مهداة إليها. ومَن هي تلك المرأة؟
أتكون واقعاً أم حلماً في خيال شاعر، طال به المقام في سنة كأداء، عصيبة، مريرة على البشريّة، كما على الوطن، حيث الشاعر يسكن، وليس بمنأى عن قساوتها وبطشها؟
شاعر يخبر نفسه لنفسه، وهنا الموضوع المرسَل إليه. امرأة هي ذاته، وعلى الرغم من فداحة الواقع، ومشهديّة المرض والوباء، فإن ألفاظاً مثل: كأس، تذوب، كلحظة سكّر، كبسمة سكّر… إنّما تخفف من وطأة القدر. فكأنّ الشاعر يتحامل على جراح اليوم، ليمضي إلى الغد بفرح وتفاؤل. وإذا كانت وظيفة الشاعر أن يغنّي فقط، فالأفضل أن يتقاعد عن الغناء، أما إذا كانت رسالته أن يغيّر في الفكر والحضارة وفي الحقيقة نفسها، فليغنّ ما طاب له الشجن، وما طالت به سكرة الحبّ!
لماذا اتّصل شاعرنا المغرم؟
لأنّه يخاف من الفراق، وكأنّ المحبوبة والحبيبة تريد أن تقفل بابها. بيد أنّ الشاعر يفتح من خلال رسالته إليها باباً للفلسفة والتعمّق الفكري: “أفي الغيب يبكي المكان؟ وفي الشيب يشكي الزمان… وبين استواء وقطب الجفون، أيسكر ناي الشفاه؟”… لغة إعجازيّة لا يكتبها إلاّ شاعر شاعر… لا يريد أن يغادر حبيبته ولا زمانها، فكأنّ روحه ارتبطت بروحها. فلا تبكِ أيها المكان، ولا تشتكِ أيها الزمان مهما طال بك السفر، وليظلّ ناي الشفاه يعزف للحب واللقاء العذب، في سهرة هي بين سنة وسنة، هي العيد والتجدّد.
ألا رفقاً بنا أيّها الشاعر الجميل. رفقاً بأرواحنا المعذّبة في أتون الحبّ. وأنت ترش الملح على جراحنا، فتستفيق وتلتهب، وكم هو رائع أن تلتهب! فالحبّ إن لم يكن تناقضاً بين الحزن والفرح، وبين الشوق واللقاء، بين السهر ولذّة الضوء، فهو رحلة في سراب، وقدرُه الانتهاء والتبدّد. وإخالك ذلك النافخ بالقصب في قصيدة جبران “المواكب”، ونغمة الناي المتواصلة هي نغمة الخلود… وتبقى بعد أن يفنى الوجود.
لماذا اتّصلتَ بها؟ لأنّ قلبك محبّ ورقيق، ولأنّ في عينيك توقاً هو النور. ولون عينيك هو الحبر الذي منه تشعّ القصيدة… ومَن كان في وفائك، فإنّ حبّه يكون فعلاً متواصلاً، لا نهاية له. فالعشّاق يعيشون في لهيب الحبّ الذي لا ينطفئ، بل يتوالد حتى يصير مدناً وقبائل.
هذا الحبّ يحيا فيك، وفيها، وفينا أيضاً، على الرغم من المأساة التي تحيط بنا، ونحن نغطّيها بألف قناع وقناع، ونتنكّر لكي لا يرانا شبح ثقيل، يتنقل في الدروب… وسيأتي يوم نرمي فيه بالأقنعة إلى الأرض، ونطارد عدوّنا اللدود في الشوارع والحارات، ونجبره على التنكّر هو أيضاً، فكم من ثأر بيننا! لكنّنا بالحبّ وحده نثأر وننتصر.
***
(*) جميل الدويهي: مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني 2021.