من “ليالي قاووش” عبد الله شحاده 1962إلى “ليالي قاووش” اللّبنانيّين 2020

 

صدر عن منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي كتاب يحمل عنوان ”ليالي القاووش”؛ وهو قصة رواها الشاعر عبدالله شحاده خلال سجنه ظلماً يوم تعرّض لوشاية والتبس على المحقق العسكري بين اسم ” شحادة ” واسم ” سعادة ” فسجن في ” قاووش البريمو من صباح 2/1/1962 إلى مساء 17/1/1962. وقد نشرت هذه القصة ضمن المجموعة الثالثة في الأعمال الكاملة لشاعر الكورة الخضراء التي صدرت مؤخراً في الصيف الفائت.

استهلّت الكتاب رئيسة المنتدى ميراي شحاده الحداد بكلمة مؤثرة وتخلّلت الكتاب رسوم بريشة الفنّان التشكيلي خالد وجيه عيط، تعبّر عن حالة الشاعر في سجنه.

وقد توِّج الكتاب بالمقدمة الآتية بقلم د. مصطفى الحلوة (رئيس الاتّحاد الفلسفيّ العربيّ)، عنوانها اللافت: من “ليالي قاووش” عبد الله شحاده 1962إلى “ليالي قاووش” اللّبنانيّين 2020.

ميراي شحاده الحداد

 

كلمة رئيسة المنتدى

وجاء في كلمة رئيسة “منتدى شاعر الكورة الخضراء الثقافي” ميراي عبد الله شحاده:

ما أطولك يا درب الجلجلة في وطني المذبوح! تذوي أقاحي العمر وأنت سرمديّة تَخلُدين. تدوسين على مفارقك صَفوات الرّوح وتكلّلين بالأشواك هامات اللّبنانيّين!

في الأمس، كان أبي هذا “الطّائر السّجين” متبتّلًا بعزّة وإباء بين جدران قاووشه سنة 1962… أتراه اليوم، من عليائه، يرى ساحاتنا كيف تكتظّ بالأبرياء المصلوبين المَنفيّين في سراديب الظّلم وجحيم الثّعابين؟! كيف تُسحَق صخرةُ الحرّيّة كلّ يوم في أتون “عدالة زانية” تلتهم براءة الأطفال وأحلام الشّباب ووقار المسنّين؟!

كيف أنّ “صراخ الألم في مواكب الجلّادين” يتضاعف ويتضاعف، ونتانة زرائبنا تفوح أكثر وأكثر؟!

بين الأمس والغد، تاهت الدّرب بنا وتُهنا عن عرين إنسانيّتنا، بعضنا خرافٌ ورعاتنا ذئابٌ في أرائكهم أذناب أمّتهم، والشّرّ أن يحكمَ العقّالَ أشرارُ (المجموعة الكاملة، 1/ 30).

لكي تبقى أصداء حكاياك في “ليالي القاووش” مدوّية خالدة “كصومعة الحرّيّة في بلد العبوديّة”، آثرت يا أبي أن أُبصرَها النّور في حلّة خاصّة، خارج مجموعتك الكاملة، لعلّ، في لبناني، أنوار الحرّيّة ستفيض يومًا من عيون أطفال لم يولدوا بعد… فتكون هذه القصّة ثاني إصدارات منتدى شاعر الكورة الخضراء في سنة حالكة 2020، مكفهرّة بالأسقام والأوبئة والدّمار، أيّامها تشبه ليالي قاووشك العتيق!

د. مصطفى الحلوة

 

المقدّمة

وهنا المقدمة التي توَّج بها رئيس “الاتّحاد الفلسفيّ العربيّ” د. مصطفى الحلوة الكتاب:

عَبَرَتْ به إلى الشّمس، ميراي، فكانت “المجموعةُ الكاملة”، وراحت بيارقُ عبد الله شحاده تُرفرفُ خفّاقةً في الأرجاء، ونحن لها اليومَ من الشّاهدين!

من هذه المجموعة الكاملة في جزئها الثّالث (ص ص 197- 261) كانت “ليالي القاووش”.

هذه “اللّيالي” عبارةٌ عن مشهديّات من سيرة ذاتيّة، بل تجربةٌ مُرّةٌ، عاشها عبد الله شحاده، وراء قضبان السّجن، طوال خمسة عشر يومًا، جرّاء وشاية لئيمةٍ، من قِبل جهة سياسيّة، تُناصبه العداء، وذلك غداة الحركة الانقلابيّة الفاشلة، التي قام بها “الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ”، عشيّة رأس السّنة، من العام 1961/1962.

هذه التّجربة المضنية كانت شديدة الوقع على الشّاعر، فزُلزِلت نفسُهُ زلزالها، وأخرجت نفسُهُ أثقالها، وتفجَّر ما احتُبس فيها من مقذوفاتٍ بركانيّة، في وجه النّظام اللّبنانيّ الفاسد، وحكّامِهِ الظَلَمة المتربّعين على سُدّة دولة أمنيّةٍ مخابراتيّة، كان للمكتب الثّاني فيها جولاتٌ وصولات!

.. هي وشايةٌ دُبِّرت في ليلٍ حالكِ السّواد، كضمائر الواشين المأجورين المجرمين!

.. هي رسالةٌ من قِبل “السّياسة المحلّيّة الغاشمة”، التي وشت به، لتكبحَ أنفة حرّيّته، وتُذِلَّ عزّة نفسه، وتُحطّم شموخ كرامته (ليالي القاووش، ص 83).

.. وهي على غرار الوشايات والدّسائس التي نشهدها اليوم، حيث تُلفّق التّهم و”تُركّب” الملفّات لبعض الأحرار الأبرياء الذين يرفعون الصّوت في وجه السّلطة الجائرة، وقد شهدنا فصولًا من سعاياتٍ يقوم بها من اصطُلح على تسميتِهِ بـ”مواطن صالح!”.

وكان هان الأمر لو أنّ هذه الوشاية- الدّسيسة توقّفت عند حدّ معيّن، بل إنّ اليد المجرمة التي قادته إلى المعتقل، راحت تعمل بشتّى مبتكرات اللّؤم والدّناءة على إبقائه في ظلمات القاووش (راجع، ص 100).

مطالعات ناريّة

.. خمسة عشر يومًا في الأسر، كلّ يومٍ يعدِلُ دهرًا، ذلك أنّ النّفس، في شقاوةِ عيشها وفي هناءتِهِ، هي مقياسُ الزّمن!

هي مجموعةٌ من المطالعات، ما رصدناه في “اللّيالي”، تتّسم بجرأتها بل بناريّتها، لتغدُوَ بمنزلة “مانيفست ” (Manifeste)، يتكشّف عبره عبد الله شحاده الإنسان، وعبد الله شحاده المنتصر لقيم الحقّ والخير والجمال، وعبد الله شحاده المتصدّي لمفاسد الحكم السّياسيّ البوليسيّ، الذي لا يقيم وزنًا ولا اعتبارًا للإنسان.

الحدث، مُنطلقُهُ، الثّلاثاء 2/1/1962، أي بعد يومين من الحركة الانقلابيّة. يُريد عبد الله شحاده، في ظلّ حالة الطّوارئ المُعلنة، الاستحصال على تصريح من السّلطات العسكريّة في أميون- الكورة، للنّزول إلى مقرِّ عمله في وزارة التّربية (الأونسكو)، فيتمّ اعتقالهُ، بحجّة أنّ اسمه مدرجٌ على لائحة القوميّين السّوريّين الخطرين! “.. أنت موقوف- قالها رجل الأمن- هجم عليه يُفتِّشَهُ بغلظةٍ وفظاظة، يجرّه إلى القفص الحديديّ، ويُسمعه من بذاءتِهِ الجديد المبتكر!”، فكان ذلك أوّل الغيثِ في زمن اللّاوصل!

يرفع عبد الله الصّوت، يستصرخ العدالة، ويستنهض الحرّيّة ويُسائل الكرامة الإنسانيّة عن حقوق الإنسان، في بلد الإشعاع والنّور!.. ولكن على من تقرأ مزاميرك يا عبد الله، وصوتك، صوتُ الحقّ، يضيع في زوايا السّجون بين رَجْع السياط ووقع العصيّ وجلبةِ الأصوات ودمدمةِ الألفاظ النّابية!.. (ص 35). إنها اللّوحة الأولى، يأتينا بها عبد الله شحاده، والألم يعتصرُ فؤاده!

.. إلى اللّوحةِ الثّانية.. الصّعود إلى الشّاحنة المهترئة، للتّوجّه إلى المُعتقل (ثكنة بهجت غانم في القبّة- طرابلس).. وكان إحصاءٌ للموقوفين، فعدَّهم أحدُ الجنود عدّ الرّعاة للماشية!

.. يُحاول عبد الله عبثًا أن يشرح للضّابط النّقيب ظلامته، فاستكبر وأبى الاستماع إليه.. وإذْ يغدو المعتقلون/ الماشية على أبواب الثّكنة، فقد كان يُسمع صريفُ أسنان الجنود والمواكبين دمدمة شتائمهم في مسامع المعتقلين وأفئدتهم أشدّ وقعًا من رصاص هتشكيزات حقدهم ونقمتهم (راجع، ص 38).

.. عَبْرَ مشهدية ثالثة، يروح أديبنا إلى مناجاة بل إلى مطالعة عصماء، حول انتهاك حرّيّة الإنسان اللّبنانيّ، وعدم إعارة أهمّيّة للمشتغلين بالتّربية والتّعليم: “…أيضمُّ القاووش بين جدرانِهِ الشّاعر النّاسك البتول، نجّي الكوخ الأخضر، فتى الكورة الخضراء الذي غنّى لبنانَهُ الحبيب أجملَ قصائده، وأحبَّ قوافيه، وهامت الرّقّة الهيفاء بنفثاته العذارى، ونبراتِهِ المعطارة”.. فيا للهول!، “.. أيُساق إلى المعتقل المربّي اللّبنانيّ الذي وقف حياته على تعليم النّشء الجديد، وتربية الجيل الطّالع (..) وأذاب قلبه وروحه وعبقريّته في أداء رسالة التّربية الوطنيّة المثلى!” (راجع ص ص 40، 41).

.. مهلًا، عبد الله، فبضاعتك لا تعني- كما لا تعني اليوم- من تُخاطب، لا من قريب ولا من بعيد، بل هم لا يُقيمون للتّربية والتّعليم وزنًا، وهم عن ذلك غافلون بل مُتغافلون!

العدالة الزّانية

.. ويمضي أديبُنا في هذه المطالعة قُدُمًا، فيتساءل، بلسان كاهنٍ مُعتقل:”تُرى متى ينتفض الحقُّ مُستغضبًا (..) يستنطق العدالة الزّانية، التي ضاجعت رُسُلَ الدّسّ والوشاية والفجور، عمّا جنتهُ يداها الأثيمتان؟ ويضرب بالحديد على أيدي السّياسيّين الغَدَرة الذين باعوا أنفسهم وضمائرهم وأعراضهم في سوق النّخاسة، وفي معرض الشّرف المأجور، وعادوا أدراجهم يُتاجرون بلبنان وبأبناء لبنان الغُرّ الميامين” (راجع، ص 43).

كأنّنا، عبدَ الله، بما أوردته في هذه المطالعة منذ ستّين عامًا، “لا رِحنا ولا جينا!”، نكابد ما نكابد من طبقة سياسيّة، أبتُلي بها اللّبنانيّون، لم تكتف ببيع ضميرها، بل باعت الوطن، في أكبر منهبةٍ عرفها تاريخ لبنان، وذلك على مذبح شهواتها ومصالحها الدّنيئة، ولم تدع بابًا من أبواب المتاجرة بالشّعب إلّا ولجته، مراكمةً المال الحرام، على حساب هذا الشّعب الذي ما زال بعضُهُ، من أسفٍ، يتعلّق بأهدابها، ناشدًا من طريقها الخلاص!

عبدَ الله.. ما قُلتَهُ، مُناجاةً وخطابًا، يأخذنا إلى هذه المعادلة: لبنان 2020 المعتقل اليوم هو لبنان الذي عشته أنت مُعتقلًا بداية العام 1962. التّاريخ لا يُعيدُ نفسه لدينا، نحن اللّبنانيّين، بل له خاصّيةُ الامتداد، كنهرٍ مُتدفّقٍ، وليس من انقطاع!

.. وإذْ نأتي إلى ليالي الاعتقال ونهاراته، فحدِّث ولا حرج عن واقع السّجون المزري، بل عن زرائب أُعدّت للبشر، قد لا ترتضي الحيوانات العيش فيها. فقد “نام الجميع، كما تنام الماشية في حظيرة ضيّقة.. وأنا ساهرٌ في زاويتي، أتأمّل وأتألم وأفكِّر في هذا البلد المنكوب بأهله وحُكّامِهِ (مثلما تكونوا يُولَّ عليكم) [المنكوب] بأحزابه وزعمائه، بنوّابه وساسته، بطوائفِهِ وشيعِهِ. بلد موزاييك الأديان والعادات والتّقاليد والسّياسات الخرقاء” (ص 47).. كيف لأديبنا ولأقرانه المساجين أن يناموا، وليس لديهم فراشٌ أو غطاء “والزّمهرير في الخارج يعصفُ عصفًا جنونيًّا، فيتسلّل (إليهم) فحيحُهُ من ثقوب النّوافذ، يلسع أجساد(هم)، ويكوي وجو(ههم) بوخزاتِهِ القارصات” (ص 62).

هكذا غدا بلاطُ السّجن فراشَ شاعرنا، وسقفُ الباطون لحافَهُ، وحذاؤه وسادتَه، ولا بطانيّة تردّ عنه غائلة البرد القارص (راجع، ص 63).

.. وعن مشهديّة الجوع، بل إجاعة السّجناء، فقد كان الفطور، طوال المدّة التي قضاها شاعرنا في المعتقل قطعة خبز (ربع كعكة خبز جيش)، مدهونة من الخارج لبنة أو دبس خرنوب، بمقدار ما تضع الحسناء من الأحمر على شفتيها! (ص 51). أمّا عن وجبة الغداء (القروانة بلغة المساجين) فعبارة عن بازيلّا مسلوقة معها برغل مطبوخ مثل الصّريصيرة أو رزّ مفلفل، دقيقُ الحبّ صغيرُه.. والسَّلَطَة الدّائمة هي من نفايات الملفوف، والبندورة التي كانت تكبح جُماح الشّهيّة وتلجمها!” ( ص 52).

وتنكشف لدى عبد الله شحاده خلفيّةُ هذه الإجاعة (أو التّجويع)، فإذا هي عن سابق تصوّر وتصميم، تهدف “لذبح الإباء وإماتة الشّمم ودفن العزّة في بطون الجياع”.. هكذا، والقول له “ديست كرامةُ الإنسان، يا أخي الإنسان ، في بلد واضع شرعة حقوق الإنسان، وبتنا نتصوّر حقيقة أقوال هتلر بأنّنا، معشر أبناء العرب، في مراتب الحيوان أو دونه ” (ص 55).

.. وفي مسلسل الإذلال وأعراضه، حبسُ السّكائر عن المدخّنين، وهاكم ما رآه عبد الله، فشقّ عليه ما رأى:” وشدّ ما كانت دهشتي عندما رأيتُ، بأمّ العين، ربيبَ بيت كريم، وقد استبدّت به عادة التّدخين، يجمع نفايات السّواكير (الزّرازير) ليصنع منها سيكارة، طعمُها أطيب من نفس الرّبيع!” (ص73).

حفلات التّعذيب والجَلْد

.. وإذْ يعبُرُ بنا عبد الله إلى حفلات التّعذيب والجَلْد، “.. فلا تمرّ ساعات حتّى يعود موكب الجلّادين، فيطرح الجثث المنهوكة أرضًا، وقد غسلتها الدّماء، ليستبدلها بفوج آخر. هكذا دواليك، فوج يروح وفوج يعود، حتى يطلع الفجر، ويلعن مآتي اللّيل البهيم ومآسيه التي لا تنسى” (ص 86).

.. حول فلسفة السّجْن، يمضي بنا عبد الله شحاده إلى مطالعة، ذات بُعد قيميّ أخلاقيّ، تشفُّ عن إنسانيّةٍ غامرة لديه. يأخذنا شاعرنا إلى مقارنةٍ رائيةٍ بين السَجْن، بمفهومه الكلاسيكيّ، وبين سَجْن النّفس، بين السّجين والسّجّان، وكلاهما ضحيّة مجتمعه الظّالم: “عالم السّجن يختلف عن عالم الحرّيّة، فلا أذان ولا نواقيس في ظلّه، ولا صلاة ولا قداديس، ولا اقتتال في سبيل عيسى أو محمّد، ولا شبع يعيش على صراخ الأكباد الجائعة، ولا جوع يستنفر طاقات الرّجولة إلى الثّورة. بل يقظةً مُستنيرة ونهضةٌ مثقلةٌ بالآمال (..) وفي عالم النّاس سجونٌ ومساجين. فالسّجين إنسانٌ كبّلته شرائع البشر الجائرة، والسّجّانُ إنسانٌ آخر، أقامته أنظمة النّاس وقوانينهم حارسًا على أخيه السّجين، فبات كلاهما سجينًا (..) وفي عالم النّاس من سجن نفسه عن المظالم والمفاسد والتّرّهات، وعن الكذب والدّجل والخداع، وعاش في سجنه الوادع عيشة الزّاهد في مُتزهدّه، والنّاسك البتول في صومعته النّائية. فما أجملنا وما أحبّنا، نسجنُ ذواتنا عن الدّعارة والفحشاء، وعن الشّهوة والشّحناء، وعن القتل والاغتياب، وعن التّعبُّد جهلًا للأنصاب، وعن الافتراء والنّميمة، وعن الحقد والضّغينة، وعن السّياسات الخرقاء والوشايات الحمقاء، لنحقّق في ذواتنا رسالة الإنسان الخيِّرة، نحو أخيه الإنسان، في هذا البلد الحبيب لبنان” (ص ص 90- 92).

.. في تثمين الحرّيّة وتمجيدها، وأنّ لا شيء يعدِلها ولا صوت يعلو صوتها، يُتحفنا عبد الله شحاده، بآيةٍ من عذب كلامه، تترجّح بين شعرٍ ونثر: “عشنا أُباةً من دون خبز وماء/ لكنّنا ما حيينا من دون حرّيّة/ فاسأل رعاكَ الهُدى أجيالنا والنّدى/ طبنا وطاب الرّدى لمّا دعانا الجهاد/ وعاش في القيد نسلُ العبيد” (ص ص 103، 104).

.. في لوحةٍ خلّاقةٍ هادفةٍ، يعبُرُ شاعرنا بها من “الشّكل” إلى دلالاتٍ أبعد غورًا، فها هو أمام المحكمة العسكريّة، في غرفة يتصدّرها، بعظمةٍ وغطرسةٍ، ذو نجمتين (ملازم أول)، يجلس عن يساره ذو سبعتين (رقيب).. وعن يمين السُّدّة المستطيلة، جلّادَان ضخما الجثّة، وعن شمالها مصارعان شرسا المظهر، يتطاير الشّرر من عيونهم المتوقّدة، (..) فحدّق إليَّ ذو النّجمتين تحديق النّسر الجائع إلى فريسته المستضعفة (راجع، ص ص 107، 108).

.. في مطالعة وداعيّة مُسهبة، فهو يُطْلِقُها في وجه المحقّق العسكريّ، ممثّل السّلطة ووكيلها، فإذا بنا أمام مضبطة اتّهام بوجه النّظام الجائر! هي مطالعةٌ حول انبعاث الأصنام في لبنان، بعد أن عفّى عليها الزّمن وصارت من محفوظات التّاريخ!

هي مطالعةٌ تدينُ بقوّةٍ الطّبقة الحاكمة والسّاسة المجرمين السّفّاحين، فلنُصغِ إلى شاعرنا:”.. لا بِدْعَ إذا ما أقدم قايين هذا الجيل على قتل أخيه، ولا غرابة إذا ما طاب لنيرون الكورة (؟!)جرّ المؤمنين بلبنان وطرحهم في مرابض الأسود الجائعة والذّئاب الخاطفة والثّعابين السّامّة. ومنذ هبوط نجيّ العزّة الإلهيّة من جبل سيناء، ودخول النّبيّ العربيّ الكعبة المحرّمة، تحطّمت الأصنام وزالت عبادةُ الأوثان، ولكنّها بُعثت حيّةً في لبنان، وفي أناس وسوسَ لهم الشّيطان، فكانوا أصنامه، وأوثان هذه الأمّة المنكوبة بساستها المجرمين وقادتها السّفّاحين (..) ذنبي الكبير وخطيئتي العظمى، أيّها المحقّق العسكريّ، أنّني ما عبدتُ العجل الذّهبيّ، وما سجدتُ للأصنام.(..) إنني أتحدّى هذه اللّوائح ومزوّريها والمؤمنين بها، فاجمعوني بكتبتها الوشاة وجهًا لوجه، لتُخرسهم حقيقتي النّاصعة، ولتُغمِد لبنانيّتي العصماء خنجرها في صدورهم العامرة بالدّسّ والخداع والنّميمة” ( ص ص : 115- 117).

.. 17/1/1962، تُؤذنُ مسرحيّة الاعتقال بانتهاء.. تُسدَلُ السّتارةُ على صوت المحقّق العسكريّ بالمناداة على المعتقل زخّور شحاده، وهو المرتحل عن الدّنيا منذ أربعين سنة!.. ويرين صمتٌ على المعتقلين!

.. إذا كانت لوائح الاعتقال على هذه الصّفة من اللّاصُدقيّة، إذْ يُفردُ حيِّزٌ للأموات، فلا عجبَ أن تكون لوائح السّلطة جميعها، لاسيّما لوائح الانتخابات النّيابيّة زاخرةً بالأموات من الدّفاتر العتيقة.. وساعتها لن نعجبَ حين يُنادى، إبّان التّحقيق الأوّليّ على عبد الله شحاده بديلًا من القياديّ القوميّ الرّاحل الدّكتور عبد الله سعاده أو العكس.. فكلّ الحروف الأبجديّة، في عُرف السّلطة الغاشمة و”الغشيمة”، قابلةٌ لتبادل الأدوار فيما بينها!

.. تُصبحون على وطنٍ، قد يُشيَّعُ عاجلًا إلى مثواهُ الأخير، إذا لم تحصل معجزةٌ، في عصرٍ لم يعُدْ للمعجزات فيه كبيرُ حضور!

اترك رد