، وفي هذا إدانة للاحتلال الصهيوني واضطهاده الشعب الفلسطيني الذي تم تهجيره وملاحقته حتى إلى المخيمات في لبنان والدول الأخرى .
قتل وتدمير وكتابة على الجدران أرشفتها الصور بفنية صادقة محفوظة في ذاكرة صورة عربية، ففي بعض الصور نلمح العجوز الفلسطيني جالساً على كرسي من القش وعصاه في يده توحي بالإصرار على الوقوف مجدداً مع كتابات الغرافيتي القوية المعنى على الجدران، بالإضافة إلى الأسلاك الشائكة، والتعبيرات المحزنة على وجه امرأة ممنوعة من الانتقال إلى الضفة الأخرى مع الاحتفاظ بالكثير من الصور التي تظهر بؤس الحال والفقر، والموت، والمرض، والاستشهاد، وأطفال الحجارة، وما إلى ذلك من الصورة الكثيرة والمؤرشفة في موقع مجموعة بنك الصور اللبنانية .
تكتسح الصورة الفوتوغرافية إعلاميا مجالات واسعة لها أهميتها الخاصة في الماضي والحاضر . لأنها تخاطب الحواس بعقلانية واعية بوصفها لغة خطابية تدخل الذاكرة التاريخية من خلال صورة تحمل ملامحها قيمة الحدث أو الخبر أو حتى الموضوع ، والفكرة التي قد تكبر أو تصغر أو ترتد ، لتستعمل فيما بعد كشاهد على الفعل الزمني الذي يستمد المعرفة من الدلالات التي تهيمن على الصورة المقروءة، والتي تجعلنا نتوغل في الماضي، فنلمس الحقائق من خلال صورة تخرج من الذاكرة، ويتم توثيقها بمقالة أو نص أو فيلم وثائقي هو بمثابة شاهد على العصر، باعتباره المشهد المتوقف زمنيا عند نقطة الحدث، كما في صور ثورة لبنان عام 1958 ، ومجزرة صبرا وشاتيلا ، فما تحمله كل صورة هي بمثابة إحياء للحدث من جديد لما تحمله كل صورة من أحداث غائية وقوية بحضورها المتجدد في كل مرة تراها في عين أو يدركها العقل.
حين تبدأ البحث في ذاكرة الصوره تصاب بالدهشة من تأثيرات الوقائع المفرحة والمحزنة ، وقد تدمع الأعين وتبكي القلوب عند رؤية مجازر صيرا وشاتيلا عام 1982 بداية من التهجير إلى الدخان والنيران المشتعلة، إلى تشرد الأطفال والانساء، وحتى المظاهر المسلحة والانتهاكات الظاهرة في أكثر من صورة، فتتساءل وأنت في الحاضر هل يعيد الزمن العربي نفسه مع اختلاف في بعض التفاصيل؟ أم أنه مكتوب على الأمة العربية البؤس والحروب والمجازر؟ فهل لغة الصورة التي تحفظ الماضي في ذاكرتها هي الأقوى على جيل المستقبل الذي غابت عنه التعايش مع الحدث، فاستطاع التفاعل مع الحدث من خلال الصورة؟.
في صور الأرمن المأخوذة من أرشيف المصور ” كيفورك” تستريح قليلا عند اجتماعيات وعادات بعيداً عن الالم رغم ما أصاب الأرمن من قبل من حروب إبادة، ومن مجازر سابقة. إلا أن مجموعة البنك اللبناني للصور تركت لصور الأرمن المؤرشفة من قبل المصور الارمني ” كيفورك” لغة خاصة لها جمالياتها حيث التجمعات الأسرية، والأعراس، والمدارس، والأطفال، وطقوس دينية وما الى ذلك، مما يجعلك تتأمل ثقافة الأرمن في تلك الأزمنة مع الاحتفاظ بنماذج السيارات والأزياء التي كانت تتواجد في تلك الفترة المؤرشفة في ذاكرة الصورة الفوتوغرافية.
أسلوب تقني فوتوغرافي تحقق فيه الصورة أركان الجودة الفوتوغرافية من تكوين، واشباع، واضاءة، ومرونة، وتأطير، وتوازن، وبساطة واندماج، وما الى ذلك. مما يؤثر على قوة التأثر والتأثير، وجذب البصر نحو النقطة الاساسية للفكرة ، كما في صورة العروسين رغم التدمير الذي أصاب المحيط من حولهم، وهذا الأمل في الصورة هو الذي يعيد لنا الحوارات التأملية التي تدور في عقل الرائي للصور المؤرشفة، فهل سينسى العرب الحروب الصهيونية عليهم؟ والانتهاكات التي أصابت فلسطين؟ أم أن صور مجازر صبرا وشاتيلا وثورة لبنان ستحفظ في الذاكرة، لتصبح كارشيف له هوية خاصة هي بمثابة شهادة حق تجعل لأجيال المستقبل الاحتفاظ بحق العودة وتحقيق السلام العادل؟.
تحمل الصور في مجموعة بنك الصور اللبناني من مجموعة متحف فرحات ذاكرة لا يمكن محوها. لأنها تحاكي كل عين ترى، وكل عقل يدرك بتحليلاته ما ترافق كل صورة من حدث مرئي مؤثر . كما في صورة الجريح المصور الفوتوغرافي ” نبيه ناصر” المحمول على أيادي رفاقه بينما توقفت من خلفهم حركة الحياة اليومية، وفي هذا توضيح لما يتعرض له المصور الفوتوغرافي من قتل وسجن وانتهاك لحقوقه الإعلامية، فهل تنسى الشعوب العربية هذا؟.فهل الصورة هي تاريخ مرئي نستعيد من خلاله حق من حقوق جيل مضى ؟.ما من حدود للصورة الفوتوغرافية الشبيهة بوثيقة ننهل منها الحقائق ، ونقرأ من خلال تفاصيلها الفنية ما وراء الخبر. لأنها بمثابة خبر مؤجل لزمن يعاود تجدده. مما يدفع الفكر نحو أهمية الصورة الإعلامية ثقافياً وفنياً، ومدى أهميتها في أرشفة الحدث ومدى قدرتها على مخاطبة الحضارات وجيل المستقبل القادر على تحقيق التوازنات بوصفه المؤتمن على الذاكرة العربية .
*******
الصور من مجموعة متحف فرحات