جوزف أبي ضاهر
ابتعد وجه الياس الرحباني وراء الغيم الآتي بعد وجع غياب الذاكرة والكلام، وصحوة الحضور الطاغي في نغمٍ، في كلمةٍ، في ابتسامةٍ.
حطّ طائر الرحيل على كتفه، وما اهتم لشفاعة أهلٍ وأحبّة.
السكينة العميقة تخطت الشفاعات. سقطت زهرة الفرح. صار الصدى وحده: الصورة، الصوت، الابتسامة، وآخر المناداة… آخ.
مرّت أيام والرحيل ما زال يتجوّل بيننا، ينده أيامًا عبرت وما استطاعت أن تأخذ معها الحضور الطاغي لهذا المبدع الذي شغلته الحياة، وشغلها الفن، والعبقرية، وحبّ الوطن المتألقة صورته بكلّ ما أعطاه وزرعه ووزعه ووهبه.
شغل الوطن الياس الرحباني قدرما شغله جمال الفن الراقي، وعبره توّج أصواتًا ما زال بعضها يدلّ على الأصالة.
ترجع الذاكرة بي إلى آب 1979، وكانت أرض الوطن تشتعل نارًا من حقد جيران وأعداء (الاثنان معًا)… وكانت الناس تصرخ.
ارتفع صوت الياس الرحباني، وهو العارف أن الفن دافع محبّة يبلسم.
نبّه وعاتب وانتقد، وقال ما لم يقله غيره من الفنانين بمثل هذا الوضوح:
في رسالة (منه) إلى أميركا قال:
«ألم تقرأي فصل المحبّة في كتاب جبران لكي تعلمي أن شعاع الفرح في قلب من يحبّ، لا يعادله شعاع انفجارات جميع قناديل الأرض».
… وفي رسالة أخرى إلى أهله… إلى وطنه بعث روح أمل بمستقبل:
«لبنان سينهض من رماده، كصحوٍ يطل من وراء عاصفةٍ رعديّة… إنّه آتٍ من صراخ الأطفال… آتٍ من بكاء الأرامل… آتٍ من عزّة نفس وكرامة ورجال قدموا أنفسهم قربانًا ليحيا».
كان من الفنانين القلّة الذين ندهوا العالم للمساعدة، واستنهضوا أبناء بلدهم لزرع أملٍ تمسك به طيلة حياته، ومن خلال أعماله، لأجل ووطن سيولد جديدًا موفور العزّة والكرامة، مذكرًا بأمجاد ماضٍ عريق لأهل صيدون وبيروت وجبيل حيث الشرائع والأبجدية والفكر والتصميم والصمود العظيم.
الياس الرحباني يغادر ترابه تاركًا لنا إرثًا حضاريًا عريقًا ومجيدًا في: الكلمة والنغم والعمل والرؤى… ووصيّة للحياة:
«حبّة القمح لا تقتل، بل تهب ذاتها للآخرين».
josephabidaher1@hotmail.com
***
(*) ليبانون تابلويد